الفصل الحادي عشر

الفصل الحادي عشر

(عودة نورسين)

جلس سامي أمام الدمية نورسين، وتوسل إليها بكل
معاني الحياة أن تعود، وقرأ عليها تعويذة (عودة
الروح) مرارا، وبالفعل بدأت نورسين تستجيب للحياة،
وأول عودة لها أن نادت على سامي وهو جالس على
مكتبه، وعندما التفت إليها وجدها تقف على رجليها، لم يصدق نفسه ولكنه ذهب إليها، وتحدث إليها
بهدوء:

سامي: أنت هنا نورسين.

نورسين: نعم أنا هنا بفضلك وبفضل ليلة.

سامي: ولكنك تأخرت كثيرا في الاستيقاظ.

نورسين: الروح استغرقت وقتا لتعود إلي.

سامي: كنت أنتظرك كل يوم منذ أن وهبتك ليله
روحها، ليله البائسة.

نورسين: هذا ما أخرني للأسف.

سامي: لا أفهمك نورسين.

نورسين: لأن ليلة كانت مريضة فقد وهبتني نصف روح.

سامي: لا أفهم.

نورسين: لن أستطيع أن أعود إلى الحياة إلا ليلا فقط.

سامي: نصف حياة.

نورسين: نعم لن أعيش إلا بالليل فقط.

سامي: وبالنهار.

نورسين: عند شروق الشمس سأعود دمية، وعندما يحل المساء أعود إلى الحياة.

سامي: ربما ذنب ليله.

نورسين: ربما لا أدري.

سامي: أريد أن أعيدها إلى الحياة ثانية.

نورسين: لابد أن نجد من تهبها الحياة.

سامي: كيف لنا أن نساعدها؟.

نورسين: سأهبها شيئا من روحي، سأقرأ عليها تعويذة (مشاركة الروح) و أنفخ فيها من أنفاسي.

سامي: وماذا سيحدث بعد؟.

نورسين: سوف تعود مثلي إلى الحياة ليلا فقط،
ستكون أيضا بنصف الحياة.

سامي: المهم أن تعود لأني أشعر بذنب عظيم
ناحيتها.

نورسين: إذن دعنا نحاول.

أحضر سامي الدمية ليله، ووضعها على كرسي، وأخذت نورسين تردد التعويذة من الكتاب السحري، ومع كل
مرة تردد فيها تنفخ بأنفاسها في فم ليله، إلى أن دبت الروح ثانية في جسد ليله، وعندما رأت نورسين، قالت
لها:

ليله: أنت من أعدتني إلى الحياة.

نورسين: وأنت أيضا من وهبتني روحك.

سامي احتضن الدميتين بذراعيه، وقال لهما:

سامي: وأنا أبوكما الروحي، سوف أعتني بكما.

نورسين: أنا أيضا مدينة لك، لقد وفيت بوعدك معي.

ليله: وأنا أيضا مدينة لك، لولاك لما عدت للحياة ثانية.

نورسين: إنها نصف حياة فقط.

ليله: لا يهم، كنت سأفقد حياتي كلها.

سامي: أريد منكما أن تساعداني.

نورسين: نساعدك.

ليله: نعم نساعدك.

سامي: يوجد في آخر الحي مقبرة لدفن الموتى،
سنذهب كل ليلة إلى هناك، نبحث عن أي صغيرة
حديثة الموت، ثم نأتي بها إلى هنا، سأحولها إلى
دمية.

نورسين وليله: ونحن سنهبها نصف حياة.

نورسين: ولكن يجب أن تكون من فصيلة الألبينو.

سامي: ألا يمكننا أن نتغاضى عن هذا الشرط.

نورسين: لا أدري، لم أجرب من قبل.

سامي: إذن علينا أن نجرب لكي نكتشف الأمر.

ليله: ولماذا علينا أن نفعل هذا؟. ألا يكيفك أنا
ونورسين فقط.

سامي: أرجوك ليله، افهميني، أريد أن أساعد هؤلاء
الفتيات البائسات، لقد فقدن حياتهن في سن صغيرة، وتم دفنهن بطريقة في البرد والعتمة والوحدة، أريد أن أنقذهن من بؤسهن..

ليله: معك حق.

سامي: إذن فلنبدأ، سنخرج ثلاثتنا للبحث في المقبرة
في نهاية الحي.

خرج الثلاثة في حذر، يسيرون ناحية المقبرة، وكان
الظلام يخيم على الشارع الطويل الممتد من بيت
سامي إلى مدخل المقابر، لا ينيره إلا ضوء القمر
الخافت.

يوجد على جانبي الشارع بعض البيوت القليلة التي
يسكنها البعض، كانت إحدى هذه البيوت قريبة من مدخل المقابر، وتطل منها على الشارع الطويل شرفة.

وقفت نيرة في شرفتها الواسعة المطلة على المقابر، تتأمل سكون المقابر، وتنظر إلى القمر المكتمل من
بعيد والذي أضاء جزءا لا بأس به من المقابر، لم تشعر نيرة بالخوف، فقد اعتادت الأمر.

ولكنها لاحظت حركت؛ فشعرت بقليل من الخوف،
ورأت من بعيد رجلا وفتاتين يتجهان ناحية مدخل
المقابر، فاستغربت الأمر، رأت أن الفتاتين تسيران
بخطى منتظمة، وبجانبهما يسير رجل، ولكن خطوته تختلف عن خطواتهما.

ظلت في الشرفة تراقب الأمر، إلى أن غاب الثلاثة في ظلمة المقابر، ظلت واقفة في الغرفة تنتظر
خروجهما.

دخل سامي ونورسين وليله يفتشون المقابر بحثا عن
جثة فتاة حديثة، كان يسير الثلاثة سويا، ويقرؤن
الأسماء المكتوبة على المقابر، وتاريخ الوفاة.

ولكنهم لم يصلوا إلى شيء، وفي أثناء بحثهم حضر
مجموعة من الناس لدفن جثة، فتوارى الثلاثة خلف
إحدى المقابر، يراقبون الأمر من بعيد.

قام الحضور بدفن فتاة صغيرة حديثة الموت في
المقبرة، وكتب أحدهم اسم الميتة على القبر وتاريخ
وفاتها، وقرأوا على روحها بعض الآيات القرآنية، ثم
قالوا لها: فلترقدي في سلام.

ذهب الجميع من أمام المقبرة، وظلت الأم المكلومة
تبكي بحرقة قبر ابنتها قائلة:

- لماذا تركتني يا ابنتي ورحلتي؟. لمن أعيش من
بعدك، أحس أن روحي ستخرج مني على فقراك يا
حبيبتي.

تأثر سامي كثيرا بكلمات الأم، ثم قال للفتاتين:

- أرأيتما حجم المأساة التي تعانيها الأم، تخيلا لو
أعدنا ابنتها للحياة، كيف سنرفع عنها حجم الألم
الذي تشعر به.

نورسين: ولكننا لسنا متأكدين.

سامي: علينا أن نحاول من أجل هذه الأم المكلومة.

نورسين: وإن لم يفلح الأمر.

سامي: سنعطيها جسد ابنتها في هيئة دمية لتعيش معه.

ليله: معنى هذا أنها ستعرف سرنا.

سامي: لن تعرف إلا ما أريد لها أن تعرفه، لا تقلقي.

تركت الأم مقبرة ابنتها، ووعدتها أن تزورها كل ليلة،
ولن تتركها لحالها في المقبرة، ثم خرجت من
المكان، فقد بدأ الجو يزداد برودة، واشتدت الريح في
المكان.

بعد أن تأكد سامي من ابتعاد الأم تماما عن المقبرة،
ذهب هو والفتاتان إلى مقبرة الطفلة المتوفاة، وأخذ
الثلاثة يزيلوا التراب عن الجثة إلى أن استطاعوا أن
يخرجوها من مقبرتها، كانت كطفلة نائمة، قال لهما سامي:

سامي: انظرا إلى برائتها، كأنها نائمة.

نورسين: جسدها مازال حيا.

ليله: يبدو أنها حديثة الوفاة.

نورسين: ولكنها ليست من فئة الألبينو.

ليله: فتاة عادية.

سامي: سنحاول معها.

وقبل أن يذهب الثلاثة، أعادوا التراب إلى مكانه،
وقاموا بتسويته حتى لا يلاحظ أحد أن هناك من قام
بنبش القبر والعبث فيه.

قام سامي بإزاحة التراب العالق بالفتاة حتى تخلص
منه تماما، ثم حمل الطفلة على كتفه وسار بها عائدا إلى البيت.

رأت نيرة سامي وهو يحمل الفتاة على كتفه، وتتبعه
الفتاتان اللاتان تتحركان حركات منتظمة، نظرت إلى
البنت النائمة على كتف سامي، ثم قالت في نفسها:

- من أين له بهذه الفتاة الصغيرة؟.

ثم وضعت يدها على شفتيها من هذه الفكرة التي
فكرت بها، وقالت في نفسها:

- أمعقول أن يكون قد أخرجها من القبر؟. ماذا
سيفعل بجثتها؟. وكيف تحتمل الفتاتان اللاتان معه
رؤية هذا المنظر؟.

إن الأمر يبدو عاديا بالنسبة لهما، ربما أنه طبيب يحتاج إلى الجثة من أجل بحث علمي يقوم، أو أنه لص من
لصوص المقابر، الذين يقومون بسرقة الجثث البشرية وبيعها لطلاب كلية الطب، أو ربما أنه ساحر يقوم
بعمل االأسحار على الجثث ثم يعيدها ثانية.

لابد وأن أكتشف الأمر، أيا كان الذي يفعله فهو يعد جريمة.

لمح سامي نيرة وهى تقف في الشرفة، ونظر لها نظرة مريبة، جعلها تخاف من هذه النظرة التي رمقها بها، وعرف سامي أن نيرة اكتشفت الأمر، وبمجرد أن وصل
إلى البيت، وضع الفتاة على الطاولة استعدادا
لتحويلها إلى دمية.

ولكنه قبل أي شيء، فتح الكتاب السحري، وقرأ
تعويذة (ذات الرداء الأسود) وأطلقها إلى المقابر وإلى الحي الذي يسكن فيه، وهى عبارة عن امرأة مخيفة، ترتدي زيا كاملا باللون الأسود، لا يظهر منها شيئا، حتى وجهها بلون السواد، تظهر ليلا فقط حتى تحمي
سامي والفتاتين عندما يذهبان مرة ثانية إلى المقابر.

نزلت نيرة إلى الشارع، أرادت أن تدخل إلى المقابر، ربما وجدت شيئا، ولكنها عندما وقفت عند مدخل المقابر،
أمام البوابة الرئيسة، ظهرت لها المرأة (ذات الرداء
الأسود) ففزعت من منظرها، وأخذت تصرخ إلى أن
سمعتها أختها، فنزلت إليها واحتضنتها، وقالت لها:

- ما بك نيرة؟.

أشارت نيرة ناحية باب المقابر، وأخبرت أختها:

- إنها هناك.

سألتها أختها:

- من هى؟.

قالت لها ومازلت ترتجف:

- المرأة ذات الرداء الأسود.

نظرت أختها هنا وهناك ثم قالت:

- لا أرى شيئا.

قالت نيرة:

- ولكني رأيتها منذ قليل.

ردت عليها أختها قائلة:

- ربما تكون حارسة المكان، دعينا نذهب من هنا.

ساعدتها أختها لتقف من على الأرض بعد أن سقطت نتيجة المفاجأة، جعلتها تستند عليها، وأخذتها
ورجعت بها إلى البيت.

وبعد أن هدأت قليلا سألتها صفاء:

- لماذا ذهبت إلى هناك في هذا الوقت؟.

ردت نيرة ومازالت تعاني اضطرابا في التنفس:

- لقد رأيت ثلاث أشخاص يخرجون من المقابر، منهم

رجل يحمل فتاة، أما البنتان فكانتا أشبه بالدمية
المتحركة.

قالت صفاء:

- رأيتهم من الشرفة أم في الشارع.

ردت عليها نيرة قائلة:

- من الشرفة، ولكنهم اختفيا في الضباب الذي يملأ
المكان.

شعرت صفاء بالخوف من كلام نيرة، وأحست قشعريرة تسري في جسدها، وظلت تنظر إلى نيرة لا تجد ما
تقوله، قاطعت نيرة صمتها قائلة:

- أعرف أنك لا تصدقينني.

ردت عليها صفاء بعينين حائرتين:

- أتقصدين أنهم أشباح يخرجون من المقابر؟.

قالت نيرة بخوف:

- لا أدري، الرجل كان يبدو طبيعيا، أما النتان فكانتا
مثل الشبح.

قالت صفاء بصوت خافت:

- أسمع عن مثل هذه الأمور، ظهور أشباح في المقابر، إني خائفة يا نيرة، ليتنا ما سكنا هنا.

سكتت نيرة قليلا ثم قالت:

- أستشعر أنهم ليسوا بأشباح.

سألتها صفاء وهى تنظر حولها خائفة:

- من هم إذن؟ وكيف لديهم الجرأة أن يدخلوا إلى هنا ليلا.

فكرت نيرة قليلا ثم قالت:

- اللصوص لا يخافون، لديهم قلب جامد، وهذا أنسب ميعاد للسرقة.

كانت عين صفاء تجول هنا وهناك عندما سألت نيرة
قائلة:

- والبنتان الصغيرتان لصتان أيضا.

ردت عليها نيرة قائلة:

- ربما يساعدان والديهما.

قالت صفاء في حيرة:

- في كلتا الحالتين هناك خطر، رجاء لا تهتمي لمثل هذه الأمور ثانية، حتى لا تتورطي في شيء قد يؤذيك.

سكتت نيرة ثم قالت:

- لدي فضول شديد لمعرفة الأمر.

قالت لها صفاء مستغربة:

- وما الفائدة من المعرفة؟ ربما فتحت على نفسك بابا خطرا.

نظرت نيرة إلى أختها صفاء، فوجدت شكلها يتغير،
ظهرت على يديها علامات جروح، وأيضا على وجهها
بعض التجاعيد، فسألتها نيرة:

- ما بك يا صفاء؟.

استغربت صفاء من سؤالها وردت عليها قائلة:

- ليس بي شيئا.

قالت لها صفاء:

- إن شيء ما يحدث معك، انظري إلى وجهك في
المرآة.

وقفت صفاء من على المقعد التي كانت تجلس عليه،
ثم نظرت في المرآة، وإذا بها تجد نفسها تتحول إلى شكل آخر، تظهر التجاعيد على وجهها، وتبيض
عيناها.

وبعد أن تشاهد صورتها في المرآة تنزعج بشدة، وتظل تصرخ، وتحاول نيرة أن تقترب منها لتهدأ، ولكنها،
تدفعها عنها، وتجري صفاء إلى غرفتها وتغلق على
نفسها من الداخل.

تلحق بها نيرة، وتطرق باب غرفتها قائلة:

- افتحي يا صفاء.

ولكن صفاء ما كانت تسمع صوت نيرة أختها، كانت
تسمع صوت امرأة عجوز تنادي عليها، فتفزع أكثر وترد عليها من خلف باب الغرفة:

صفاء: من أنت؟ وماذا تريدين مني؟.

نيرة(ولكن هناك امرأة عجوز تتلبس صوتها دون أن
تشعر نيرة): أنا نيرة أختك.

صفاء: لست نيرة، هذا ليس صوتك، ابعدي عني.

نيرة: أقسم لك أني نيرة.

صفاء: هناك صوت امرأة عجوز يتحدث عنك يا نيرة،
إنها لعنة الأشباح التي رأيتها تخرج من المقابر.

شعرت نيرة بالخوف الشديد، شعرت بأن أحد يقف
خلفها، وأن نفسا يتردد حولها، ثم فجأة ظهرت
أمامها المرأة ذات الرداء الأسود، ففزعت نيرة فزعا
شديد، وصرخت في وجه المرأة التي أخذت تقترب
منها حتى التصق وجهها في وجه نيرة.

فزعت صفاء لصراخ نيرة، واحتمت بسريرها، وغطت
وجهها بلحافها، أما نيرة فقد أسرعت إلى غرفتها،
وأغلقت الباب من الداخل، وجلست على سريرها تنظر
إلى الباب الذي كان يهتز بقوة.

كان سامي يشاهد الأحداث مرسومة ومتحركة على
صفحات الكتاب، فتعاطف قليلا مع الفتاة، وأوقف
إطلاق الأشباح، ولكنه قال في نفسه:

- إن عدت سأعود.

ثم قام إلى الفتاة الصغيرة التي حملها معه من
المقابر، ووضعها في المحلول الملحي الذي أعده
من قبل للحفاظ على الجثة كما هى.

ساعدته هذه المرة نورسين وليله، ظلتا تساعدان
سامي إلى أن بدأ نور الفجر في الظهور، عرفتا أن
ميعاد عودتهما إلى الموت قد حان.


جلست كل فتاة منهما على الكرسي المخصص لهما، ولفظتا آخر أنفاس لهما هذه الليلة، قام سامي بتقبيل كل فتاة في جبينها قائلا:

- فلترقدا في سلام أيتها الجميلتان، موعدا غدا مع
المساء.

شعر سامي بكآبة غير عادية بعد فراقهما، إنه يرى ما
يحدث هو منتهى الإعجاز، إعجاز لم يكن يتوقعه يوما، ولكنه إعجاز ناقص لم يرتق إلى مرتبة الكمال.

لم يقدر أن يرد الروح كاملة إلى الجسد، ربما لأن قدراته كبشر محدودة، أما اللامحدود فهو صفة الله.

ولكنه قرر أن يبحث في الكتاب السحري أكثر وأكثر،
وها هى نورسين سوف تفتح له صفحات أخرى في
الكتاب، ربما وجد فيها شيئا جوهريا يدله أكثر على
الحياة الكاملة، أن يرد لفتياته الروح، ويعدن ثانية إلى حياة كاملة وليست نصف حياة.

نام سامي على الكتاب السحري، فقد أرهقه التفكير
الشديد الذي فكر به، استنفذ طاقته الذهنية، كما
أنها كانت ليلة حافلة بالأحداث، استنفذت أيضا
طاقته الجسدية، فراح في نوم عميق، وحلم بعودة
الفتاة الصغير إلى الحياة، كانت مجرد رغبة مكبوتة
عبرت عن نفسها في شكل حلم، إذ كان يخشى سامي أن يفشل في استعادتها.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي