29

يصل حسّان إلى المكان الذي أوقف فيه سيّارته، توجّه نحو باب السيّارة وهو ما يزال ساحباً آنا من ذراعها وراءه ثمّ يفتح باب السيارة ويترك ذراعها ويحدّق فيها بقسوة لتركب، تخفض آنا رأسها لتتجنّب نظراته ثمّ تدخل السيارة ويغلق هو الباب عليها ثم يتوجّه للطرف الآخر، يتوقف ليشعل سيجارة بعصبية ثم يركب هو الآخر ويغادران المكان بسرعة.
طوال طريق العودة الذي بدا طويلاً على غير العادة كما في السابق، لم ينبس حسّان ببنت شفة، بل كان فقط شارداً و محدّقاً في الطريق ويدخّن سيجارته بتوتر، لكنّه رغم ذلك كان يقود سيارته بسرعة معتدلة، أما آنا.. فكانت طوال الطريق تلتفت وتسترق النظر نحوه من زاوية عينها كلّ حين بخوف، أتعبها صمته كثيراً وزاد من إحساسها بالندم والذنب لعنادها ومخالفتها الأوامر التي كانت في الأساس صادرة عنه هو وليس النائب، لكنّها كلّما تذكرت عزفه عن الاتصال بها رغم فعله ذلك مع ليليان وجواد، يشتعل قلبها غضباً وغيرة، وتشعر بالإهانة والتصغير، وتتمنى لو أنها فقط تعرف سبب تجاهله لها.
يصلان منزلها أخيراً، يتوفق حسان دون أن يطفئ محرّك سيارته وينتظر نزول آنا منها دون أن يلتفت إليها، آنا تحدّق فيه قليلاً ثمّ تهمس بصوت ضعيف:
ـ سيّدي.. ألن تقول...
يقاطعها حسّان بفتحه باب السيارة من جانبه وعلى وجهه العابس ملامح الغضب التي لم تهدأ حتى الآن، ثمّ نزوله منها بصمت، يرمي بحركة عصبية عقب سيجارته التي كان ترقيمها الثالثة منذ بداية طريق العودة حتى اللحظة، ثم يتوجه إلى الطرف الآخر ويفتح الباب من جانبها لتفهم أنّ عليها أن تنزل فقط دون أن تقول أيّ كلمة، آنا ترفع نظرها نحوه وتحدّق في وجهه الذي بداً غريباً تماماً عنها، تبتلع غصّتها العالقة في حنجرتها ثم تنزل لتقف أمامه وتحاول أن تقول شيئاً لكنّه يضع إصبعه على فمه ويرفع بحاجبيه كإشارة منه لها أن تصمت ولا تقل شيئاً، ثم يُشير لها بيده نحو باب منزلها كما لو كان يقول لها اذهبي حالاً، أنا تحدّق في عينيه العابستين الجدّيتين مذهولة ثم تخفض رأسها وتستدير بسرعة وتحثّ خطاها نحو المنزل بعينين ضبابيتيّ الرؤية، عينين بالكاد ترى أي شيء حولها بسبب كمّ الدموع الكبير الذي تراكم فيهما، يعود حسّان إلى مكانه متجهّماً وهو يلاحق أنا بعينيه، وما إن يمدّ يده نحو مقبض الباب ليفتحه ويدخل حتى يخفق قلبه بسرعة وخوف شديد لدى رؤيته تعثّر قدمي أنا على درجات منزلها وسقوطها على الأرض فتطلق أنّة متألمة، يهرع حسّان بسرعة نحوها ويقبض بيديه على كتفيها لينتشل جسدها المتهالك على الأرض باستسلام، يرفعها حسّان بقوّة ذراعيه ويساعدها على الوقوف، لكنّ آنا أخيراً تدخل في موجة بكاءٍ بعد أن نفذ صبرها على المقاومة و طاف الإناء، وفي حين أنها أطرقت رأسها أرضاً ووضعت يديها على وجهها، كان حسّان يحدّق فيها بحزن ممزوج بالخوف والشفقة على حالها، يتنهّد بتعب ثمّ يبعد يديها عن وجهها ويحاول رفعه إليه لكنها تعود وتخفضه دون أن تكون قادرة على التوقف عن البكاء أو النظر في عينيه، يمدّ يده ليرفعه مرة أخرى ويحاول أن يمسح دموعها بأطراف أصابعه، لكنّه تبتعد خطوة للوراء وتفتح حقيبتها الصغيرة بيدٍ مرتجفة لتخرج منديلا تمسح به دموعها وحسّان يراقبها بصمت، ثم تتوقف عن البكاء رغم امتلاء عينيها بالدموع وتخرج مفتاح منزلها، تتقدّم نحو منزلها بخطوات متعثّرة بسبب التواء كاحلها، وهي تكابر على نفسها وتتجاهل الألم الذي حلّ بها، لكنّ ارتجاف يدها لم يسعفها في إدخال المفتاح في القفل وفتح الباب، يتدخّل حسان أخيراً بعد عدّة محاولات فاشلة منها، ويأخذ المفتاح من يدها ويفتح لها الباب، ثم يسحبه ويناولها إياه، هي التي لم تعد تنظر في وجهه أبداً، تأخذ آنا المفتاح وتهم بالدخول، حسان يمسك ذراعها فتتوقف مكانها دون أن تستدير باتجاهه، يسألها أخيراً بعد كلّ هذا الصمت بصوت ضعيف:
ـ أن.. هل أنت بخير؟
آنا تنظر جانباً ثم تسحب ذراعها من يده بهدوء وتقول:
ـ بخير..
ثم تدخل وتغلق خلفها الباب برفق. حسّان يبقى لبرهة جامداً في مكانه بحزن وهو مطرق رأسه أرضاً ثم يرفع وجهه نحو الباب ويضع يديه على خصره لثوانٍ قصيرة، ثم يستدير ليغادر وهو يمسد شعره للوراء ويفرك صدغيه بأطراف أصابع كما لو أن الألم الذي حلً به اجتمع مع كل ضغوط يومه وحياته فأوصله حدّ الانهيار والرغبة بالصراخ غاضباً من نفسه ومن كلّ شيء ألمّ به. يركب سيارته ويرحل بسرعة جنونية.
تدخل آنا المنزل وهي تسحب أنفاسها بشكل متقطّع، وتتوجّه مباشرة ودون أن تشعل الأضواء نحو غرفتها، تخلع حذاءها وترميه جانباً، ثم سترتها وحقيبتها وحتى جوالها ترميه، ثمّ ترتمي في فراشها تحت الغطاء دون أن تغيّر ملابسها، وتستمرّ في بكائها حتى يُنهك قلبها وتغرق في نوم عميق بعد أن امتلأت وسادتها بالدموع.
في حوالي الساعة السابعة صباحاً، تفتح آنا عينيها بصعوبة ثم تعود وتغلقهما بسبب ألم قويّ في رأسها الذي شعرت أنّه تصدّع من كثرة بكاءها وتفكيرها في الأيام الأخيرة وخاصة ليلة البارحة، تحاول العودة للنوم لكنّها تفشل، تفتح عينيها أخيراً وتنظر باتجاه النافذة بعينين جامدتين خاليتين من أيّ تعبير، جفناها متورّمان ومنتفخان وامرار خفيف صبغ بياض عينيها من الداخل، النافذة خالية من أي شيء يدلّ على وجود حياة في الخارج، فشجرة العربيش قد تعرّت تماماً من أوراقها ولم تعد موطناً للطيور التي هاجرت أساساً من شهر، إنها كئيبة ومجرّدة من أيّ جمال، كروحها تماماً، تنهض آنا من سريرها وتتناول منشفتها وتدخل الحمام علً وقوفها تحت المياه الساخنة يغيّر مزاجها ويحسّنه قليلاً، كانت طوال وقوفها تحت رشاش الماء تفكر بعينين مغمضتين بطريقة تنتهي فيها من الصراع الذي في داخلها وتخرج منه، تفتح عينيها أخيراً بفكرة جالت رأسها كالنيزك، فتهمس:
ـ هذا هو الحلّ الوحيد.
تغتسل جيداً من رغوة الصابون والشامبو وترتدي برنسها بعد أن لفت المنشفة على شعرها وتخرج مسرعة وتدخل غرفتها، ثم تخرج بعد وقت قليل مرتدية بيجامتها وتدخل المطبخ لتعدّ لنفسها كوباً من النسكافيه وتعود إلى مكتبها متجاهلة اتصالات جواد وليليان بها.
وعلى مكتبها.. تجلس وتفتح حاسوبها المحمول لتكتب شيئاً أخذ منها حوالي الربع الساعة، ثم تطبعه وكان عبارة عن ورقة واحدة، كتبت أنا اسمها في أسفل الورقة بخطّ يدها ثمّ وقّعت تحته. تطوي الورقة بعناية وتتناول ظرفا من الدرج وتضعها فيه وتلصق أطراف الظرف، ثم تتناول جوالها وتتصل بالشاب ميار المسؤول عن توصيل البريد الخارجي في المركز ليمرّ عليها في طريق ذهابه إلى المركز. تغلق جوالها وتحدّق بعينين ثابتتين مليئتين بالعزم، فيه وقد أخذت قرارها ولن تتراجع عنه بعد الذي كلّ حصل لها في الفترة الأخيرة منذ قدوم السيّد حسّان إلى المركز. تتناول كوبها وتنهض نحو نافذة المكتب وتستلذّ بشربه وهي سارحة بفكرها عن المستقبل الجديد المجهول الذي ينتظرها.
في المركز:
جواد يغلق جواله ويلتفت نحو ليليان التي تحدّق فيه بانتظار جوابه:
ـ آنا لا تردّ على اتصالاتي أبداً ليليان.
ـ ولا عليّ أيضاً.. هل يعقل أنها مازالت نائمة؟
ـ ليس من عادتها التأخر بالنوم.. على كلّ حال.. دعينا نذهب إلى مكتب النائب قبل أن نتأخر عن الاجتماع بالمفتّش حسّان.
ـ وماذا عن آنا؟ إنّه اجتماع مهمّ لنا نحن الثلاثة.
ـ بصراحة لا أعرف، هيا تعالي الآن دعينا لا نتأخر. وهناك سنرى ما سيقوله لنا النائب بشأن آنا.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي