٢

ـ خلف أسوار القلب ـ
أغلقت السماعة وخرجت من مكتبها مؤجّلةً مؤامراتها إلى حينٍ آخر . وصلت مكتب رئيسها في العمل وأفكارٌ تأخذها وأخرى تُرجعها . همست لنفسها قبل أن تطرق الباب :
ـ ماذا يريد مني السيد المدير ؟؟
طرقت الباب ودخلت بعد أن سمعت رئيسها يقول من الداخل بصوت أجشّ يعبّر عن سن صاحبه الكبير :
ـ ادخلي .
دخلت فأشار لها بيده بأن تجلس ريثما يُنهي مكالمته على الهاتف ، والتي فهمت من الجمل القصيرة المقتضبة فيها أنّ الحديث يدور حول الرئيس الجديد الذي سيستلم إدارة المركز بعد أن تقاعد السابق .
أغلق السماعة ثمّ نظر إليها قائلاً :
ـ الرئيس الجديد سيصل الدائرة قريباً .. أي خلال أسبوع .
ـ ألم يقولوا من هو ؟
ـ لا تستعجلي على شيء .. سنتعرّف إليه عندما يأتي إلينا . ولكن أعتقد أنّه سيكون المفتش رواد .. فهو ابن المنطقة . وهو بصفاته وسمعته المهنية الأنسب لهذا المنصب .
ـ هل يمكنني أن أسألك سؤالاً سيدي ؟؟
يحدّق فيها ويبتسم ابتسامة خفيفة ثم يقول :
ـ أعلم ما هو ؟؟ لماذا لم يتمّ تعييني لهذا المنصب ؟ صحيح ؟
تردّ آنا بارتباك وخجل :
ـ بالضبط سيدي ؟؟
يضحك بهدوء ثم يقول :
ـ آنا .. هل نسيتي أنني أنا أيضاً على أبواب التقاعد ؟ ثمّ أنّ مهنتنا بحاجة إلى جيل شاب قوي البنية وكامل النشاط .. قادر على العمل في منصبه بإتقان والتّرقي فيه لسنوات . نحن أخذنا دورنا ووقتنا ، وحان دور جيلكم أنتم . وحان لنا أن نرتاح أليس كذلك ؟
ـ أنتم قدوتنا سيدي .. لاغنى لنا عنكم . أسفة لأنك ستغادرنا يوما . يحزنني تخيّل ذلك .
ـ مازال أمامنا سنة فأنا لن أترككم غداً .
يضحك ثم يتابع حديثه :
ـ المهم .. لقد طلبتك للحضور من أجل التجهيز لكل مانحتاج إليه قبل قدوم رئيس المركز الجديد .. وإذا صدقت توقّعاتي وكان المفتش رواد هو المكلّف للمنصب فنحن سنواجه بعض المتاعب .
ـ حقّاً ؟ لماذا سيّدي ؟
ـ آه لماذا ؟؟ المفتش رواد ملتزم جدّاً وقاسٍ في تعامله مع أعضاء الفريق الخاص بالمهمّات .. وباقي الموظفين .. وأنتم للأسف .. أفسدْتكم بمعاملتي بعد تقاعد المدير السابق ..
تضحك آنا بصوت ضعيف وتخفض رأسها . فيتابع هو :
ـ سأفتقد لابتسامتك هذه في العمل في حال صدقت توقّعاتي ..
ـ ألهذه الدرجة المفتّش رواد صعب الطباع ؟
ـ بل أكثرمن ذلك .. هيّئوا أنفسكم .. وقومي بإعداد اللازم لاستقباله .. أريد ملفّات قضايا هذا العام كلّها المنتهية والتي مازلنا نعمل بها .. على مكتب الرئيس إضافة إلى ملفات المفتشين والموظفين الإدرايين من الكبير وحتى أصغر عامل .. تفقّدي كلّ شيئ في المركز آنا . حتى النظافة .. وجهّزي غرفة الاجتماعات ووفّري كلّ لوازمها ثمّ قدّمي لي تقريراً شاملاً عن كلّ شيء قمت به . الإجازات منذ بداية الأسبوع القادم ممنوعة ومرفوضة .. أريد أن يكون الجميع على أهبة الاستعداد لمجيء الرئيس الجديد .. مفهوم آنا ؟
ـ مفهوم سيدي ..
ـ عليك بالعجلة آنا .. فلا نعرف أيّ يوم بالضبط خلال الأسبوع القادم سيفاجئوننا .
ـ لا تقلق سيدي . سأبدأ اعتباراً من الغد ، وسأكون عند حسن ظنك بي .
هذا ما أعوّل عليه عادةً .. حسناً آنا .. تستطيعين المغادرة .
ـ حاضر سيدي .. بالإذن .
خرجت آنا من غرفة نائب المدير قاصدةً غرفتها . وعند انتهاء وقت العمل .. أخذت حقيبتها وغادرت المركز بسيارتها ، حيث عاودتها في الطريق نحو المنزل تلك الأفكار السوداء حول تحطيم نجم منافسها ( حسّون ) .. وهو الاسم الذي اختارته له لتصغّر من شأنه .. وفي الطريق أوقفت سيارتها أمام المتجر الرئيسي في المدينة لتشتري بعض الحاجيات التي تنقصها في المنزل . نزلت من السيارة وأفكارها شاردة بها في عالم آخر .. صعدت الأدراج وهي تبحث في حقيبتها عن الورقة التي كتبت عليها حاجياتها .. للحظة قصيرة اختلّ توازنها .. ماهذا الشيء الضخم الذي ظهر أمامها فجأة ولم تشعر به .. لثوانٍ شعرت بدوارٍ خفيف . هذا الذي لازمها من أسابيع بسبب إهمالها لنفسها وغذائها .. ارتدّ جسدها قليلاً للوراء وكادت تفقد توازنها وتسقط لولا أن يسرع هو ويمسكها من يدها ويشدّه لتود إلى توازنها .
مرّت لحظات قصيرة قبل أن تستوعب آنّا الموقف الذي حصل . وتستوعب هذا الغريب الذي يقف أمامها بملامح وجه باردة وعينان سوداوان ثابتتان في عينيها .
حدّقت آنا قليلا في وجهه بذهول ، وما إن استفاقت من ذهولها حتى تغيّرت ملامح وجهها الطفولية وظهر الوجه الآخر لديها .. وجه المفتشة أنّا التي سحبت يدها من يده وصرخت غاضبة :
ـ هل أنت أعمى ؟؟ ألا ترى أمامك ؟؟
الغريب الذي يقف أمامها يزيد من ارتباك آنّا حين يصمت قليلاً يعينين ثابتتين تماما في عينيها ونظرة جامدة مخيفة ، لكنّه مايلبث أن يردّ عليها ويقول ساخراً :
ـ أنا حقّا أعتذر .. كنت مشغولاً بإخراج شيء ما من حقيبتي ولم أنتبه إلى أنك آتية نحوي .. وبالمناسبة .. شكراً لأنك أمسكتي يدي . فلولاكِ لكنت الآن مكوّم الجسد أسفل هذا الدرج وأصرخ من آلمي وربما تكسّرت ..
أنا للحظة تخجل من حماقتها لكنّها وبسبب كبريائها تردّ بغرور :
ـ و هل طلبت منك ذلك ؟؟ تقوم بفعل الخير وتمنّن الناس به ؟؟ ابتعد عن طريقي هيا .
آنا تنعطف يميناً لتدخل المتجر .. يد الغريب تسحبها بشدة نحوه .. آنا تنظرإليه بفزع وهو يقول لها بصوت هادئ جدّاً لكنه مخيف . ودون أن يخفض بصره نحوها :
ـ كوني على ثقة لو أنّك كنتِ رجلاً لحطمت وجهك وملأت فمك بالدماء .. واحمدي الله أنّك فتاة . وفي المرّة الأخرى افتحي عينيك جيداً ، وانتبهي للطريق أمامك .. ولا تشردي .
يترك يدها بشيء من القسوة، ثمّ يضع نظارتة الشمسية السوداء وينزل الدرج .. فتصرخ فيه آنا غاضة :
ـ من تظن نفسك ؟؟ هل تعرف مع من تتحدّث ؟؟
الرجل الغريب يتابع طريقه نحو سيارته دون أن يلتفت نحوها أو حتى يبالي بحديثها .. آنّا تابعه بعينيه وهي مصدومة بلا مبالاته .. تحدّث نفسها بصوت ضعيف :
ـ كأنّه يقلّل من شأني ويستهين بي ؟ لم أرَ بحياتي وقاحة كهذه ! عليك اللعنة . لن أشغل رأسي بك الآن ، فلديّ مايكاد رأسي يفجر بسببه ويسلب مني الراحة والنوم .
تلتفت نحو باب المتجر وتدخل وحمرة الغضب اكتست وجهها .
تعود أنا إلي منزلها وهي تعاني من صداع رهيب .. تغير ملابسها ثم تنعطف نحو المطبح لتحضّر لنفسها كوب نسكافيه علّه يمدّها بقليل من النشاط لتباشر كتابة مهامها ..
عقلها مشتّت بين التحضيرات لاستقبال رئيس المركز الجديد الذي انتابها القلق منه إذا صحّت توقّعات النائب وكان المفتش رواد الملقب بقرصان المفتّشين .. وبين المفتش حسان الذي تكاد الغيرة منه تأكل جوفها وتسلبها وقارها أمام نفسها كمفتّشة ذكية ونشيطة .. تتناول علبة النسكافيه من كيس المشتريات التي ابتاعتها من المتجر.. ثمّ تتذكّر للتو الحادثة التي حصلت معها أمام المتجر .. تشرد وهي تحدّث نفسها :
ـ هذا الشاب الوقح و الغريب الأطوار .. من يظنّ نفسه ؟ هذا تحديداً ماكان ينقصني اليوم !!
تضع حبيبات النسكافيه فوق الماء المغلي وتحرّكها ببطئ على النار .. وتعود لتحدّث نفسها مبتسمة بغباء :
ـ لله الحق يُقال أنّه وسيم .. وسيم جدّا بلياسه الرياضي وقامته الطويلة وشعرة الكثيف الأسبل والمصفّف بعناية ..
وتلك الذقن السوداء المعتنى بها جيداً .. لطالما أحبت أمي هذا الجمال .. لذلك عندما رأت أبي لأول مرة سقط منها قلبها ولم تعد ترى شيئاً ..
تبتسم بوداعة وتضحك ثم تتابع :
ـ آه أمي .. كم اشتقت لك .. يجب أن أكلمك اليوم فأنا حقّا مقصّرة تجاهك ..
تفور النسكافيه فوق النار وتطفئها فتصرخ أنا وهي تغلق مفتاح الغاز :
ـ يال غبائي .. ظننت نفسي أعدّ القهوة ونسيت بسبب أفكاري الشريرة أنّها نسكافيه ..
تسكب النسكافيه في الكوب وتنظف سريعا ما أفسدته ، ثم تتوجه نحو غرفة الجلوس التي أضافت إلى ديكورها المكتب الخاص بعملها ، وركنته في زاوية الغرفة أمام النافذة . تفتح شاشة التلفاز وتضعف صوتها لتكون ونيساً لها ، ثم تباشر عملها على محمولها الشخصي . لكن لم تمضِ إلا نحو الساعة منذ بدأت العمل .. حتى بدأ النعاس يتسلل إلي عينيها الرماديتين الواسعتين . فأغلقت محمولها و أطفأت شاشة التلفاز ، ثم تسللت إلى غرفة نومها . وما إن وضعت رأسها على الوسادة حتى استسلمت لنوم عميق .
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي