3

باهتمام الأم وتشجيع الأب والاخوة، عادت ماري إلى طبيعتها مجددا وتابعت دراستها من جديد.

ومرت الأيام بسرعة، وكأنها تركض، وماري تدرس وتحلم بمرتبة ممتازة؛ لتكون عند حسن ظن أهلها، وخاصة ساهر الذي كان يثق بتحصيلها ويشجعها.

فقال ساهرلماري: أنا أتحدى رفاقي بك، وهم يتحدونني بأخوتهم وبناتهم ، وأنا مدرك بأنك ستنتصرين عليهم جميعا.
هنا ماري تبتسم وتشعر أنها تحلق في السماء، فثقة أخيها لا تعوض.

وبعد قرابة الشهر تقدمت ماري للامتحان وكانت قلقة جدا، وكم كانت تخشى أن تتغلب عليها عزة و أحمد.

وبالفعل أصدرت النتائج، وكانت الصاعقة لروح ماري، فقد حصلت على المرتبة الثالثة، رغم أن مجموعها كان ممتازا إلا أن أسعد حقق المرتبة الأولى على القرية ثم عزة ثم ماري تباعا.

وعندما وصلها الخبر أغمي عليها وأسعفت إلى المشفى ولم يكن وضعها جيدا أبدا.

فتوسلت الأم للطبيب وقالت له: أرجوك أيها الطبيب طمئني عنها.

فأكد الأب سؤالها وروحه تعتصر: أجل أجل أرجوك كيف حالها.

الطبيب: لا تقلقوا عليها إنها بحالة جيدة.

وعند الباب كان ساهر يشعر بتأنيب الضمير لأنه يشعر أن سبب انهيارها هو شعورها بتخييب الظن تجاهه، لم يكن عليه أن يبالغ إلى ذلك الحد في تحميلها المسؤولية.

بدلا من أن تفرح العائلة بما أنجزته ماري من تفوق يرفع الرأس، فهم الآن في المشفى ينتظرون الاطمئنان على ماري ابنتهم الفتاة الخجولة الحساسة والطموحة.

وفي البيت كان باسم الصلب يشعر بضغط شديد على صدره، فهو قلق على أخته وعليه أن يهتم بأخواته في غياب والديه، أما محمد فلم يسمع بعد لأنه كان في وظيفته ولم يرجع بعد وبقية الإخوة كانوا صغارا لا يكترثون كثيرا فهم لا زالوا أطفالا.

وبعد ساعات من بقاء الفتاة في المشفى، استيقظت ووجدت الجميع حولها وبصوت مخنوق محرج ودموعها تنزل على خدها.

قالت: أسفة خيبت ظنكم بي.

ركض ساهر، واتجه إليها وأمسك بيدها وقبلها عليها ومسح دمعها بيديه، ثم قال: لا تقولي هذا حبيبتي لقد أبليت بلاء حسنا.

الأم: هل نسيت الظروف التي مررنا بها، أحمد الله على أنك لم تفقدي عقلك يومها فقد رأيت أختك تقتل نفسها أمام عينيك، أنت بطلتي وأنا فخورة بك.

نظرت ماري إلى أبيها الذي امتلأت عيناه بالدموع: لا تقلقيني عليك ثانية قد تقتليني يا غالية، فابتسمت له وقالت: أريد الخروج إلى البيت يا أبي، هيا بنا اشتقت أخي باسم، وبقية أخوتي.

استردت ثقتها بنفسها مجددا بسبب اهتمام أهلها بها وبعد تخريجها من المشفى وقبل عودتهم إلى البيت مروا بالسوق.

واشتروا الحلويات احتفالا بنجاحها ولخروجها سالمة من المشفى بخير.

كانت أم ساهر تحمد الله على كل حال وترجوه أن يلطف بأسرتها، وأبو ساهر كان ينظر بكل حنان إلى ماري ويحمد الله بأنها تعافت وعادت لهم بخير.

لقد كانت ماري تنظر في عيني وملامح وجه أبيها المجعد، وترى فيها كل حنان وحب فقالت له في داخلها: أحبك يا أبي أحبك جدا وأحبك يا أمي أحبك كثيرا.

وبعد وصولها إلى البيت، التم الإخوة والأقارب مهنئين لها تهنئة مضاعفة، وقد تفاجأت ماري أن أحد المهنئين الواصلين هو معلمتها هناء.
لم تدرك كيف خرج الكلام من ثغرها: المعلمة هناء هنا!

فوزعت الأم الحلويات والسكاكر على الجميع

وهنأتها هناء قائلة: ألف مبروك يا بطلة والحمد لله عالسلامة، أقلقتني عليك لقد حضرت فور سماعي بعودتك بخير يا ماري.

شعرت ماري بالخجل فهي لم ترها منذ سنوات، وقالت بصوت يكاد يخرج: شكرا أنستي بارك الله فيك.

هناء: لا زلت كما عرفتك تلك الفتاة المتميزة والتي أراها أحدا عظيما في المستقبل.

الأم: أسمعت يا ماري،بارك الله في جهودك أيتها المعلمة الفاضلة.

جلس الناس قليلا ثم انصرفوا.

ونامت ماري مرتاحة جدا وفي تلك اللحظة نظر إليها عامر وهي نائمة بكل حزن، ثم اقترب وسأل أمه: أمي لماذا يحصل هذا معنا هل نحن أشخاص سيئون.

فقالت الأم: لا يا حبيبي إن امتحانات الله لنا هي رضا ورحمة إن شاء الله تعالى.

عامر: وكيف هذا؟

تدخل الأب بالرد: الإنسان الذي لا يمرض أو يتعرض لظروف هو إنسان ليس بمؤمن يا ولدي أما من يصاب بها فهو محل اختبار من الله سبحانه ليختير كمية إيماننا به.

الأم: ألف حمد وشكر لك يا الله.

فنظر عامر إليهما ثم نظر إلى السماء وشكر الله في داخله كثيرا. وشعر بشعورالرضا الذي تخلل داخله.

ومرت الأيام سريعا وماري المراهقة اللطيفة تكبر وتتعلق بوالديها وتشعر أكثر بالمسؤولية.

وانتقلت إلى المدينة المجاورة لتدرس المرحلة الثانوية هناك فقريتها ليس فيها مدرسة ثانوية.

فكانت تضطر لركوب الحافلة التي تنطلق باكرا باتجاه تلك المدينة، ثم تمشي مسافة ربع ساعة على الأقدام حتى تصل إلى مدرستها.

تغيرت عليها طبيعة المدرسين، فابن القرية لم يكن ذا شأن كبير في مدارس المدينة، ورغم كل هذا قررت أن تكون على قدر المسؤولية.

وقد لاحظ معلميها هذا إلا أن إهاناتهم وإهانات الرفيقات كانت قاسية جدا.

ورغم كل هذا وكل المواقف القاسية التي تعرضت لها إلا أنها تخطت مراحل دراستها ونجحت في الشهادة الثانوية بقوة.

وفرحت العائلة بها كثيرا وخاصة والديها وساهر الذي حقق رؤاه فيها.

وتقدمت للجامعة لتدرس الهندسة المعمارية، وترفع رأس أسرتها التي تشجعها دائما.

إلا أن سمة الخجل تلك لم تكن تتركها، وكانت سببا في تعريضها للكثير من المواقف الصعبة من قبل زملائها وسخرية البعض الأخر.

لكنها لم تكن تهتم كانت بل تحاول أن لا تهتم إلا لطموحها.

وتعرفت هناك في السكن الجامعي على رفاق ورفيقات كثر لكن أقربهم لها كانت هلا فتاة من الساحل لطيفة هادئة.

ومع الزمن تولدت بينهما علاقة فاقت الصداقة إلى الأخوة.

كانتا تترافقان إلى المحاضرات، وتتشاركان الغرفة نفسها مع بضعة طالبات جامعيات كل منهن من بلد.

لكن إحداهن وتدعى جيهان كانت تكره ماري وتتقصد الاساءة لها ولطبيعتها.

أما هلا فهي فتاة تتمتع بقوة الشخصية ترفض الخجل المغروس بماري، نصحتها كثيرا أن خجلها مقيد لها، وأن عليها التخلي عنه والدفاع عن نفسها لكن الخجل كان متمكنا منها بالفعل.

وفي أحد الأيام كانتا تمشيان باتجاه الجامعة فتعرض لهما بعض الشبان السيئين.

وحدث أحدهم ماري باستهزاء، وسخر من طبيعتها فتسمرت وأخذت تبكي.

الفتى السيء: انظروا إلى
مظهرها، إنها قروية حمقاء.

فضحك رفاقه عليها واستمروا في السخرية
هلا: أنتم قليلوا التهذيب.

الفتى: هههههه وهي غبية لا تتجرأ النظر في أعيننا.

بكت ماري، و أحست بالخوف، وهربت راكضة رغم كل صراخ هلا عليها بالتوقف فالتفتت إلى الفتى وقالت: أنت وغد وستعاقب.

قهقه الفتية بأصوات عالية، فكادت أن تنفجر هلا من تواترها.

واتجهت باتجاه غرفة السكن، لتلحق بماري وهي تحدث نفسها: يا إلهي ما هذه الطبيعة الغريبة التي تمتلكها تلك الفتاة؟! لم لاتدافع عن نفسها؟!.

وعندما وصلت إلى الغرفة، وجدت ماري قد استلقت على السرير، وتدعي أنها نائمة وجيهان تقوم بازعاجها والسخرية منها.

وماري الخجولة تضع رأسها تحت الغطاء ودموعها ملأت الوسادة.

قالت هلا: ألا تكفين يا جيهان إنها زميلتنا؟ ونحن كالأخوات في هذه الغرفة.

صرخت جيهان بتوحش: لا تتدخلي أنت.

هلا: إذا لم تخجلي، فقط اشعري بأن الله يراك.

تقوم جيهان بدفع هلا إلى الخلف وتحمل جزدان كتفها وتخرج خارج غرفتها.

فتقترب هلا التي امتلأ داخلها بالغضب من ضعف ماري، أخذت تكلمها: هيه ماري حبيبتي قومي وانظري في عيني.

لكن ماري كانت تأبى الرد، لتشعر هلا بالسأم فتتجه باتجاه سريرها وتغير ملابسها وتمسك كتابها وتسرق نظرة باتجاه ماري، ولكن عبثا، فقالت في نفسها: سأظل أحاول وأحاول حتى تتغير، ليس بكيفها أن تبقى عرضة للمجتمع الفاشل.

هنا وتحت الغطاء كانت دموع ماري تكاد تملأ المكان. وشعرت برغبة شديدة لرؤية أبيها وأمها واخوتها.

تخيلت أن أبوها معها يحدثها ويقول لها: ماري حبيبتي كوني شجاعة أنا أفهمك

وأمها تؤنبها: لم كل هذا الضعف؟، تغلبي عليه، لاترثي مني صفاتي لقد عانيت كثيرا من هذا المجتمع. ولكني تغلبت على ضعفي.

فقامت و غسلت وجهها لتجد أن هلا قد غطت بالنوم وكتابها قد سقط على الأرض فحملته ووضعته على الطاولة وانطلقت إلى السوق.

مشت ومشت ومشت، وهي تفكر بحالها هذا وتتساءل: لم لا تتغلب على ضعفها هذا؟ لماذا تهاب النظر في أعين الأخرين؟ تبا لهذا الخجل.

وعندما وصلت إلى مركز الهاتف أخرجت قطعة نقدية حجرية ووضعتها في مكانها واتصلت بأهلها.
وقالت لنفسها سأحاول أن أكون قوية وانزلا أبكي أبدا.

فردت عليها زوجة أخيها محمد واسمها ليال : ألو نعم من المتكلم.

ماري: هذه أنا ماري.

ليال: حبيبتي كيف حالك اشتقنا، لك.

ماري: وأنا أيضا اشتقت لكم كثيرا .

ولاتتمالك نفسها وتبدأ بالبكاء .

ليال: ماري ماري ،ردي علي هل من خطب؟
أخذت تبكي وتبكي، بطريقة شعرت ليال بأنها تحتاج أهلها وتشتاقهم كثيرا.

ثم ضبطت نفسها وقالت: أسفة ليال هل أستطيع التحدث إلى أمي و أبي
فقالت ليال: ياليتك عندهم.

ماري: عفوا!.

ليال: لقد ذهبوا لخطبة سوسن لأخيك باسم.

صعقت ماري وقالت: لا، لا مستحيل سوسن وباسم ماذا دهاكم؟.

ليال: الخيرة فيما يختار الله، اللهم وفق باسما في حياته الجديدة.

وأقفلت ولم تعرف لماذا أحست بخطر شديد، وخافت من القادم وقلقت بشدة على باسم، وتساءلت عن استعجال أهلها في تزويجه بهذه السرعة.

وبعد فترة عادت إلى بيت أهلها في اجازة الامتحان، التي ستستمر قرابة الشهر.

فهلل إخوتها بها وفرحوا بقدومها وعانقت أمها وأبوها وقالت: اشتقت لكأس المتة معكم في الصباح ولعطفكم واهتمامكم يا أحبتي.
نظرت يمنة وشمالا، ثم قالت: ولكن أين باسم؟ اشتقت له كثيرا.

الأم: لقد ذهب إلى عائلة خطيبته يستأذنهم باصطحابها على الغداء معنا.

الأب: لقد خطبها بشكل رسمي، وسجلها بشكل قانوني.

شعرت ماري بشعور غريب وضغط على جهة القلب؛ وكأنها تشعر بالخطر، فلاحظت الأم أن ابنتها قد شحبت فسألتها: ماذا بها حبيبتي؟ هل أنت بخير؟

فانتبهت إليها ماري وتبسمت ابتسامة كاذبة

وقالت: يبدو أني جائعة ياأمي اشتقت لطبخك يا غالية.

الام: أم ساهر هنا، وماري جائعة!! خسىء الجوع
ثم انطلقت إلى المطبخ لتصنع الطعام.

وفي تلك الأثناء،تحادثت مع صفاء ورنا وعهد كثيرا، وكأنهم لم يروا بعضهم من سنين.

وبعد الطعام تمدد الجميع للراحة ولكن ماري لاحظت أن عهد ليست على مايرام فسألتها: مابك يا أختي؟ ما الذي يشغل بالك؟.

عهد: عماد يريد التقدم لخطبتي وأعلم أن أهلي سيعترضون.

ماري: ماذا تقولين يا عهد؟! كيف تتزوجين في هذا السن المبكر؟ هل جننت لترك دراستك؟.

عهد: إنني أحبه.

نظرت ماري بعينيها فرأت ضياعا مطبقا على أختها
فقالت لها : أي حب هذا الذي يبعدك عن مستقبلك؟.

إلا أن عهد كانت غارقة في ذلك الحب الأحمق وطلبت من أختها أن تخبر أمها بمجيء عماد لخطبتها يوم الخميس.

قلقت ماري على أختها ولكن القرار ليس بيدها هي فهناك إخوة شبان أكبر منها والأولوية للأب والأم.

وفي حوالي الساعة الثالثة ظهرا، وصل باسم وبرفقته سوسن خطيبته وزوجته المستقبلية

صرخت رنا: أمي أمي لقد وصل باسم وسوسن.

ولما سمعت ماري اسم باسم ركضت إليه وحضنته وسلمت عليه.

وعندما ألقت التحية على سوسن تظاهرت الأخرى بالحب، لكن ماري شعرت بخبث في عينيها، وخافت من نظرتها.

ولكنها مضطرة لملاطفتها من اجل عيني باسم.

لم تكن ماري الخجولة والحساسة إلا شخصا مختلفا في داخلها لكنه يخشى الظهور إلى خارج داخلها الطيب.

وعندما حدثت أخيها باسم بأخبارها كانت تراقبها سوسن بطريقة السوء، وحتى باسم لم يكن نفسه فهناك شيء قد تغير في أسلوبه مع ماري.

فاعتذرت ماري و انصرفت إلى غرفتها بحجة الدراسة
وبعد اختفاءها عن الأعين كانت الأم في المطبخ تجهز طعام الغداء للخطيبين.

ورنا تدرس وعهد غارقة في أحلامها الوردية مع عماد.

اقتربت سوسن بجراة إلى باسم وقالت له: لماذا تصرفت أختك معي هكذا حبيبي.

تفاجأ باسم: ما الذي حدث انا لم أنتبه؟.

تظاهرت سوسن بالحزن و قالت له: لقد كانت ترمقني بنظرات لم تشعرني بالارتياح.

فقال لها باسم: استحالة علاقتي يماري فاقت كل العلاقات، فهي صديقتي وأختي وأقرب أخواتي إلى قلبي.أعلم أنكما ستصبحان صديقتين.

شعرت سوسن بالغيظ، وتظاهرت بالابتسامة،ويبدو أن ماري لم تدخل إلى قلبها البتة.

وبعد قليل دخلت الأم مؤهلة مسهلة بخطيبة ابنها، وتحمل طعام الغداء وطلبت منها أن لاتخجل فهي صاحبة بيت.

فتظاهرت سوسن بأنها الكنة المثالية، وقامت بسرعة لتحمل الطبق عن ام ساهر التي شعرت بالنشو لطيب كنتها الجديدة.

ودارت أحاديث ملاطفة عدة بين الكنة والحما، وبعدها طلبت الأم من باسم أن يأخذ خطيبته في نزهة وأن يشتري لها هدية.

وقالت لها: احسبي حسابك ستنامين هنا اليوم
سوسن : شكرا يا خالة لكن علي العودة إلى البيت، تعرفين نظرة الأهل إلى هذا الأمر.

أعجبت أم ساهر برزانة سوسن وقالت لها : باركك الله وزينك بعقلك يا بنتي.

ثم طلبت من باسم أن لا يتأخر في توصيل خطييته.

وأن يعود في المساء لأمر ضروري وتقدمت منه و همست له: يبدو أن عماد سيصبح صهرنا، وسيأتي مساء لزيارتنا.

قالت هذا الأم وحملت طبق الطعام، وانصرفت دون أن تشعر بنظرة الغيظ التي بدت على وجه سوسن، عندما رأتها تهمس لابنها.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي