خلف أسوار القلب

RouzanaRoze`بقلم

  • الأعمال الأصلية

    النوع
  • 2022-12-04ضع على الرف
  • 105.3K

    إكتمل التحديث (كلمات)
تم إنتاج هذا الكتاب وتوزيعه إلكترونياً بواسطة أدب كوكب
حقوق النشر محفوظة، يجب التحقيق من عدم التعدي.

2

أغلقت آنا السماعة وخرجت من مكتبها مؤجّلةً مؤامراتها إلى حينٍ آخر. وصلت مكتب رئيسها في العمل وأفكارٌ تأخذها وأخرى تُرجعها. همست لنفسها بحيرة قبل أن تطرق الباب:
ـ ما الذي يريده مني السيد المدير ياترى؟
طرقت الباب بلطف وانتظرت حتى سمعت رئيسها يقول من الداخل بصوت أجشّ يعبّر عن سن صاحبه الكبير:
ـ ادخلي آنا.
تدخل آنا فيشير لها النائب بيده بأن تجلس ريثما يُنهي مكالمته التي بدت مهمة على الهاتف، والتي فهمت من الجمل القصيرة المقتضبة فيها أنّ الحديث يدور حول الرئيس الجديد الذي سيستلم إدارة المركز بعد أن تقاعد السابق.
أغلق النائب السماعة ثمّ نظر إليها قائلاً:
ـ الرئيس الجديد سيصل الدائرة قريباً.. أي خلال أسبوع بالكثير.
ـ ألم يفصحوا من هو؟
ـ لا تستعجلي على شيء.. سنتعرّف إليه عندما يأتي إلينا.. ولكن أعتقد.. ولست متأكداً.. أنّه سيكون المفتش رواد.. فهو ابن المنطقة. وهو بصفاته وسمعته المهنية الأنسب لهذا المنصب.
ـ هل يمكنني أن أسألك سؤالاً سيدي؟
يحدّق فيها ويبتسم ابتسامة خفيفة ثم يقول:
ـ أعلم تماماًما هو سؤالك، وما الذي يدور في خلدك.. انت تتساءلين لماذا لم يتمّ تعييني لهذا المنصب؟ صحيح؟
تردّ آنا بارتباك وخجل:
ـ بالضبط سيدي؟ يبدو أن أفكاري مقروءة بوضوح في الآونة الأخيرة.
يضحك بهدوء ثم يقول:
ـ آنا.. هل نسيتي أنني أنا أيضاً على أبواب التقاعد؟ ثمّ أنّ مهنتنا بحاجة إلى جيل شاب قوي البنية وكامل النشاط.. قادر على العمل في منصبه بإتقان والتّرقي فيه لسنوات، نحن أخذنا دورنا ووقتنا بشكل كافٍ، وحان دور جيلكم أنتم الآن. وحان لنا أن نتقاعد و نرتاح، أليس كذلك؟
ـ أنتم قدوتنا سيدي.. لاغنى لنا عنكم. أسفة لأنك ستغادرنا يوما.. يحزنني جداً تخيّل ذلك.
ـ وفري حزنك الآن آنا، وتفرّغي للتركيز في الأيام القادمة، فمازال أمامنا سنة حتى يأتي تقاعدي، فأنا لن أترككم غداً.
يضحك ثم يتابع حديثه:
ـ المهم.. لقد طلبتك للحضور من أجل أن تقومي بكافة الإجراءات للتجهيز لكل مانحتاج إليه قبل قدوم رئيس المركز الجديد.. وإذا صدقت توقّعاتي وكان المفتش رواد هو المكلّف للمنصب.. فنحن في واقع الأمر سنواجه بعض المتاعب.
ـ حقّاً؟ لم أفهم سيّدي لماذا؟ على حدّ علمي المفتش رواد مفتش معروف بذكائه وتنظيمه وقدرته على القيادة. وأن إدارة المراكز ليست بمهمة جديدة عليه.
ـ آها.. سألتني لماذا؟؟ المفتش رواد ملتزم جدّاً وقاسٍ في تعامله مع أعضاء الفريق الخاص بالمهمّات.. وباقي الموظفين.. وأنتم للأسف.. أفسدْتكم بمعاملتي بعد تقاعد المدير السابق.. وهذا يعني أنكم ستعانون كثيراً قبل أن تتأقلمو مع للمفتش رواد وتحفظوا طباعه القاسية ومعاملته الجدية التي لا رحمة فيها.
تضحك آنا بصوت ضعيف وتخفض رأسها. فيتابع هو:
ـ سأفتقد لابتسامتك هذه في العمل في حال صدقت توقّعاتي.. صدقيني. حتى انت ستشتاقين لها.
يضحك النائب فتسأله آنا مذهولة:
ـ ألهذه الدرجة المفتّش رواد صعب الطباع؟
ـ بل أكثرمن ذلك.. هيّئوا أنفسكم.. وقومي بإعداد اللازم لاستقباله.. أريد ملفّات قضايا هذا العام كلّها المنتهية والتي مازلنا نعمل بها.. على مكتب الرئيس، إضافة إلى ملفات المفتشين والموظفين الإدرايين من الكبير وحتى أصغر عامل.. تفقّدي كلّ شيئ في المركز آنا. حتى النظافة.. وجهّزي غرفة الاجتماعات، ووفّري كلّ لوازمها ثمّ قدّمي لي تقريراً شاملاً عن كلّ شيء قمت به. الإجازات منذ بداية الأسبوع القادم ممنوعة ومرفوضة.. أريد أن يكون الجميع على أهبة الاستعداد لمجيء الرئيس الجديد.. مفهوم آنا؟
ـ مفهوم سيدي..
ـ عليك بالعجلة في العمل المطلوب آنا.. فلا نعرف أيّ يوم بالضبط خلال الأسبوع القادم سيفاجئوننا بمجيئه.
ـ لا تقلق سيدي. سأبدأ اعتباراً من الغد بكل الأعمال التي طلبتها، وسأكون عند حسن ظنك بي.
هذا ما أعوّل عليه عادةً.. حسناً آنا.. تستطيعين المغادرة.
ـ حاضر سيدي.. بالإذن.
خرجت آنا من غرفة نائب المدير قاصدةً غرفتها. وعند انتهاء وقت العمل.. أخذت حقيبتها وغادرت المركز بسيارتها، حيث عاودتها في الطريق نحو المنزل تلك الأفكار السوداء حول تحطيم نجم منافسها (حسّون) حسب قولها. وهو الاسم الذي اختارته له لتصغّر من شأنه.. وفي الطريق، أوقفت سيارتها أمام المتجر الرئيسي في المدينة لتشتري بعض الحاجيات التي تنقصها في المنزل. نزلت من السيارة وأفكارها شاردة بها في عالم آخر.. صعدت الأدراج وهي تبحث في حقيبتها عن الورقة التي كتبت عليها حاجياتها.. للحظة قصيرة اختلّ توازنها.. ماهذا الشيء الضخم الذي ظهر أمامها فجأة ولم تشعر به أو تراه.. لثوانٍ شعرت بدوارٍ خفيف. هذا الذي لازمها من أسابيع بسبب إهمالها لنفسها وغذائها.. ارتدّ جسدها قليلاً للوراء وكادت تفقد توازنها وتسقط لولا أن يسرع هو ويمسكها من يدها ويشدّه لتعود إلى توازنها.
مرّت لحظات قصيرة قبل أن تستوعب آنّا الموقف الذي حصل. وتستوعب هذا الغريب الذي يقف أمامها بملامح وجه باردة وعينان سوداوان ثابتتان في عينيها.
حدّقت آنا قليلا في وجهه بذهول، وما إن استفاقت من ذهولها حتى تغيّرت ملامح وجهها الطفولية وظهر الوجه الآخر لديها.. وجه المفتشة أنّا التي سحبت يدها من يده وصرخت غاضبة:
ـ هل أنت أعمى؟؟ ألا ترى أمامك؟؟
الغريب الذي يقف أمامها يزيد من ارتباك آنّا حين يصمت قليلاً بعينين ثابتتين تماما في عينيها ونظرة جامدة مخيفة، لكنّه مايلبث أن يردّ عليها ويقول ساخراً:
ـ أنا حقّا أعتذر.. كنت مشغولاً بإخراج شيء ما من حقيبتي ولم أنتبه إلى أنك آتية نحوي.. وبالمناسبة.. شكراً لأنك أمسكتي يدي. فلولاكِ لكنت الآن مكوّم الجسد أسفل هذا الدرج وأصرخ من آلامي وربما تكسّرت أضلعي..
أنا للحظة تخجل من حماقتها لكنّها وبسبب كبريائها تردّ بغرور:
ـ و هل طلبت منك ذلك؟؟ تقوم بفعل الخير وتمنّن الناس به؟ ابتعد عن طريقي هيا.
آنا تنعطف يميناً لتدخل المتجر.. يد الغريب تسحبها بشدة نحوه.. آنا تنظرإليه بفزع وهو يقول لها بصوت هادئ جدّاً لكنه مخيف. ودون أن يخفض بصره نحوها:
ـ كوني على ثقة لو أنّك كنتِ رجلاً لحطمت وجهك الجميل هذا وملأت فمك بالدماء.. واحمدي الله أنّك فتاة. وفي المرّة الأخرى افتحي عينيك جيداً، وانتبهي للطريق أمامك.. ولا تشردي.
يترك يدها بشيء من القسوة، ثمّ يضع نظارتة الشمسية السوداء وينزل الدرج.. فتصرخ فيه آنا غاضبة :
ـ من تظن نفسك؟؟ هل تعرف مع من تتحدّث؟
الرجل الغريب يتابع طريقه نحو سيارته دون أن يلتفت نحوها أو حتى يبالي بحديثها.. آنّا تابعه بعينيه وهي مصدومة بلا مبالاته.. تحدّث نفسها بصوت ضعيف:
ـ كأنّه يقلّل من شأني ويستهين بي؟ لم أرَ بحياتي وقاحة كهذه! عليك اللعنة. لن أشغل رأسي بك الآن، فلديّ الآن مايكاد رأسي ينفجر بسببه ويسلب مني الراحة والنوم.
تلتفت نحو باب المتجر وتدخل وحمرة الغضب قد علت وجهها.
تعود أنا إلي منزلها وهي تعاني من صداع رهيب.. تغير ملابسها ثم تنعطف نحو المطبح لتحضّر لنفسها كوب نسكافيه علّه يمدّها بقليل من النشاط لتباشر كتابة مهامها..
عقلها مشتّت بين التحضيرات لاستقبال رئيس المركز الجديد الذي انتابها القلق منه إذا صحّت توقّعات النائب. إذ أن المفتش رواد يلقب بقرصان المفتّشين كتوصيف لقسوته وقوته.. وبين المفتش حسان الذي تكاد الغيرة منه تأكل جوفها وتسلبها وقارها أمام نفسها كمفتّشة ذكية ونشيطة.. تتناول علبة النسكافيه من كيس المشتريات التي ابتاعتها من المتجر.. ثمّ تتذكّر للتو الحادثة التي حصلت معها أمام المتجر .. تشرد وهي تحدّث نفسها:
ـ هذا الشاب الوقح و الغريب الأطوار.. من يظنّ نفسه؟ هذا تحديداً ماكان ينقصني اليوم!!
تطفئ النار وتضع الماء المغلي في كوبها فوق حبيبات النسكافيه ببطئ وتعود لتحدّث نفسها وهي تدور بملعقة صغيرة داخل الكوب لتمزج محتوياته مبتسمة بغباء:
ـ لكن لله.. الحق يُقال.. أنّه شاب وسيم.. وسيم جدّا بلباسه الرياضي وقامته الطويلة وشعرة الكثيف الأسبل والمصفّف بعناية..
تضع آنا كوبها البلوري فوق رأس الغاز وتتابع شاردة:
_ وتلك الذقن السوداء المعتنى بها جيداً.. لطالما أحبت أمي هذا الجمال.. لذلك عندما رأت أبي لأول مرة سقط منها قلبها ولم تعد ترى شيئاً..
تبتسم بوداعة وتضحك ثم تتابع:
ـ آه أمي.. كم اشتقت لك.. يجب أن أكلمك اليوم فأنا حقّا مقصّرة تجاهك..
تلتفت آنا نحو كوب النسكافيه فوق رأس الغاز المطفأ أساساً.. تحدً فيه قليلاً ثم تنفجر ضاحكة و ساخرة من نفسها:
ـ يال غبائي.. ظننت نفسي أعدّ القهوة ونسيت بسبب أفكاري الشريرة أنّها نسكافيه.. من الجيد أنني أطفأت النار وإلا كان كوبي الآن قد تحول إلى قطع متناثرة لم يبق منها في يدي إلا مسكته.. والغاز ممتلئ بمشروب النسكافيه.
تأخذ آنا كوب النسكافيه الساخن، ثم تتوجه نحو غرفة العمل الخاصة بها، و التي كانت عبارة عن مكتب كبير مجهّز بحاسوب محمول حديث وطابعة صغيرة وكرسي متحرك جهزته آنا بالوسائد ليكون مريحا لها أثناء العمل، مكتبة للأوراق والكتب، كرسيين جلديين أمام المكتب، وأريكتين وطاولة في الجهة المقابلة مع شاشة تلفاز عل الحائط، ومجموعة جميلة من أصائص الورد ونباتات الصالون الخضراء الموزعة بعنياة في الزوايا. تفتح آنا شاشة التلفاز وتضعف صوتها لتكون ونيساً لها، ثم تباشر عملها بحماس على محمولها الشخصي. لكن لم تمضِ إلا نحو الساعة منذ بدأت العمل.. حتى بدأ النعاس يتسلل إلي عينيها الزرقاوين الواسعتين. أغلقت آنا حاسوبها المحمول و أطفأت شاشة التلفاز ، ثم تسللت إلى غرفة نومها. وما إن وضعت رأسها على الوسادة حتى استسلمت لنوم عميق لم ترى فيه أي حلم حتى وقت استيقاظها بسبب تعبها الشديد.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي