الفصل الثالث

" أنتي لم تفقدي عقلك، أنتي فقط قفزتي خارج عالمك، خارج زمنك، خارج الكرة الأرضية كلياً"

ظلت "روفيدا" تركض وهي تتطلع حولها بهستريا كــالمجانين، وجدت نفسها في زقاق ممتلئ بالمحال التجارية وما يشبه المطاعم، لكن الوجهات كلها زجاجية ومرايات، وقفت تتأمل وجهها أمام إحدى تلك المرايات وصدمت مما رآت!

رآت في الإنعكاس خلفها مخلوقات آليه تشبه البشر إلى حد كبير، ظهروا من كل حدب وصوب، لم تجد مفر تهرب منه، وجدتهم يقتربون منها وهم يحملون عصي ملونة بالليزر المطور، أنتابها شعور بأنهم سينقضون عليها، لكن فجأة سمعت صوتا رجل يقول لها:
_لا تخافي "روفيدا" أنا معك، أنتي لست وحدك أبداً.

نظرت المسكينة حولها كــالمجنونة، لكنها لم ترى سوى هؤلاء الروباتات، لكن عاد الصوت يحدثها بعقلها:
_لا تتلفتي كــالبلهاء عزيزتي؛ فــأنا بداخل عقلك، هيا "روفيدا" تسلقي الجدران، نعم فأنتي لست على كوكب الأرض، وبإمكانك القفز عالياً، بإمكانك التسلق كــالعناكب في كوكبنا، أهربي لمكان أخر وسأشرح لك كل شئ.

صرخت بأعلى صوتها:
_من أنت؟ ماذا تكون؟ وما هذا الهراء الذي تتحدث عنه بحق الجحيم؟

لاحظت "روفيدا" بأن لكنة هذا الرجل الذي يحدثها بعقلها ليست مصرية الجنسية؛ بل بدا عليه أنه أجنبي ويحاول التحدث العربية الفصحى بصعوبة، لكنه قال لها:
_حسناً إيتها الغبية، أستمعي لي ورددي ما سأقوله لك كي يتوقفوا عن العمل.

لم تتردد "روفيدا" وكررت ما قاله لها هذا الصوت قائلة:
_
根據州長 Almadusi 的命令,他們立即停止工作

"روفيدا" تعجبت من نفسها كثيراً! لنطقها تلك اللغة الغريبة عليها بطلاقة، لكن لــصدمتها توقف كل الرجال الآليين عن العمل وتصلبوا مكانهم كأنهم أحجار، أو تماثيل.

مرت "روفيدا" بجوارهم حتى عبرت بسلام، ركضت بلا توقف حتى وصلت لــبستان غريب الشكل، أنحنت تلتقط أنفاسها، لكنها لمحت بحيرة ماء، ركضت إليها وجثت أرضاً لترتشف بعض المياه وتروي ظمأها.

ولشدة صدمتها! رآت مجدداً في إنعكاسها ما جعلها تنتفض وتسقط في البحيرة، لكنها وقفت على قدمها لأن المياه ليست عميقة، وصلت المياه لصدرها وأصبح إنعكاسها أمامها، نظرت بتفحص في شكلها، وجدت شعرها مشعث، وجهها تملاؤه الكدمات.

لكن فجأة بدأ شكلها يتغير ويتخذ شكل رجل، تجمدت "روفيدا" مكانها وصاحت فيه بهلع قائلة:


"عودة إلى "ليث"
وصل إلى الكوخ خاصته، لكن قبل ان يدلف للداخل، وجد من يناديه:
_سيد "ليثور" أنتظر من فضلك.

تنهد "ليث" باختناق لأنه عرف هوية المتحدث، ألتفت إليه قائلاً بضيق:
_ما الخطب الأن "روزيف"؟ لقد أخبرتكم أنني تقاعدت ولن اعود للعمل مرة أخرى.

أبتسم "روزيف" بشماتة؛ كأنه يحبذ إبتعاد "ليث" عن العمل، أو ما يحدث معه تحديداً، لاحظ "ليث" نظرات "روزيف" الخبيثة، أغمض عيناه وتذكر ما حدث معه وما قاله له "قسور" بعدما أنقذه من الموت والهلاك.

"عودة إلى ثلاث سنوأت ماضية"
بداخل مستنقع "الرخ" الذي يلقي فيه قوم "الإنكا" موتاهم؛ حتى لا يقتات المتوحشون على جثثهم، ألقى الرجل الغامض جثمان "ليث" في ذاك المستنقع ظناً منه أنه لقى حتفه كــعائلته.

في هذه الأثناء كان "قسور" يشاهد ما يحدث وهو صامت، و"قسور" هذا يكون أشهر عالم، مخترع ومستكشف في عصره، لكنه مشهور بجنونه الذي تخطى الحد؛ لهذا تم طرده من منظمة "الإيكورس" وهي منظمة المخترعيين في العالم.

بعد رحيل الجميع، نزل "قسور" إلى المستنقع وأنتشل جسد "ليث" ظناً منه أنه ميت كــغيره، لكنه صدم به يتنفس لكن أنفاسه بطيئة جداً ومتقطعة، حمله "قسور" إلى مركبته وأخذه إلى قبو قصره.

أجرى له خمسة عشر عملية جراحية وقام بتركيب معادن في جسده بدلاً من العظام المحطمة، وقام بتركيب جسيمات أخرى تحل محل أعضاءه التي لا يمكن أن تعمل مجدداً في جسده.

بعد عدة أسابيع أستيقظ "ليث" من غيبوبته، قام بلوم "قسور" لأنه أنقذه وأعاده للحياة، تركه ورحل، لكن "قسور" راقبه لأنه أختراعه المميز الذي سعى إليه طويلاً وأخيراً حققه في "ليث".

لكن بعد مراقبته لــ"ليث" وجده تعيس جداً وحاول الإنتحار أكثر من مرة، فقام بزيارته في كوخه، أستقبله "ليث" ببرود، جلس "قسور" على مقعد مهترئ وقال بهدوئه المعتاد:
_بعدما لحقتك لعدة أسابيع وعلمت كل شئ عنك، فهمت لما كرهت عودتك للحياة، لكنك يا صديقي مخطئ فيما تفعله وتفكر فيه.

ليث قال له وهو ينفث دخان سيجارته بحدة:
_أنت لا تعرف شئ، ولا تظن للحظة بأنني مدين لك بأي شئ، لا أعرف لما تستمر بمطاردتي؟ وقد أخبرتك أنني لن أذهب معك للمؤتمر ولا أهتم بمنظورك العلمي الخاص بتطوير البشر وتجميد أحماضهم ضد الشيخوخة والموت.

رمقه "قسور" بنظرات حاده لكنها تحمل الإعجاب والفخر لأنه قام بتركيب شرائح ذكاء أصطناعي بداخل عقل "ليث" هذا بجانب ذكاءه الفطري؛ لهذا يكره "ليث" نفسه لأنه ذو ذكاء عال، لكنه يرفض تشغيل عقله في الأشياء المهمة، فقط يحاول أن يعيش ببلادة حتى تنتهي حياته ويرتاح للأبد.

قاطع تفكير "قسور" كلام "ليث" الحاد وهو يقول له بحده:
_هل أكتفيت الان؟ لأنني أكتفيت منك ولا أريد الجدال معك اليوم أكثر من هذا.

صدمه "قسور" حين قال له:
_لماذا لا تحاول الإنتقام يا صاح؟ من المحتمل أن تشعر ببعض السلام حين تقوم بالعمل الصائب وتصحح بعض الأوضاع الخاطئة.

جذب كلام "قسور" إهتمام "ليث" لكنه أبتسم بسخرية وقال:
_حقاً يا رجل! أتريد مني الدخول لمدينة "الإنكا" والقصاص منهم فيما فعلوه بي وبعائلتي.

-لا إيها الغبي، فقوم "الإنكا" ليسو أعدائك الحقيقين، أعداءك هم من أجبروا رجال "الإنكا" أن يقتلوا عائلتك ويدمروا حياتك، منظمة "ألمادوسيين" هي الفساد بعينيه، ثأرك عندهم هم، وأنت كنت تعمل لديهم، لماذا لا تعود للعمل معهم وتقتص من جنودهم الأوغاد الذين يقومون بتدمير عائلات كاملة في سبيل

نجاة أثرياءهم الأغبياء، أستمع لكلامي جيداً يا "ليثور"، أنت اليوم جندي مغوار لديك قبضة من حديد، يمكنك أن تنقذ حياة العشرات وتأخذ بثأرك من المرتزقة الأثرياء الذين يرون أن قوم "الإنكا" هم آفة المجتمع ولابد من القضاء عليهم وعلى أبناءهم سوءاً كانوا مرضى أو أصحاء، فكر جيداً في كلامي ولاتجعل الحزن يعمي عيناك عن الحقيقة.

"عودة إلى الوقت الحال"

نظر "ليث" إلى "روزيف" نظرات نارية، لكنه قال بصرامة:
_حسناً لقد فزتم تلك المرة، أذهب إلى رئيسك وأخبره أن المحارب "ليثور" عاد إلى العمل.

"مع بشر"
في قاع مدينة "الإنكا" هناك أقبة عديدة قد حفرها قوم "الإنكا" منذ سنوات ليختبئوا بداخلها مرتزقة "الإنكا" الذين يقومون بسرقة الأثرياء لإطعام باقي أفراد القبائل الفقيرة.

في إحدى القاعات المقفرة، يجلس بعض الرجال والنساء، وعلى رأس المائدة يقف "بشر" واضعاً قدماً على المقعد وقدماً على الأرض وهو ينظر ويستمع للجميع وكلاً منهم يقول رأي:
_لا لا يمكن أن ندع هذا يحدث.

_لا بل هذا ما يجب أن يحدث.

_وكيف بحقكم سنقوم بإدخال أحد الرعاع إلى منظمتهم اللعينة؟

_يمكن أستبدال أحد المغاوير خلسة.

-هذا سيعرض الخطة باكملها للخطر.

_لا، بل الحل في يد المسوخ، علينا أن نتحد مع كبيرهم.

_بل مصاصي الدماء النباتيين، هم أقل شراسة وأكثر تعاوناً وأقل عدوانية.

_أنتم حفنة من الأغبياء.

صرخ "بشر" بحدة:
_يكفـــــــــــــــي أيها الهمج، إجتماعنا هذا لتوحيد قرار بيننا وليس للصراع فيما بيننا، أسمعوني جيداً الأن، بما أنكم لا تعرفون كيف تتفقون على رآي واحد، سنقوم بالتصويت إذا.

أشار بيده إلى فتاة ترتدي نظارات طبية وتجلس صامتة بهدوء، قال لها أمراً:
_"فجر" دوني كل آرائهم وضعي وقومي بنسخ تلك الأراء وقومي بتوزيعها على الجميع والرآي الاكثر قبولاً هو ما سنطبقه وسيقبل به الجميع، هل هذا حل وسط يرضي الجميع؟

نظروا له جميعاً وهزوا رؤوسهم موافقين.

تركهم "بشرط وغادر القبو وهو ينفث دخان سيجارته بضيق، لكنه تجمد فجأة عندما وجدها تقف أمامه مستندة على الجدار تنظر له ببرود.

"عودة إلى روفيدا"
لكن فجأة بدأ شكلها يتغير ويتخذ شكل رجل، تجمدت "روفيدا" مكانها وصاحت فيه بهلع قائلة:
_ما هذا بحق السماء؟ ماذا تكون أنت؟ وماذا تريد مني؟

ظهر شكل الرجل جلياً على سطح الماء في إنعكاس "روفيدا"، بدا رجلاً أجنبياً كما ظنت، وسيم الوجه، اشقر الشعر، في العقد الثالث من عمره تقريباً.

قال لها بهدوء:
_إن هدأتي قليلاً سأشرح لك حقيقة الوضع، لكن أن أستمريتي في هلعك المزعج هذا لن ينتهي هذا الكابوس أبداً يا فتاة.

حملقت فيه برعب، ظنت أنها لاتزال تحلم، حاولت أن توقف إرتجاف جسدها، قالت له بتوتر:
_حسناً سأصمت، أشرح لي الأن كل شئ، لكن أرجوك حاول أن تبسط الأمور لي فأنا مجرد فتاة إبنة فلاح بسيط، أرجوك أشرح لي قبل أن أجن وأفقد عقلي إن لم أكن فقدته بالفعل.

رد عليها بهدوء:
_لا يا "روفيدا" أنتي لم تفقدي عقلك، أنتي فقط قفزتي خارج عالمك، خارج زمنك، خارج الكرة الأرضية كلياً.

يتبع
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي