الفصل الثاني

انتفضت عندما سمعت والدها يصرخ عليها من خارج الغرفة.
والدها: مش هنتغدي ولا إيه؟ هفضل منتظر الهانم كتير.
أجابت مسرعة تمسح عينها وتبدل ملابسها: حاضر، حاضر جاية أهو بغير بس.

وبسرعة شديدة بدلت ملابسها واتجهت للمطبخ لتعد الغداء وتقوم بأمور المنزل قبل ان تبدأ مذاكراتها ومباشرة دروسها.

وفي مكان أخر عاد سامح الموظف بأحد المصالح الحكومية، والعاشق للروتين ومعوقاته، من عمله الى البيت، الموجود بإحدى المناطق الشعبية ذات الشوارع الضيقة بعض الشيء، رأي ابنته شيماء ذات الإحدى عشر عاماً تلعب من بعض الأطفال الاصغر منها سناً من بينهم محمود ذو السبعة اعوام، ابن أحد جيرانهم بنفس البناية، يمسك بمرفقها، وسمعه يحدثها ضاحكاً،
الطفل: مسكتك الدور عليكِ، إنتِ اللي فيها.
ارتسم على وجهها بسمة سعادة من الإستمتاع باللهو، تحولت إلى ذعر جلي حين سمعت صوت والدها ينادي عليها بغضب جم، أدركت هي بفطرتها الطفولية بما سيفعله بها عندما تصعد معه، سرعان ما تحول فكرها إلى يقين عندما اقترب منها وجذبها من رسغها بعنف، ضغط عليه بقوة، تحرك يسوقها خلفه مسرعا.
سألت بفزع: انا عملت إيه؟ يا بابا، والله قولت لماما قبل ما أنزل، حتي اسألها.
-: اخرسي خالص، مش عايز اسمع حسك لحد ما أطلع.

استمعت أختها نادية من شباك غرفتها المطل على الشارع لكلمات والدها الصارخة بالأسفل فأسرعت لوالدتها.
-: ماما بابا جيه تحت وبيزعق لشيماء وسحبها من ايدها.
ردت بضيق متأففة: يووه مش وقته خالص عملت إيه أختك، ربنا يستر، أبوكِ لما بيعمل كده مش بيرتاح غير لما يعجنها ضرب.

استمعوا لصوت شيماء الباكي: خلاص يا بابا، مش هعمل كدة تاني، خلاص والنبي.
دفعها أمامها بغضب جم، وتدخلت زوجته متسائلة.
-: في إيه؟ البت عملت ايه؟ بس فهمني.
سامح: في إنك مش واخدة بالك من عيالك يا هانم، دول بنات لازم تفتحي عينك عليهم كويس، مش تسبيها تلعب في الشارع ومع أولاد كمان.
الأم: مش أول مرة تلعب في الشارع، وأنت عارف، هيلعبوا فين يعني؟ في النادي! وبعدين ولاد ايه دول كلهم بنات، مفيش غير محمود، وعنده سبع سنين.
-: إتريقي يا هانم، ده اللي شاطرة فيه، لكن تهتمي بالبنات لأ، بناتك دول هيطلعوا بايظين وأنت السبب.
-: وعلى إيه؟ اهم عندك ربيهم لحد ما حد منهم يموت في إيدك، يا رب بس ترتاح وقتها.
ما زاده حديثها إلا غضبا، الذي سينصب بالكامل في تلك الطفلة المرتعدة من شدة الفزع، وبالفعل ما انهت والدتها جملتها، وجدت شيماء نفسها طائرة من قوة دفع والدها لها، بداخل غرفته دفعها ناحية الفراش، ومد يده أعلى خزانة ملابسه وأمسك بالعصى الخرزان التي اشتراها خصيصاً لتأديب ابنتيه، بدأت شيماء تترجاه.

-: خلاص يا بابا حرمت والله، مش هلعب معاه تاني، خلاص والنبي، مش هلعب، مش هلعب خالص.
التفت إليها بغضب: مش عايز أسمع صوت، فاهمة؟
أماءت بذعر وبدأ هو حفلة التعذيب، عَصا تليها ألأخرى، فتالية علي كفوفها تارة وإن تأخرت في فتح باطن كفها انهال علي قدمها أو كتفها، صرخاتها دوت في البيت ووصلت حتي الشارع ولازال مستمراً.
تأففت والدتها من داخل المطبخ، بعد مدة نالت فيها ابنتها الكثير والكثير من الضربات حتى تورمت كفوف يدها وكذلك تورم كل مكان حطت به تلك العصا الخرزان اللعينة، وتوالت صرخات شيماء الراجية والمتالمة، التي من الواضح انها ترضى والدها كثيراً، بل بدا إنه يستمتع بها، وأختها تقف بعيداً تشاهد بخوف وصل حد الهلع شحب وجهها لمجرد الاستماع لصوت اصطدام العصا بجسد شيماء، تتمني لو تستطيع الفرار من هذا المنزل المرعب بالنسبة لها وبالتأكيد لأختها أيضاً.
طال الوقت وبدأت الأم في الإعتراض من مكانها، داخل المطبخ.
-: كفاية، كفاية حرام عليك، كل يوم الجيران سامعين صوتنا، كفاية البت هتموت في إيدك.
كانت نادية تنظر إليها دون فهم، لماذا لاتذهب إليه وتحول بينمها، لما لا تعترض بجدية، وليس بادعاء، إن أرادت أن يكف فلتتحرك إذن وتحاول إيقافه.

استمر سامح حتي أخرج شحنة غضبه منها، أو من يومه المرهق، ربما من مديره الذي عنفه بالصباح لتأخره عن موعد الإمضاء، هو نفسه لا يعلم، ربما يحب الحالة نفسها، بالنهاية شيماء هي من تحملت اليوم، القي العصا على الفراش متحدثا بغضب.
-: على الله تتكرر تاني ولا أشوفك بتلعبي مع أي ولد سواء أصغر أو أكبر منك فاهمة.
أماءت بذعر وألم: حاضر.
صرخ بها: إمشي انجري ساعدي أمك في تحضير الأكل.
خرجت مسرعة تبكي وتنتحب، وخرج هو خلفها فنظر إلى أختها وتحدث بغضب.
-: ياترى الهانم التانية خلصت مذاكرة، ولا ضيعت اليوم.
أجابت سريعا: لا والله يا بابا ذاكرت، وما قومتش غير لما ماما طلبت حاجات أعملها، وهكمل بعد ما انضف المطبخ بعد الغدا.

رد بغضب كالمعتاد: هنشوف، واللي مش هتسمع الكلام هي حرة، "العصا لمن عصى".

ردت الأم بغضب: وأنت وراك حاجة غير كده، وتدي أوامر وبس كده.
اجاب بسخرية: وانت عايزاني أعمل إيه؟ ان شاء الله، اقوم انضف لك المطبخ، ما أنا طالع عيني في الشغل، وبديكي مصروف البيت كل أول شهر.
الأم: مصروف آه اللي بيخلص من يوم عشرة وبنقضي الشهر خناق.

-: شكلك كده، طالبة معاكي خناق، أنا هنام لحد الغدا ما يجهز وبعدين لو عايزة نكمل خناق عادي، أصل الجيران ما سمعوش كويس، فلازم نسمعهم على حق ربنا.

تركهم ودخل غرفتهما ينعم بالنوم والراحة، تاركاً وراءه ابنتان ترتعدان خوفاً، وزوجة ناقمة، بينما هو مرتاح البال بعد ان استطاع اخراج غضبه بإحداهن.

وبداخل غرفة الفتيات كانت شيماء تبكي بانهيار تنظر لكفوف يدها المحترقة من شدة الضرب وقد تورمت.
- آاااه آي
- قولت لك ماتنزليش قولتي ما انا قولت لماما وهي وافقت، إيه رايك بقي؟!
- المرة اللى فاتت ضربني عشان ما استأذنتش كنت فاكرة اني كدة مش هضرب.
- اديكِ شوفتي النتيجة اسمعي كلامي بعد كده أكبر منك بيوم يعرف عنك بسنة وبعدين مش وراكي مذاكرة هتخلصيها امتى؟
- ايدي واجعاني قوي.
- بطلي عياط وقومي خلى ايدك تحت الميه الباردة شوية وترتاحي.
استمعوا الى صوت والدتهم بالخارج تصيح عليهما.
-هنفضل نزغي ومش هتساعدوني ولا لازم أمسك عصاية أنا كمان، والله اصحيه وأنتم عارفين هدور فيكم ضرب وجربتم قبل كدة.
إنتفضت كلتاهما على كلماتها واسرعتا تنفذان كل يطلب منهما، حاولت شيماء تجاهل ألم يدها وألم الضربات المتفرقة على سائر جسدها حتى وضعوا الطعام على المنضدة وبقيت مهمة إيقاظ الأب لتناول الغداء، امرتهم والدتهم أن تذهب إحداهما لإيقاظه، مهمة كرهتها الفتاتان لما ينالهم من شتم وتحقير.
جلسوا على الغداء اخيرا لم يخلوا الكلمات المؤلمة ولا بأس من بعض التنمر على أي من الفتاتان، لذلك فهما يكرهان أي وقت يجتمعوا فيه، لذلك تنتهان من طعامها سريعًا جدا كل منهما تحجج بعمل تقوم به لتبتعد عن والديها، فيبقي الوالدان فقط، كل منهما يلقي الآخر بوابل من الإتهامات أو من النظرات النارية، لأسباب أقل ما يقال عنها تافهة.
بعد أن انتهت كل من شيماء ونادية من تنظيف المطبخ وغسل الاطباق وازالة مكان الطعام وترتيب اي شيء غير منظم بالمنزل تبدئا في استذكار دروسهما، وبالطبع بعد أن انتهيا والديها من الطعام انتقلا لمشاهدة التلفاز، وانتظرا ان تعد أحد الفتيات الشاي، وتقدمه لهما دون تأخير بالأكيد، وإلا سمعا ما يؤذي.

واخيرا انتهيا من اعمال المنزل وجلسا للمذاكرة حتي انتهي اليوم وبالصباح تذهبا للمدرسة حيث الحرية والكرامة دون إهانات بسبب أو بدون، وهناك معروفة شيماء بروحها المرحة محبوبة بين زميلاتها ومدرسيها بالرغم من ضعف مستواها التعليمي. أما نادية والتي تكبر شيماء بأربعة أعوام وهي الان بتعليمها الثانوي معروفة بالجدية ومستواها المرتفع كونها بفصل المتفوقين واستطاعت جذب انتباه مدرسيها وكذلك حبهم لها من خلال تفوقها الدراسي، لم تكن ترى أمامها سوى مستقبلها لتستطيع التحرر من تحكم والدها والاستقلال بنفسها بأسرع وقت.

في منطقة راقية بفيلا متوسطة يقف فتي بالخامسة عشر من عمره بممر الغرف بالدور العلوي ينظر لباب غرفة والديه المنغلق ويستمع لصراخ والدته وهي تحدث والده.

- ما تتكلمش على إنك حمل وديع إنت عارف بالظبط إيه اللي مضايقني وكل يوم والتاني نفس المشكلة.
- كويس انك عارفة اننا كل يوم في نفس المشكلة واللي بتتهربي من مسئوليتك عنها وترميها عليَّا، بس لا يا هانم، أنا بقي هقولها بصراحة المرة دي، إنت ما عندكيش ثقة في نفسك، انا يا هانم دكتور تجميل شاطر وتعاملي مع سيدات أمر طبيعي، ولو ما كانوش جمال ابقي فاشل لأنهم كلهم تعاملوا معايا وأنا برزت جمالهم وبروزته، وعملت عليه إسبوت كمان، وشغلى ده هو اللي سكنا في الڤيلا دي، ومعيشنا كده، وهو اللي بيسفرك في كل بلد شوية، مش هقولك ثقي فيَّا - ضحك باستخفاف- لأ ثقي في نفسك شوية أو اهتمي بابنك اللي بقي طولك بدل ما أنت ناسياه كده.
- إنت كده بترمي الكورة في ملعبي، ما أنت كمان مهمل في الولد، مش لوحدي يعني، أما الثقة فأنا واثقة في نفسي كويس قوي بس أنت اللي عينك زايغة مش هايملاها غير التراب، كذا مرة ادخل عليك غرفة الكشف الاقيك بتغازل الهانم، ده مرة كنت .. كنت بتقلعها هدومها.
أجاب ببجاحة مطلقة: إسمها بساعدها تفك هدومها عشان أكشف عليها والممرضة كانت أجازة، كانت عايزة تعمل تكبير ثدي تفتكري أكشف إزاي وأنت اقتحمتِ العيادة ومنها لغرفة الكشف، وأحسن لك ما تفكرنيش لأنك أحرجتني مع المريضة.
- مريضة!! هي مريضة فعلا بس مش في جسمها، مريضة في عقلها ورغبتها الحيوانية، - صرخت بعنف- انت ناسي كنتم إزاي إنتم ... كنتم.
هربت منها الكلمات من فرط توترها وعصبيتها فتحدث هو ببجاحة أكبر
-كملى سكتي ليه؟ مش لاقيه حاجة تقوليها أنا كنت في كامل لبسي واللي شوفيه كان كشف بس أنت اللي مريضة بعقلك، وأنا تحملت منك كتير بس فاض بيَّا فخلي بالك.
أكملت بشبه رجاء: طيب لو إنت شايف إني محتاجة أعمل تجميل عشان تشوفني حلوة زيهم اعملي بس بلاش، بلاش تخوني كدة، أنا تعبت نظرتك لهم غير نظرتك ليا لمعان عينك معاهم غير معايا، ساعات بحس إني مش عاجباك وإنك متضايق مني.
- أنا ماليش في كلام الأغاني ده ولو عايزة تعملي تجميل تمام بس تدفعي زيك زي أي مريضة business is business
أجابته باندهاش وتعجب: أدفع! أنا مراتك يعني أخد منك وبعدين اديهم لك تاني؟!
-وتاخديهم مني ليه؟ فقيرة! ما أنت معاكي فلوسك، ميراثك من والدك أو خدي من والدتك، أنا ما قولتش عايزك تتجملي ولا حاجة أنتِ اللي مش واثقة في نفسك.
-فريد أنت بتتكلم جد؟!
-ومن امتى الشغل فيه هزار، أكيد جد.

لم تكن الدهشة مرسومة على وجهها فقط بل على وجه ابنهم أيضًا، الذي استمع لحوارهم بحسرة على حاله، يُلقون بالتهم كل على الآخر دون أدنى إهتمام به، سيرته عابرة، لم يقف كلامهما عليه، لم يهتما به يومًا، يشعر باليُتم دومًا وكلاهما مازال على قيد الحياة. مرت به فترة لا يعلم طالت أم قصرت وبالنهاية عاد لغرفته مهزومًا يجر اذيال خيبة الأمل ككل مرة يتشاجرا بها ويسمعهما دوره دوما بحديثهما ثانوي لا يزيد عن جملة أو إثنين لكل منهما مجرد مادة يعاير كل منهما بها الآخر ليس إلا، وبالداخل أخذ هاتفه الجوال الذي لا يملكه الكثيرين فهو باهظ الثمن حتي الخط بمبلغ وقدره، فوالداه يجلبان له اشياء عدة، الثمين منهما والبسيط، ظنا منهما أن تلك الاشياء تغنيه عنهما، عن وجودهما بجواره، أو ترضيه؛ لغيابهما المستمر أو لمشاكلهما التي لا تنتهي، إتصل بجده الذي أجاب بمودّة وحب.
-ازيك يا رامي يا حبيب جدو عامل إيه؟
أجاب بتنْهِيده حارقه ثم تحدث: الحمد لله يا جدو وحشتني قوي، هتيجي امتى؟
أجابه بقلة حيلة: هما اتخانقوا تاني؟ مش عارف اقول لك إيه؟ سيبك منهم وركز في مذاكرتك عايزك أحسن دكتور في الدنيا بس دكتور بتخصص مفيدة مش تخصص يجيب فلوس وخلاص.
-ما بقتش عايز أكون دكتور يا جدي الأول كنت عايز ابقي زي بابا يمكن ياخد باله مني بس دلوقتي مش فارق معايا.
- لا يا حبيبي كده جدوا يزعل، أنا عايزك تاخد بالك من مستقبلك، وتبنيه صح أنا عايزك دكتور ناجح مش عشان أبوك لا عشان أنا عارف اهتمامك وحبك للطب عايزك تكون اللي حابه وعايزه؛ عشان تتفوق فيه وتكون شاطر ومميز ويكون تخصص نافع للناس مش اعتراض على خلقة ربنا والستات كلها تبقي شبه بعض من النفخ والشد. عارف لما أبوك اختار التخصص ده افتكرته هيهتم بالناس ضحايا الحوادث والعيوب الخلقية اللي عمليات التجميل أساساً عشانهم أو اهتمامه يكون بعمليات السمنة المفرطة وغيرها من العمليات المفيدة للإنسان لكن لقيته بيجري ورا المادة، حاولت كتير أفهمه إن الفلوس مهمة بس مش الأساس، بس لا حياة لمن تنادي ولا أهتم بكلامي.
-: جدو هو أنا ممكن أجي اقعد معاك شوية؟ حقيقي محتاجك معايا.
-: إنت عارف أبوك مش بيرضى عشان أمك بتركز معاه في كل خطوة وبتبقي فاضية له لكن وجودك مَعها بيمنعها عنه شوية، أصبر يا حبيبي وأنا أحاول اقنعه يسيبك تقعد عندي، المهم ركز في مذاكرتك ومستقبلك يا حبيبي، اوعدني.
- حاضر يا جدو أوعدك بكل طاقتي أركز في مذاكرتي واحط كل همي فيها.
أنهيا المكالمة والحزن رفيقهما، الجد يملؤه الحزن على زهرة لم تتفتح بعد وتحيطها العواصف تكاد تقتلعها أو تقطع اوراقها. والحفيد يجد الخذلان والاهمال فقط من والداه مع الكثير من النقود.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي