٣

استيقظت آنا في صباح اليوم التالي متعبة. نظرت إلى الساعة في جوالها لتكتشف أنها تأخرت كثيراً على غير عادتها. لكنها نهضت من سريرها بلا مبالاة. أزاحت ستار النافذة وفتحتها على وسعها لتستقبل بوجنتيها الورديتين أشعة الشمس الدافئة، وتستنشق ملئ رئتيها رائحة زهور شجرة الجوري التي تفتحت بنشاط تحت نافذتها. فكرها صافي ومزاجها معتدل، تتنهد بتفاؤل ثم تتوجه نحو المطبخ لتتناول فطورها قبل أن تبدأ روتين عملها اليومي المرهق في مركز التفتيش،
كثيرة هي الأسئلة التي مرّت في ذهنها عن شكل المدير الجديد وهي تتناول وجبة الفطور، ترى..
هل هو أصلع وكرشه متدلّي؟ شعره أبيض؟ وسيم؟
هل هو في العقد الرابع؟؟ أم خمسيني؟ أسمر أم أشقر؟
متوسط الطول؟ هزيل.. نحيل؟ أم أنه كالمدير السابق طويل القامة ممتلئ الجسم قاسي الملامح ونملتزم بالقواعد.. لكن من الداخل ودود وطيب القلب ؟
وصلت آنا المركز وهي ما زالت تتخيّل شكل المدير الجديد. وهناك بدأت عملها الذي كلّفها به نائب المدير البارحة، حيث قلبت المركز رأساً على عقب بدءاً من أصغر عامل فيها وحتى أكبر موظف. كانت تتنقل بين الأقسام والمكاتب بحيوية ونشاط وتعطي تعليماتها مستمدّة سلطتها من تكليف الرسمي الذي كُلّفت به، فأشرفت على إنجاز المهمّات بنفسها حتى عمليات التنظيف وإعادة الترتيب.
ثم دخلت مكتب رئيس المركز السابق وقامت بالإشراف بنفسها علي ترتيب الملفات فيه وتنظيمها في الكومبيوتر بمساعدة السكرتيرة وعاملة التنظيف.
وقبل انتهاء ساعات الدوام كانت آنا قد حولت المركز إلى مركز أخر مختلف تماماً.. منظّم ومرتب وجاهز تماماً لاستقبال المدير الجديد. وآخر مهمّة قامت بها هي الاجتماع برؤساء الأقسام وباقي زملائها المفتّشين بمختلف اختصاصاتهم في قاعة الاجتماع. وتناقشت معهم في الترتيبات التي سيقومون بها منذ الغد وحتى مجيء رئيس المركز الجديد. ورغم نشاطها العالي وتركيزها الشديد إلا أنها كانت تشرد للحظة سارحة بفكرها بالمفتّش حسان!
نعم.. آنا ورغم ذهنها الوقّاد وذكائها العالي ورزانتها.. إلا أنها تنسى نفسها أحيانا وتعود بداخلها إلى تلك الطفلة العبثية الغيورة التي اعتادت الدلال والحصول على كل ماتطلبه بأي طريقة أو ثمن. وأحياناً ومن شدّة غيرتها التي لاتُظهرها تبدو لوهلة فتاة غبية لا تفكّر أبعد من أنفها وتجلب المصائب لنفسها.
بعد هذا اليوم الطويل و الشاق.. أخذت آنا إجازة لمدّة أسبوع طلباً للراحة والعمل بتركيز و تفرّغ على أرشيف الملفات الذي ستقدّمه للمدير الجديد عند مجيئه. وكان حصولها على تلك الإجازة سهلاً بعد أن رأى نائب المدير دقة عملها وإتقانه ومدى تنظيمه. بمعنى أصحّ.. كان نائب المدير راضياً كلّ الرضى عن عميلته التي كانت مميّزة لديه عن باقي زملائها.
وضعت آنا لعطلتها خطة ترفيهية فكرت فيها بالسفر إلى منزل أمها في الريف والعمل هناك، خاصّة و أن فصل الربيع بدأ يهلّل لقدومه رغم البرودة الخفيفة التي لم تحمل أمتعتها وتغادر بعد مع فصل الشتاء بعد. لكنّ اتصال النائب بها في اليوم الثاني من العطلة غيّر خطتها تلك!
في البداية استغربت آنا اتصاله في البداية، لكنّها استوعبت ذلك عندما أخبرها أنه يجب عليها أن تقطع إجازتها وتعود على رأس عملها فوراً لأنّ المدير الجديد سيصل الدائرة غداً. يال فرحتها التي لم تكتمل!
سهرت آنا طوال الليل لإتمام الملفات، لكنّها استيقظت صباح اليوم التالي وهي مفعمة بالنشاط والحيوية وتتّقد حماساً. تناولت وجبه خفيفة. وانتقت من بين ثيابها بنطالاً أبيضاً وبلوزة كاجوال بيضاء، و ارتدت فوقها سترة سبور شيك قصيرة مائلة إلى اللون الكحلي. ثمّ سرّحت شعرها الأسود الطويل وتركته مسدولاً على ظهرها بحريّة . والأجمل.. أنها زينت شفتيها الممتلئتين بلون روج هادئ لتبدو شفتاها طبيعيتان.. ومرّرت فرشاة الماسكار على أهدابها الطويلة الفاحمة بخفة رغم عدم حاجتهما فأضاف الأسود الفاحم إلى زراق عينيها عمقاً وجمالاً .
رغم بساطة ماقامت به لنفسها.. إلا أنها بدت في غاية الروعة والجمال!
ركبت آنا سيارتها وتوجّهت إلى مقرّ عملها. وهناك.. استقبلها زملاؤها وزميلاتها بنظرات الذهول والإعجاب.. فصفّروا لها وتغزّلوا بها وتعالت أصواتهم بحماس وهي تتمايل بينهم وتقول:
ـ شكراً.. شكراً لاستقبالكم اللطيف. يسرّني أن أكون مديركم الجديد..
وتعالت الضحكات والهتافات أكثر وعمّ الفوضى مدخل المركز، والتي خرج على أثرها نائب المدير وعلى وجهه ملامح الغضب فصرخ بهم وتراكضوا جميعاً إلى مكاتبهم باستثناء آنا التي وقفت جامدة في مكانها بقلبٍ يخفق ذعراً استعداداً لتأنيبه. لكنّها تفاجأت به أيضاً يحدّق بها بنظرة إعجاب ثم يصفّر لها ، لكنه ما يلبث أن يعبس في وجهها بسرعة كاتماً ابتسامته ثم يصرخ فيها طالباً منها المكوث في مكتبها إلى حين وصول المدير الجديد.
دخلت آنا مكتبها وهي تتنفّس الصعداء لتجد زميلتها وصديقتها المقرّبة ليليان جالسة كعادتها وهي تلفّ ساقاً على ساق، وتمضغ مسكة في فمها وتهيئ نفسها لإفراغ جعبتها الممتلئة من الأحاديث التي جمعتها لها خلال أيام إجازة آنا. هكذا فكّرت أنا في نفسها في البداية . لكنّ ليليان اليوم تبدو بائسة على عكسها هي المشرقة كالنور.
ـ صباح الخير ليليان.
ـ صباح الخير آنا.
تتنهّد ليليان بضجر ثم تقول بينما تجلس أنا خلف مكتبها.
ـ لا تُعدّي نفسك اليوم لأيّ خبر، فلا طاقة لديّ للحديث!
ـ حقّاً!! لا أخبار جديدة هناك؟ مابالك اليوم؟
ـ لا شيء. سوى أنني وجواد متخاصمان!
ـ هذا ليس بخبر جديد ليليان. إنّه موّشّح اعتدنا سماعه هنا في المركز كلّ أسبوع!
ـ لا تهزأي بي آنا أرجوكِ. أنا حقّاً منزعجة!
تضحك آنا برقّة ثم تقول:
ـ آسفة ليليان . لكنّ شجارك أنتِ وجواد عابر كمطر الصيف.. يجفّ بسرعة تاركاً الدنيا من حوله أكثر نضارة.
شجاركما سريع الانتهاء كما لو أنّه لم يكن.
- حقاً تريننا كذلك؟
- بالطبع حبيبتي.
ضجّة في المركز تعلو وتقطع حديثهما، يفتح المفتش جواد باب مكتب آنا ويطلّ برأسه عليهما، في حين أدرات ليليان وجهها للناحية الأخرى عابسة. جواد وآنا يتغامزان ويتبادلان ابتسامات وإشارات ذات معنى ثم تسأله آنا.
ـ مالأمر جواد؟ ما كلّ هذه الضجّة؟
ـ وصل المدير الجديد، وقد أمرنا النائب بالتوجّه جميعاً إلى قاعة الاجتماع.
ـ ألم تعرف من هو؟
ـ كلا آنا، لم أره حتى..
قال جواد ذلك وهو ينظر مبتسماً إلى ليليان التي مازالت تشيح بوجهها عنه. نهضت آنا من خلف مكتبها وخرجت وتتبعها ليليان بسرعة دون أن تنظر إلى جواد الذي أخذ يتحشّر بهاويحاول التحدث معها. ممّا جعلها تبدأ بتأنيبه. ثمّ فُتح باب اللوم بينهما واحتدّ نقاشهما قليلاً أثناء توجّههما نحو القاعة، فالتفتت آنا نحوهما عابسة وهي تقول:
ـ ألا تؤجّلا إسماعي هذا الشريط البالي من اللوم المعتاد إلى ما بعد الاجتماع؟؟
فاضطرّا إلى الصمت وهما يتبادلان نظرات العتاب الغاضبة في ما بينهما.
وفي قاعة الاجتماع التي ضجّت بالأحاديث والضحكات والتساؤلات. جلست آنا وبجانبها جواد وليليان في الصفّ الأول حسب ترتيبهما الوظيفي دون أن يفتحا أي حديث. فكلّ واحد منهم كان مشغولاً وسارحاً بفكره ويعتريه الفضول تجاه شخصية المدير الجديد. من يكون؟ وكيف شكله؟ وكيف ستكون طباعه ومعاملته معهم.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي