الفصل الثالث سموم

في مكان أخر بمنطقة متوسطة الحال يجلس شاب بالخامسة عشر من عمره، بغرفته المشتركة مع اخيه الاصغر هاني ذو الإحدى عشر عامًا والغير شقيق، فهم يتشاركان غرفة واحدة، لا يشعر كلاهما بالآخر، كلٍ في ملكوته، أراح ظهره على وِسادات الفراش خلفه ابتسم بسخرية، يتذكر مشادة حدثت بين والديه بالماضي، كان عمره آنذاك سبعة أعوام فقط، يتذكر تفاصيل ما حدث وكأنه يشاهد أحد الأفلام السينمائية، رسغ المشهد بذاكرته وحُفر، وسُجلت الكلمات والصرخات كما تسجل الأغاني على شرائط الكاسيت، يومها تعالا صوت شجار عنيف بين أبويه أمام شقة الأب، تحاول والدته استعادته إليها، إلتف حولهما سكان البناية جميعًا، يحاولون جاهدين تهدئة الأوضاع بينهما دون جدوى، وهو بينمها كل منهما يمسك بأحد ذراعيه يتجاذبونه، كل منهما يشده إليه وكانه دمية، تألم من ذراعيه وألمه جسده كما انهك قلبه الصغير من شدة الألم، والاشتياق لدفيء الأسرة، الذي طالما سمع عنه ولم يجده أو يستشعره يوما، يصرخ بينهما، ولكنهما لم يسمعاه من الأساس لم يسمعا سوي نفسيهما فقط، يصرخ ويصرخ ويتألم، يحاول المحيطين بهم تخليصه من قبضتيهما دون فائدة لا تزيده تلك المحاولات سوى ألماً، صرخت والدته
-: سيبه حرام عليك المفروض الولد في حضانتي وانت أخده تجَبْر وافترى.
-: والله لو تعرفي تاخديه بالبوليس ابقي خديه، لكن دلوقتي على جثتي، وامشي من هنا بدل ما أعمل لك محضر.
-: يا أخي إيه الجبروت ده؟! ما انا كل أما اجي اخده، الاقيك عارف ومستعد بتخبيه ما اعرفش مكانه، بالوسايط والمعارف بيجاملوك، روح يا شيخ منك لله.
-: انت مش اتجوزتي وخلفتي، يعني مش عايزاه، مش كل كام شهر تيجي تعملي دوشة وتلمي الناس، هيصدقوا كده إنك مغلوب على أمرك، بمزاجك رمتيه، بس مش بمزاجك تاخديه.
-: ما انت كمان اتجوزت وقبلي وخلفت بدل العيل اتنين، ما تفتكرش إنك أحسن مني ولا إنك خايف عليه، إنت عايز تذلني وتوجع قلبي، سيب الولد بقي دراعه هيتخلع في إيدك.
-: آه اتجوزت، واحدة عارفة قيمتي وقيمة البيت، وتحت طوعي مش زيك، ومفيش عيل وسيبي دراعه، وربنا لو حصل له حاجة هاعمل لك محضر في القسم، اللي كله معارفي وانت متأكدة من ده، فلمي نفسك وارجعي لبيتك وما تجيش هنا تاني مع السلامة.
تحدث أحد الجيران مُشفق على الطفل وما يحدث له من والديه:
- يا جماعة مش كده سيبوا الولد هتخلعوا دراعه، كل واحد فيكم مش شايف غير مشكلته مع الثاني، وهو اللي تعبان، إرحموا ضعفه بينكم مش كده.
أجاب الأب بتعجرف: ابني وأنا حُر فيه، ياريت محدش يتدخل، اللي شايف نفسه حمامة سلام يتِّكل من هنا، مش عايز تدخلات من حد.
عاد حسن إلى حاضره وازدادت بسمته الساخرة حدة، تذكر إنهما وقتها أرخياه قليلا لثوانيٍ بسيطة وما لبثا أن تضاعفت قوتهما، وتجاذباه بعنفٍ تزايد حدته مع حدة كلماتهما وصرخاتهما المتبادلة، إستمر الحال لفترة طويلة، وبالنهاية تفوق والده كالعادة، بمعارفه وجبروته، وعادت والدته تجر أذيال خيبتها للمرة التي لا تعلم عددها.
عاد يغوص بتلك الذكرى المريرة، فيومها بعد أن رحلت والدته، نَهره والده وأمره بالدخول لغرفته، التي يتشاركها مع أخيه سامر، الذي يصغره بأربعة أعوام، دخل الصغير حسن وهو يبكي وينتحب، يتمني أن ينعم بحُضن حنون من والديه، أو إحداهما، لا ضربات وصفعات زوجة أبيه، يتمني أن يستمع لكلمة طيبة تصحبها بسمة بشوشة مطمئنة، لا كلمات مسمومة وصرخات تزلزل كيانه وتؤلم روحه كما يتألم جسده الواهن الصغير، وما زاد عذابه دخول زوجة والده خلفه، تلقي عليه سمومها، تحدثه بصوت خافت حاد، كي لا تقع كلماتها على مسامع والده.
-: لو فاكر إنها عايزاك، تبقي عبيط دي حركات عشان تكسب تعاطف الناس، ويفتكروا إنها مغلوب على أمرها، أمك رمتك وشافت حياتها، بس أبوك هو اللي متمسك بِك، مش عارفة ليه؟ لو على الولد، الحمد لله إبني سامر حسه في الدنيا، هو ده ابنه الحقيقي، لكن إنت ولا لك لازمة، امتي تغور من حياتنا يا أخي؟ إلهي يا رب تمرض وتموت ونرتاح من همك وقرفك.
خرجت وتركته مذبوح، طفل بعمر الزهور يسقى العلقم، لا يشعر به كلا والديه، بل لا يشعر بمعاناته أحد، ليس له سوى الله، يشتكي إليه ضعفه، وقلة حيلته وهوانه على أقرب الأقربين. أفاق حسن من تلك الذكرى المشئومة كغيرها من الذكريات المتشابهة إلا حفنة صغيرة يتخللها بعض السعادة والفرح، ضحك ضحكة سخرية صغيرة، بالكاد ارتسمت على جانب فمه، عندما رأى زوج والدته يدخل الغرفة دون استئذان كعادته، يحتضن ويقبل ابنه الغافي، يعلم إنه يتعمد فعل ذلك لإغاظته، هو بالطبع يحب ابنه، لكنه بنفس الوقت يكره حسن ويشعر إنه دخيل عليهم كره عودته، لم يفصح عن ذلك بكلماته، التي أحيانا ما يصطنع بها ترحيبه بعودته، ولكنه دائما دوماً يفعل العكس، يلقي بعض الكلمات التي تبدوا عادية ولكن بباطنها معايرة وسموم، ولكثرة ما مر به حسن بالرغم من صغر سنه، إلا انه يعلم مراد الآخر، يدرك المعني الذي يرسله إليه زوج والدته، التي دائما تأخذ كلمات زوجها بحسن نية أو هكذا تبدوا، لكنه لم يثور أو يشكتي، إعتاد الصمت، وعندما كبر أصبح يقابل ما يزعجه من كلمات ببسمة برود يخفي خلفها ألمه وجراحه المتزايدة والملتهبة.


مر المساء بكل جراحه والامه وأتى صباح جديد لا يحمل من الأمل الكثير فالجميع موقن من استمرار حاله على ما هو عليه، ولكن هناك فقط من يرجوا من ربه ان يحدث أمرًا، ذهب الجميع إلى أعمالهم ومدارسهم وكذا جامعاتهم، وبكلية التجارة جامعة حلوان بأحدي مدرجات الفرقة الرابعة تجلس طيف بجانب صديقتها سهى تجمعان أدواتهما بعد انتهاء المحاضرة الاولى تحدثت سهى وهي تطالع طيف، حزينة من أجلها
سهى: أدي المحاضرة خلصت تعالي نبعد عن الزحمة ونتكلم وتحكي لي اللي حصل من بعد ما سيبتك.
نظرت لها طيف بأعين ذابلة، أماءت لها موافقة بصمت، تحركتا نحو المبني الإداري للكلية وبعد بضعة خطوات بداخله وقفت طيف تتلفت يمينًا ويسارًا وسطت تعجب صديقتها التي سالتها بدورها
- مالك يا بنتي؟ فيه إيه؟!
- مش عارفة حاسة.. حاسة.. ولا حاجة، تعالى نقعد على السلم هناك ونتكلم.
تحركتا ولا زاات طيف تلتفت حولها بين الحين والأخر حتى جلستا أعلى درجات السلم وكان بالقرب من موضعهما باب لإحدى المكاتب الادارية بالمبني. قصت طيف ما حدث بعربة المتروا ثم ما حدث لها من والدها فتحدثت سهى متعجبة.
- أنت لكِ الجنة يا بنتي باباكِ غريب جدًا أنا أول مرة أشوف كدة، تصرفاته غريبة جدًا.
ابتسمت طيف بتهكم وسخرية: لا الأصعب إنه قال أول حد يتقدم لي هيوافق عليه.
- أكيد بيقول كدة وخلاص.
ارتسمت بسمة استنكار صغيرة على جانب شفاهها وتحدثت بنبرة حزينة منكسره.
- كان نفسي أقول لك أكيد تهديد، لكن الحقيقة لما قال نفس الجملة لمنال فعلًا وافق من غير نقاش على أول حد تقدم لها وتمم الجوازة في ظرف ثلاث شهور، ومن يومها ما شوفنهاش ولا بنروح لها وجوزها بيجيبها كل فين وفين.
- مش عارفة أقول لك إيه؟ ربنا يصبرك، إن شاء الله هيجي يوم وترتاحي.
نظرت لها طيف نظرة تحمل الكثير من المعاني والمشاعر المختلطة وأجابت متسائلة
-: تفتكري؟
-: أكيد، إن شاء الله.
بالرغم من إنها أجابتها بالتأكيد إلا إنها بتلك اللحظة غير متأكدة، فالحياة التي تسمع عنها من صديقتها لم تكن تعلم إنها موجودة بأرض الواقع كانت تتوقع إنها قصص وحكايات من نسيج كتاب السينما والمسلسلات فقط، واكنها باتت الآن تراها واقعاً مريرًا تعيشه صديقتها.
في نفس الوقت بداخل غرفة المكتب كان يجلس بالداخل شاب يبدوا أنه اقترب من نهايات العقد الثالث من العمر (اواخر العشرينات) ذو ملامح هادئة على قدر جيد من الوسامة، متوسط القامة، ذو شعر أسود متوسط النعومة وشعيرات متوسطة الطول، ابتسم بهدوء مماثل له يبدوا أنه استمع لما روته طيف بالكامل فالحركة عند المباني الإدارية قليلة، والمكان يتسم بالهدوء بالإضافة الى الفراغ الذي يجعل الصوت أكثر حدة ووضوحًا. وكالعادة لم تنتبه أي منهما لذلك.
نظرت طيف إلى ساعة يدها وتحدثت
-: تأخرنا على المحاضرة.
-: طاب يلا وخدي كشكول المحاضرات بتاعي انا كتبت المحاضرة إمبارح اللي ما حضرتيهاش وهاتيه بكرة معاكي.

تحركتا للأسفل باتجاه المُدرج بينما خرج ذلك الشاب ينظر في أثرهما وعلى وجهه بسمة مبهمة تحمل الكثير من المعاني.
مر اليوم عادي على كلتاهما بين المحاضرات وحكايات إلى أن انتهى اليوم وذهبتا إلى محطة المترو متجهتين إلي بيتهما وعلى محطة القطار التفت طيف حولها كما فعلت بالجامعة فأثارت انتباه سهى وبشدة ولم تكتفي بتعقيب بسيط كالمرة السابقة، أما طيف فكانت بعالم أخر فبعد ان بحثت بناظريها في المكان وقع نظرها على ذلك الضابط من انقذها المرة السابقة حدثها بعينيه ان تتحرك قليلا باتجاه عربة السيدات فابتسمت شاكرة واخذت يد صديقتها وتحركت بهدوء وعينها ثابته عليه وما لبثت ان أتي القطار بالجهة الاخرى جب عنها رؤياه، كان ذلك بثوانيٍ بسيطة جدًا لدرجة إنها شعرت انها خيل لها ليس أكثر، فبعد ان مر القطار لم تجده فشردت للحظة، وبذلك الوقت كانت تحدثها سهى دون إجابة حتي انفعلت قليلاً.
-: لا ما هو مش كده؟
-: في إيه؟ بتقولي حاجة؟
-: لا كده كتير، كتير قوي، أنا قولت حاجات مش حاجة، يا تفهميني في إيه؟ يا إما والله ازعل منك بجد.
تنهدت بإرهاق: مش انا حكيت لك على اللي حصل امبارح في المترو بعد ما نزلتي.
-: أه وده علاقته إيه بحالتك دي؟
-: بصي من غير ما تتريقي، أنا كنت حاسة انه هنا، موجود يعني، مش عارفة، شوفته على الرصيف التاني، متهيألي شوفته، أو ممكن مش هو.
-: إنت اللي بيحصل لك من باباكي أثر عليكِ جامد، إيه اللي هيجيبه الكلية عندنا، ولو شوفتيه في المترو من شوية صدفة أو تهيأت زي ما بتقولي.
نظرت إليها طيف بشرود وتيه، ووصل القطار فانتظرتا حتى إستقر واقفاً ودخلتا عربته عربة السيدات بالطبع ومر باقي الوقت بين شرود طيف وبين محاولتها الخروج من تلك الحالة بالحديث مع صديقتها حتى وصلت بالنهاية الى بيتها ومقر عذابها وإهانتها.

وبمكان آخر ببيت سامح استيقظت الفتاتان مبكراً لتذهبا إلى مدرسيتهما واستيقظت معهما والدتهما تتعجلهما أحيانا تصرخ عليهما أخرى، حتي استيقظ سامح بالنهاية، فتحدث بغضب وصوت عالي:
- استغفر الله العظيم يعني أنا بستحمل النيلة المدير وقرفه في سبيل إني أنام كام دقيقة زيادة، بس إزاي تسبيني اتهنى بنومي لا لازم تقرفيني على الصبح وما أعرفش انامهم مرتاح، وإنت منك لها ساعتين قدام المراية انتم رايحين مدرسة ولا حفلة انجري منك لها على المدرسة.
أماءت الفتاتان بصمت وخوف واسرعتا تهربان من البيت وهم يستمعا إلى باقي حديث والديهما الصارخ المتبادل بالاتهامات. تنفست كلاهما الصعداء عندما ابتعدا عن محيط بيتهما ودخلتا إلى المدرسة، إنها الحرية.
مر اليوم جميل وكعادة الأوقات السعيدة تمر سريعاً، آتي وقت العودة للمنزل، فعادتا بثقل مضطرين تحلم كلتاهما بالتحرر منه، وهناك مرا بنفس الروتين، ولكن شيماء تلك المرة استمعت لأختها نادية وفعلت مثلها بدلت ملابسها ووضعتها مكانها ودخلا معاً غرفة والدهما رتباها ونظفاها جيداً وساعدتا والدتهما دون حديث حتى وصل والديهما وعلى وجهه علامات الغضب من أثر كلمات مديره له بالصباح كعادته اليومية يذهب متأخر يفتعل المشاكل أحيانا مع زملائه، يعاملهم بتعالي لا مبرر له، يستمع لتوبيخ مديره ويتذمر منه امامه أو خلفه ثم يعود للبيت، وهناك يبحث عن سبب ليصب علي إحدى ابنتيه أو كلتاهما ما مر به خلال اليوم.
بحث بعينيه داخل المكان ارتعدت كل من شيماء ونادية، تظاهرتا بالانشغال، لم يجد بهما ما يجعله يضرب إحداهما أو يعنفها بالحديث دخل متأففًا بدل ملابسه يفرز المكان بعينيه لعله يجد ما لا يعجبه ويمكنه من إخراج شحنة غضبه، ولكنه لن ييأس هو بالفعل إن لم يفعل ويخرج غضبه سواء بكلمات سامَّة او بضربات موجعة سيسقط صريعاً لغضبه، وكعادته إم لم يجد سبب لضرب ابنتيه يتجه إلى تبادل الاتهامات والسباب مع زوجته.
وضعوا الطعام على مائدتهم المتواضعة، وجلسوا جميعاً فهو لم يستطع النوم طالما لم ينفس عن غضبه. وعندما انضمت الأم إليهم تحدث وعلى وجهه علامات الاشمئزاز
- إيه ده؟ فين الأكل؟
أجابت والدتهم وعلى وجهها علامات الغضب والسخرية
- ماهو قدامك أهو، إيه مش شايف؟ ابقي اعمل نضارة.
- بقولك إيه أنا مش طايق نفسي إنت عارفة مش باكل طبيخ من غير لحمة أنا شقيان طول اليوم بره.
- والله أطبخي يا جارية كلف يا سيدي، والملاليم اللي بترميها لي كل أول شهر يادوب تجيب لحمة وفراخ لأسبوع عشر أيام بالكتير إحمد ربنا إن لك زوجة زيي متحملة حياتك دي، وقلت فلوسك.
- دلوقتي إحمد ربنا ما أنت لما تقدمت لك لما صدقتي حد عبَّرِك وتقدم لك.
مصمصت شفاهها: جوازة الشوم والندامة، كنت فين يا لأ لما قولت أنا أه.
- إنت اللي مش بيطمر فيكِ
- ده أنا بردوا، أنا اللي اتحملت قرفك وضيقة الحال وعدم التقدير، أنا اللي وقفت قدام أبويا وقولت له سامح موظف ناجح وله مستقبل، أنا اللي وقفت جنبك لحد ما كملت الجامعة واحنا متجوزين بدل الدبلوم اللي كان معاك، إنت اللى ناكر للجميل.
-ده أنا تصدقي أنا اللى غلطان إني تجوزت واحدة زيك، أبوها ما قدرش عليها وفرضت عليه العريس اللى تقدم لها ياريتك يا ياختي رفضتي وحفظتي مية وشك بدل ما أنت بتقولي قدام بناتك إنك وقفتِ في وش أبوكي عشان عريس يا بايرة.
كانت الفتاتان معتادتان تناول الطعام في مثل تلك الأجواء السامَّة، ومع نهاية كلمات والدهما نظرتا إليه بتعجب وصدمة مما وصلا إليه ويتقاذفانه من حديث فنهرتمها والدتهما
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي