١

لم تكن تعرف أنها تمتلك بين ضلوعها قلباً ضعيفاً غير قادرٍ على النسيان. وأنها عندما تسمع صوته بعد كلِ ذلك الفراق سترتجف من رأسها حتى أخمص قدميها.. وأنها حقاً أحبيتّه.
كيف أحبّته أو لماذا؟ هي لا تعرف. كل ما كانت تعرفه أنها فقط أحبته.. نعم أحبته.. رجلاً مليئا بالتناقضات التي تعشقها الأنثى من الرقة والخشونة. من القسوة والحنان. والأهم من ذلك كله.. رجولته المميزة.
لم يكن حسان في نظرها رجلاً ككلّ الرجال الذين صادفتهم حنان في حياتها. لم يكن حدثاً عارضاً أو صدفة.
باختصار.. لم يكن حسّان ذلك الشخص الذي يُنسى بسهولة.
لكن .. هل هي ظلمته ياترى؟؟
كانت هذه آخر فكرة جالت في رأسها عندما أطفأت سيجارتها وتحاملت على نفسها لتردّ على الهاتف الذي أوشك على الانفجار. فالمتكلم يأبى أن يغلق السماعة حتى يُردّ عليه.. رفعت السماعة وبلا مبالاة ردّت:
ـ آلو تفضل..
ردّ هو مباشرة دون أيّ مقدّمات:
ـ آنّا حبيبتي.. أرجوكِ لاتغلقي السماعة.. أصغي إلي للحظة فقط.
جمودٌ غريب اجتاح كيانها، ثم فجأة أخذت أطرافها ترتجف وقلبها ينبض بسرعة جنونية. عيناها الزرقاوان معلقتان في اللاشيء. لكم هي تحبّ ذلك الصوت الرجولي الحاد!
ابتلعت آنا ريقها بصعوبة واستجمعت صوتها ثمّ ردّت بجفاء:
ـ هذا أنت مرة أخرى؟ماذا تريد؟ ألم تملّ بعد؟
ـ أريدك فقط أن تصغي إليّ، أن أسمعَ صوتك. ألا يكفي أنك غيّرتي رقم الجوال؟؟ لماذا تعذبينني آن لماذا؟
ـ لم يعد هناك مايمكننا التحدّث به أنا وانت. لم يعد بيننا أي حديثيمكننا الخوض فيه. لأنه وببساطة.. القصة انتهت.
ـ لا تكوني قاسية آنّا.. أعطني فرصة لأوضّح لك كلّ شيء..
آن.. حبيبتي.. أنا بحاجة إليك. افهميني أرجوك.
لكم يذوب قلبها حبّا حينما يناديها (آن) . فكيف به إذا يناديها (حبيبتي آن)؟ و رغم كل العواطف المتضابة في داخلها وذاك الصراع الشديد بين قلبها وعقلها، إلا أنها تقاطعه بعصبية:
ـ وأين كنت أنت عندما كنتُ أنا في أمسّ الحاجة إليك؟
أين كنت حينما اختفيت أنت دون أيّ مبرّر ألتمس لك فيه عذراً مقنعاً لا أرى فيه كبريائي المُهان و قلبي المكسور؟؟ حين لم تُقم لآلامي وكسرة قلبي وضياعي بعد رحيلك المفاجئ أيّ اعتبار؟؟ ألم يستحِ قلبك ممّا فعله بقلبي؟
ـ كانت لديّ ظروفي وأسبابي و قد أخبرتك بها ألف مرة . وأنت تحديداً من بين كلّ الناس يجب أن تتفهمينهايا آن. لم تصرّين على تعذيبي وتعذيب نفسك؟
ـ لا أعتبر حجّتك هذه مبرّراً لما فعلته.. ربّما يجب أن أكون بنظرك أكثر الناس تفهّماً.. لكن بنظري أنا لا أرى ذلك صحيحاً أبداً.. أبداً لن أبرّر لك.. باستطاعتك أن تخفي عن كلّ الناس.. لكن ليس عنّي أنا.. هذا إذا كنت تثق بي حقّاً. وتعتبرني الالملجأ الوحيد الذي تستطيع أن تكون فيه واضحاً وعلى طبيعتك، الملجأ الوحيد الذي تستطيع فيه أن تتخلى عن غموضك وأسرارك فيه.
ـ آن.. آن حبيبتي.. افهميني أرجوك..
ـ لا أريد أن أفهم أي شيء، وليس لدّيّ أيّ رغبة بسماع أية كلمة منك بعد الآن.. دعني وشأني ولا تتصل بي أبدا بعد اليوم.. دعني وشأني فهمت.. قد اكتفيت من كلّ شيء..
آنّا تغلق السماعة في وجهه بعنف ثم تسحب شريط الهاتف الأرضي بعصبية شديدة ثم تجثو على الأرض وهي تبكي وتسحب أنفاسها بصعوبة.. لكنّها ما تلبث أن تمسح دموعها وتنهض نحو المغسلةبرغبة منها لأن تعود آنا السابقة.. تلك الفتاة القوية التي لا يحطم عزمها وإصرارها أي شيء، ثم تبدأ برشق الماء على بشرتها مرات متتالية دون أي إحساس ببرودتها.. تغلق صنبور الماء وتسحب المنشفة دون أن تترك مجالاً لنفسها للشرود أو التفكير بما حدث للتو.
تتوجّه نحو غرفتها لتلقي نفسها في السرير. ثمّ تغمر رأسها بالوسادة لتبعد عنها صور الماضي.. لا فائدة.. إنه قابعٌ في أعمق أعماق روحها وقلبها وعقلها. تسرح بنظرها نحو الشارع من خلال زجاج نافذتها الواسعة. داخل مساحة الضوء المنبعثة من المصباح في الشارع تتراقص مجموعة من حبيبات الثلج بانسجام خيالي مع الرياح وسط العتمة التي لم تظهر فيها حبيبة ثلج واحدة خارج بقعة الضوء تلك. كما لو أنها كانت ترقص على خشبة مسرح لم يضىء سوى بقعة واحدة.. رقصت داخلها وأعتمت على ما حولها..
العاصفة الثلجية في الخارج تشبه العاصفة التي التي تتصارع أطرافها في روحها.. ففي الوقت الذي تصرخ كلّ نبضة من قلبها باسمه.. كان عقلها يصمّ أذنيه ويغمض عينيه كي لا يسمع صراخها.. كيف حصل لها ماحصل؟؟ كيف وقت في فخ عاطفتها؟
في البداية:
كانت سيرته تتردّد على ألسنة الكثير ممّن حولها من المعجبين وخاصة المعجبات ضمن دائرة العمل.. وعلى الرغم من أنه لم يكن ضمن فرعها نفسه بل في فرع آخر ومنطقة أخرى إلا أنها سمعت عنه الكثير. المفتّش الرهيب حسان!!
كان لاسمه وقع غريب في نفسها.
شهرته الواسعة في أنحاء المدينة جعلتها تشعر بالغيرة الشديدة منه.. فهي على وشك أن تُنسى كمفتّشة مجتهدة وذكية و مرموقة في زحمة الأحاديث الكثيرة المادحة التي تدور كلّها حوله فقط.
ـ ومن هو حسّان هذا؟؟ أنا أيضاً مفتّشة ذكية.. ونشيطة أيضاً.. ولديّ شهرتي ومركزي!!
هكذا كانت تحدّث نفسها من باب العزاء والمواساة لنفسها. لكنّها في الوقت نفسه كانت تتمنى أن ترى هذه الشخصية الرهيبة والمرعبة حسب قولهم ووصفهم.. كما كانت تتخيّل صورته في ذهنها وتضحك.. حيث كانت تراه رجلاً أربعينياًّ أصلع الرأس ضخم الجثة، لديه شارب غليظ مقطوع يشبه شارب نابليون.. غليظ الملامح مخيف النظرات.. ويحمل أمامه كرشاً يسمونه في منطقتها كرش الوجاهة. وتضيف لوصفها رتبته كمفتّش يخشاه المجرم ويرتجف لدى ذكر اسمه لكثرة أساليب التعذيب الوحشية التي يلجأ إليها لسحب اعترافاتهم وإدانتهم..
هذا المفتّش الذي لم يستلم يوماً قضيّة ما إلا وفكّ عقدها مهما كانت صعبة.. ويحلّ لغزها بذكائه المتّقد مهما كان معقّداً.
هذا المخيف الذي انتقل إلى المدينة منذ أقلّ من سنة.. مالبث أن سطع نجمه بقوّة وسرعة بين أوساط السلك الأمني في الدولة.
غيرتها الطفولية تكاد تقتلها.. وغضبها المكبوت على وشك أن ينفجر كقنبلة.. لدرجة أنّها بخيالها الواسع الشرير المخالف تماما لملامح وجهها.. رأت نفسها تذهب إليه لتقف أمامه وتطلق النار وسط عينيه وأمام الجميع.. ثم تذهب تاركة إيّاه غارقاً بدمائه.
لكم هي تضحك على نفسها من طريقة تفكيرها الغبية.. بمجرّد أن تتخيّل نفسها في هذا الموقف.
لم تعد تحتمل ثرثرة زملائها المطوّلة عنه... نهضت بتململ ودخلت مكتبها ثم أغلقت خلفها الباب وهي تتأفف من أحاديثه عنه التي أصبح مبالغاً بها. تقدّمت نحو النافذة وأشعلت سيجارتها وأخذت تدخّن ببطئ.. عيناها
الزرقاوين متّسعتين ثابتين في اللا شيءأمامها. أفكارها شاردة ضائعة ومتشابكة. مؤامرات كثيرة أخذت تتشابك في رأسها الذي علا ضجيج الغيرة فيه حتى كاد ينفجر. همست متململة:
ـ أين أنت أيّها الذكاء اللعين؟ هل عليك خذلاني في أكثر الأوقات التي أحتاج إليك بها؟
منذ أن ظهر لها هذا الذي يُسمّى المفتش الرهيب حسان.. وهي لم تعد تذق طعم الراحة في العمل والمنزل.. وتفكيرها دائماً مشغول.
كيف ستجعل نجمه يأفُل ويسقط.. لتبقى هي وحدها النجمة المشعة في سماء مكاتب التفتيش الأمنية؟
يقولون أنّ الغيرة تقتل صاحبها. إلا أن غيرة آنا تأبى قتلها فتريحها.
رنّو الهاتف الأرضي المفاجئة على مكتبها أخافتها، وقطعت سلسلة أفكارها الشريرة.. أطفأت سيجارتها على عجل وردّت بعد أن نفثت الدخان من بين شفتيها:
ـ نعم سيدي.. احترامي..
ـ مفتش آنا.. تعالي إلي مكتبي حالاً.
ـ ككا تريد سيدي.. قادمة على الفور.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي