part2 مَسَألةُ وَقتَ

وَحينَما طَلبُوا مِنه أنْ يُعرِف نَفسه:
قَال أنَا شخُصٌ يعيشُ مِن المَاضِي .

.

.

.

لقد حلّ يوم جديد..
مهما كان الألم مريراً ومهما كان القادم مجهولا . .
افتح عينك للأحلام و الطموح . . فغداً يوم جديد . .
و غداً أنت شخص جديد
قد لا أبدو كذلك ولكنني شخصٌ لايدع أي شئ
يهزمه وخاصة إن كان هذا الشئ مجرد مشاعر..
لستُ من النوع المتفائل لا.. بل أنا من النوع المناضل

الشئ الذي أريده سأحققه مادام بالطبع تحت نِطاق
إحتكاري له

بدأت صباحي كالعادة بقهوة الكورتادو التي أحبها
مُثلجة أو لأقول باردة
وفي يدي تلك المجلة التي تشرح ذاك الإضطراب
المسمى بعُسر القِراءة

عُسرالقِراءة أو خلل القِراءة Dyslexia المعروف أيضاً بإضطراب القِراءة
يتميز بصعوبة بالقراءة على الرغم من الذكاء الطبيعي،
يتأثر مختلف الناس بدرجات متفاوتة قد تتضمن المشكلات صعوبات في تهجئة الكلمات، أو القِراءة بسرعة، أو في كتابة الكلمات، أوفي القِراءة الصامتة
" في الرأس"، أو لفظ الكلمات عند القِراءة بصوت
عالي وفهم ما يقرأه المرء،
ينطوي العلاج على تعديل طرق التدريس لتلبية
إحتياجات الشخص على الرغم من عدم إمكانية
علاج المشكلة الأساسية، إلا أنها قد تقلل من درجة الأعراض... إلخ

تدحرجت حدقتاي نحو الساعة التي تُشير إلى إقتراب
موعد جلستي القادمة مع السيدة كلوديا كريسبن
أغلقتُ المجلة واضِعة إياها جانباً لأسحب الملف
الخاص للسيدة كريسبن
الإسم: كلوديا كريسبن
العمر: 35 عاماً
الحالة الإجتماعية: أرملة
الوظيفة: غير محدد
الجنسية: إسبانية الأصل
التشخيص: مصابة بإضطراب الكرب ما بعد الصدمة
قد ظهرت بالفعل الأعراض عليها " أعراض إقتحامية، وأعراض تجنبية، وتأثيرات سلبية في التفكير والمزاج
، وتغيرات في اليقظة وردود الفِعل "
ولكن الأن ما أسعى إليه هو معرفة إذا ما كانت الأعراض يمكن أن تكون ناجمة عن إستخدام الأدوية،
أو عن إضطرابٍ أخر.

ليست أول جلسة معها فقد مرّ بالفعل شهراً على
تلقيها للعلاج من قِبلي
وأرى تحسناً ملحوظاً في حالتها فعلى الأقل لم
تعد تلك الكوابيس بمراودتها يومياً
ولم تعد عابسة طوال الوقت.. قد تلقت صدمة
كبيرة إثر موتِ طِفليها وزوجها في حادث سيرٍ
مروع منذ شهرين تماماً،والمتسبب بالحادث قد فرّ هارباً بعد تسببه بمقتل عائلة كاملة بريئة،كان فظيعاً لدرجة كبيرة.

إستفقتُ من شرودي بالملف على صوتِ هاتف
المكتب الذي يرن، رفعتُ السماعة لأضعها فوق
أذني ليصلني صوتُ مساعدتي إيمي وهي تقول

" سيدة إسبرانزا السيدة كلوديا كريسبن قد وصلت
هل أدعها تدخل "

" أجل "
كانت هذه الكلمة الوحيدة التي قلتها لأغلق الخط
أقوم بترتيب الملفات التي كانت مبعثرة قليلاً على سطح المكتب كانت مجرد لحظات لأسمع صوت طرقاتٍ خافتة على الباب ليليها إنفتاحه

كنتُ قد رفعتُ رأسي نحوها لأقابل هيئتها الكئيبة
التي لم تتغير مُذ عرفتها
نظراتها الشاحبة، الهالات على وجهها، ذبول ملامحها،
إنكاسها لرأسها،
ماهي إلا مجرد أثار خارجية بسيطة لمرضٍ تعشعش داخلها بالفعل
الحزن، الإنكسار،التشتت،الوحدة!
بنظري هي أمراض لابد من أن يتم عِلاجها
لن أقول أن هناك حلاً نهائياً لها ولكن لابد من وضع
حدٍ لها..

رأيتُ الكثير في حياتي يعانون من تلك الأمراض
وربما أنا نفسي كذالك!

تنحنحتُ وأنا أقف من على كرسي أقوم بمصافحتها
وكما عهدتها لاتزال يدها تلك دافئة جداً عكس
يدي الباردة التي تُشعرك بالصقيع.

بدأتُ بسؤالها عن الحال والأحوال وكما جرت العادة
فقط تهمس بـ" أنا بخير "
جميعنا نقول هذا بينما لا نعنيه
جميعنا نضطر لقول أشياء أحياناً لانشعر بها
نبحث عن الدفء في المعاطف والقبعات
لنلتمس بعض الدفء لأرواحنا
ولكن الدفء الأكبر في القلوب ونبض الكلمات
دفء القلب لايأتي بلمسة يد
إنما بلمسة روح فإبتسموا فنحن جميعنا لسنا بخير... ولكننا نبحث عن الخير!

مرت دقائق عِدة وأنا أتحدث معها أحاول جعلها
تفيض بألامها لتدعها تخرج
كانت بالفعل تأخذ الأدوية ولكن كان من المهم أيضاً
العلاج النفسي لها
أن تشعر بأن هناك أحداً يهتم لما تريده
ويحاول جعلها تتحسن
ولكنها مصرة على عدم التجاوب المطلوب
أرخيتُ ظهري على الكرسي أتمعن بالنظر إليها
هي لن تتحدث بسهولة
ربما إن شاركتها أيضاً ستتكلم... ستدع روحها تهطل
تنفستُ بعمق أُجهز نفسي للحديث
" والداي قد توفيا بالفعل وأعيش لوحدي من غيرهم
... أحمل ذِكراهم في قلبي، أزورهم في المقبرة
أشتكي وأبكي وهكذا... لايعودون وأنا لا أموت
أصدقائي تغيروا مرة، مرتين، ثلاث..وأصدقائي اليوم
ليس لهم علاقة بالذين كانوا معي في أول الطريق
... منهم الذي خان والذي نسى والذي تغير..
وأنا مثلهم... خنت، ونسيت، وتغيرت "

رفعتُ بصري نحوها لأراها ناكسة الرأس تنظر
لأناملها بفراغ
كما لو أن كلامي أثر بها
أزحتّ بصري عنها أوجهه لحيث نقطة من الفراغ
لأنبس مُكملة
" لا شئ يدوم... نتمسك بشدة في أشياء.. نرتبط بها
.. نجعلها أساس حياتنا ومحور إهتمامنا.. ولكن في لحظة تختفي، تنتهي، تتغير، تسافر.. ونحن ننصدم،
ونبكي، ونتأثر، وكأنها نهاية الكون.. رغم أننا عشنا عمرنا كله من دونها.. بالطبع لا أقصد أن تنسي
وجودهم ولكن.. نحن لانموت وهم لا يعودون "

أغمضتُ عيناي وأنا أتنهد بضيق حال وصول صوت
شهقاتها الخافتة إلى مسامعي
أعلم أنها ستستطيع تجاوز الأمر هي خاصة
أرى في عينيها أنها لا تريد أن تستسلم لأحزانها
ولكنها فقط كانت تحتاج لشخصٍ يقف بجانبها
شخص مستعدٌ أن يمسك بيدها ولو لم تمدها له

.

.

.

حال خروجي من الباب توقفتُ أخذ نفساً عميقاً
أرفع برأسي نحو السماء المتبلدة
الجو بارد قليلاً، كيف لا والشتاء على الأبواب
لدي نصف ساعة فقط لأرتاح من الكئابة التي تحاوط
المشفى، ليس وكأنني أنتظر أن تعم فيه البهجة
والسرور فيبقى في النهاية مشفى للأمراض العقلية
سيكون الجميع فيه مُدمراً ومكتئباً وبعضهم فاقدي
الشعور بالحياة
أجساداً حية وأرواحاً ميتة!

أخذتُ نفساً عميقاً وأنا أتقدم للأمام
نحو تلك الحديقة
عند سماع ما يعانيه الناس تصبح ألامك سخيفة
جداً، وهذا أمر مقيت.. وبشدة!

توجهتُ نحو مقعدٍ خشبي أجلس عليه
وهو ذاته الذي كنتُ أجلس عليه كل يوم منذ ثلاثة أعوام
أي منذ إنتقالي للعمل في هذه المشفى
لم أحتج للنظر إلى مكانه لأعلم أنه موجود
بالدوين أرنولد
رفعتُ بصري نحوه لأراه وهو يفعل مايفعله كل يوم
الإنتظار!ولاشئ أخر..

طوال هذه السنوات الثلاث لم أتجرأ يوماً على الإقتراب منه
ربما أنا خائفة من أن أُطفأ ذلك الوهج في عيناه
خائفة من أن يفقد وِجهته!
لا أريده أن يكون تائهاً مثل الجميع 
تلك اللهفة في عيناه، تلك الإبتسامات على شفاهه،
تلك الهالة من حوله التي تُشعِرك بالحياة،
كلها أمور لم أعتد عليها
كل ما إعتدتُ عليه تلك النظرات الخاوية من مرضاي،
وشفاههم المتشققة من الضغط عليها حابسين البكاء،
وتلك الهالة حولهم التي تُعبر عن.. الـلاشئ!

ورؤيتي له الأن تجعلني أشعر بأنه لا زال في هذا
العالم بعض البشر الجيدون...

أبعدتُ حدقتاي بسرعة حالما إتجه بصره نحوي

أنزلتُ رأسي أُلهي نفسي بأوراق تخص حالة باستيان

على ذِكره فلقد قررت أولاً حل مُشكلته في عُسر القِراءة هذا سيفيده كثيراً في العلاج

عندما يُرِي كل شخص قد سخر منه أنه يستطيع

فِعلها عندها فقط سيحب نفسه من جديد

أخطر شيئاً قد يصيب الإنسان هو كرهه لذاته
وهذا تماماً ما يحدث معه
فالشخص هو أول عين رضا لنفسه، إن أحبها
كانت العالم له وإن كرهها كانت العالم ضده..

رغم علمي بأن هذا سيأخذ وقتاً ولكن لا بأس
المهم أنه سيستطيع العيش

توقفتُ عن تقليب الأوراق حالما شعرتُ بشخص
يقف أمامي تماماً
لأرفع ببصري نحوه بتلقائية
كان هو..

" هل أجلس بجوارك يا إبنتي؟! "
صوته الأجش قد جعلني أعود للواقع أنظر له بتردد
لأومأ له بهدوء أزيح حقيبتي كي يجلس هناك

الإبتسامة تلك لم تغب عن محياه قط ينظر إلىّ بنظراتٍ دافئة.. نظراته تلك تُذكرني بوالدي وهذا سئ... سئ جداً!

لم أنبس بأي كلمة وهو كذلك قد مرت فترة جيدة
حتى قال وعيناه المبتسمتان تُراقبان الأُفق
" أعتذر على إزعاجك ولكن شعرتُ ببعض الوحدة
وأنا جالس هناك بمفردي أتمنى ألا أكون قد أزعجتك"

نفيتُ برأسي بهدوء... أتفهمه تماماً
فأنا وهو دائماً مانجلس بعيدين، وحيدين
في هذه الحديقة... وربما في هذا العالم أيضاً

كنتُ قد وجهتُ حدقتاي نحو الأُفق أنا كذلك
قد بقيّ عشر دقائق لتنتهي إستراحتي لأعود مجدداً
إلى هناك.. إلى ضحايا بشر

" لقد تأخَرَتْ "
إلتقطُ همسه الخافت ذاك

" من الذي تنتظره؟! "
كانت زلة لسان مني فقط
رغم أنني أعلم من ينتظره ولكن شعوراً بداخلي يريد
سماعها منه هو..

" أنتظرها هي"

" ولِما؟! "

" لكي تعود "

" من أين؟! "
كما لو أن لساني يتحرك وينسج الكلمات من تلقاء
نفسه، لستُ من النوع الفضولي بتاتاً، ولا الذي يطرح
العديد من الأسئلة، رغم أن مهنتي تجعلني كذلك

سكتَ فجاءة كما لو أنني رميتُ بالحقيقة في
منتصف وجهه
أنا هكذا وسأظل كذلك، مجرد مُفسِدة للحظات
الجميلة.

رفع بصره نحوي لأرى ذلك الوهج الخافت من عيناه
كما لو أن شيئاً بداخله قد مات للتو ومن كان قاتله
عداي!

إستقام بجذعه تاركاً إياي بصمت مطبق
لم أستغرب من فِعله بل أعطيته كل الحق
تعلّقت حدقتاي به بينما يبتعد
لأراه يلتفت نحوي
لترتسم نفس تلك الإبتسامة على شِفاهه
لا أعلم لما جملة واحدة فقط قد إستقرت برأسي
حال رؤيتي لإبتسامته تلك

هذا العالم مجرد إبتسامة على شِفاه رجل مشنوق
فيلمير خليبنيكوف

 

                                  .

                                  .

                                  .

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
رأيكم بالبارت؟

إنتقادات؟

.

.

.

يترك الزمن خطوطه العميقة على الوجوه .. وتترك الذكريات خطوطها الأعمق في القلوب.. ♡
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي