الفصل العشرون

يعود مجدي مبكرًا ويتجه لغرفته وتتبعه سامية وقد علمت من إنجي ما طلبه منها. تستغرب سامية بعض الشئ حين تعلم أن مجدي هو منْ قرر أن يكون الأمر لها بالموافقة والرفض. وتوافق سامية أن ينزل الفيديو الخاص بإنجي على أن يجلسا معًا قبل المتابعة بفيديو أخرلتقييم الأمر. وتكتسب إنجي ثقة من أمها بأنها ستختار الأنسب وما في مصلحتها. وبعد جلسة حميمة بينهما اقتنعت إنجي أن الأولوية للمذاكرة، ووافقت أمها على عمل فيديو واحد كل عشرة أيام على أن تتباعد الأيام أكثر في حال تأثر المذاكرة، وتتوقف وقت الامتحانات. ووعدتها جيلان أن تساعدها وتقوم نيابة عنها ببعض المهام الخاصة بالتصوير والمونتاج كما أن الشركة المعلنة التي أرادت التعاون معها، ستقوم بالتواصل مع أبيها. حتى حازم تعلم بعض مبادئ التصوير ليساهم معهم.على أن يصب كل هذا في النهاية عند سامية لتقييمه. وكعادتها تحكي لمجدي كل شئ خطوة بخطوة ولكن أبدًا لم يحاول أن يثني على ما تفعل أو ينتقد قرارتها، ويكتفي بأن يهز رأسه بأنه يسمعها جيدًا، وفي كل مرة ينسحب مجدي دون تعقيب. ربما لا يجد شيئًا مقنعًا أكثر يمكن أن يضيفه وربما هروبًا من الثناء على قرارها. وفي المرة الأخيرة وبعد تردد قررت أن تسأله:
- هل لي أن أعرف لماذا لا أسمع رأيك فيما أفعل ؟
- مؤكد لو أن شيئَا فيما تفعلين لا يعجبني سأخبرك.
- وماذا لو أن شيئًا أعجبك ؟ ألا يستحق الأمر بعض التشجيع ؟
- حسنًا. أنت تبلين بلاءًا حسنًا وتتصرفين بذكاء. أحسنتِ.
- لم أعد جاهلة ؟
- لا. حاشا لله. لم تعدي جاهلة.
- ولماذا حين كنت في نظرك جاهلة كنت تعبر عن رأيك، أما وأنا أتصرف بذكاء تبخل ولم تقلها طواعية ؟
- لأنك تتحدينني وتتحدين هذا الوصف. وتصنعين كل هذا لتثبتين لي أنك لست جاهلة. وأخاف إن أثنيت عليكي تشعرين أنك وصلتِ لمبتغاكِ وينطفئ الحماس.
- ( في غيظ شديد ) مخطئ. أنا لا أتحداك. ولا أريد أن أثبت شيئًا. لقد كنت داعمة لك طوال الوقت، وتقر بأنني ساعدتك في اتخاذ قرارات مهمة، ولو بالدعم. ورغم ذلك لم أسلم من انتقادك لي ووصفك لي دائمًا بالجاهلة. وفعلًا كنت في البداية أغضب وأجري لأتعلم مع الأولاد لأثبت لك العكس وفعلًا كان يهمني ساعتها رأيك، رغم أنني قررت ألا أخبرك يومًا بما أفعل. طوال هذه السنين التي كنت تنعتي بها بالجاهلة، كنت أقرأ كل الكتب الموجودة بالمكتبة والتي كنت تجلبها فقط على سبيل الزينة. ما فعلته اليوم مع إنجي كان عن دراسة ووعي. ومع ذلك لم أجرؤ أن اتخذ قرارًا دون الرجوع إليك. حتى حين قررت أن تترك لي القرار في موضوع إنجي كنت أطلعك أولًا بأول على ما أفعل. ألم يدر بخلدك ما السبب ؟
- بلي. ربما لأنك تثقين بقراري أكثر ربما ... لا أعلم أخبريني ما السبب ؟
- لأن علم النفس وجميع الدراسات الاجتماعية تؤكد أن التربية السليمة مشاركة وأن رأي الأب الحازم لابد أن يتجاور ويتكامل مع رأي الأم المبني على العاطفة. وعلم النفس يقول أيضا أن الأبناء لا بد أن يعتبروننا جبهة واحدة وقرارتنا وقناعتنا متقاربة فنبني لديهم حصن مشابه من المبادئ دون تضارب. هل تريد المزيد ؟
- ( مذهولًا ومعجبًا ) جميل ما قلتيه ولا بد أن تفتخري بنفسك. أنا تاجر وكل ما أفهم فيه هو المكسب والخسارة. حتي إن حسبتها بهذا المبدأ فما فعلت كان مكسب لنا ولأولادنا.
- لا. بل خسارة وحولتها أنا لمكسب. أتعلم أن وصفك لي بالجاهلة أمام الأولاد منعهم من الثقة في رأي فهم يخافونك ولا يجدون ملجأ عندي لأنك أفسدت عليهم هذا الملجأ وتؤكد كل حين أن لا يصلح للمشورة. جيلان كانت في مشكلة كبيرة ما كان يمنعها أن تحكي لي أنني سأخبرك وأخذ منك الرأي ولا رأي لي. وربما يكون نفس الحال عند حازم حين وقع في مشكلة.
- إذن في النهاية تريدين أن تثبتي لي أني أنا الجاهل.
- لا أريد أن أثبت شئ لأحد.ولكنني أظن أنك مدين لي بالاعتذار.
يقف مجدي في مواجهتها ويتجنب أن ينظر لعينيها:
- أنا أسف. مبسوطة ؟
قالها وتحرك خارجًا لعمله، كانت تتمني أن تكون أقل حدة معه فهو زوجها ولا تريد أن يهتز كبرياؤه أمامها، ولكنه كان لا بد أن يراها ويسمعها.وكانت تتمنى أن يعتذر بشكل أكثر لطفًا واقتناعًا.

جلست عائلة رضوان في جلسة عائلية مصغرة أمام الشاليه بعد المغرب، حيث انطلق أولًا أولاد دينا للعب بعيدًا ثم استطاع عماد مرة أخرى أن يُفلت أولاده من ترتيبات وخطط دلال، فأرسلهم للعب معهم. ويبدو أنه مع تكرار اختراق النظام وكسر قواعدها استسلمت فلم تعد تعلق أو تتذمر، وبعدها يقرر دينا وهشام التنزه معًا بالقرب من الأولاد، وأبيها يقرر أن يذهب للصلاة والنوم قليلًا. وهكذا يتسلل أفراد العائلة من الجلسة واحدًا تلو الأخر تاركين عماد ودلال منفردين. وبعد صمت طويل وتردد ممن جانب دلال تبدأ في سؤاله :
- ألا تريد أن نسير قليلاً ؟
- لا. فقد سبحت مع الأولاد كثيرًا وظهري يؤلمني.
- (في توتر) ظننتك طوال هذا السنين موافق على ما أفعل من نظام وتؤيد خططي وأنه يروق لك أن نعيش بهذا الشكل بعدما ذقت الفوضى لسنين بعد وفاة والدتك.
- لم تكن فوضى يا دلال كانت نظام أيضًا فهناك نظامان في الحكم النظام الديمقراطي والنظام الديكتاتوري.
- لا بد من نظام صارم ومحدد في البداية وبعد ذلك نترك لهم الحبل على الغارب لا يصلح أن ترميهم البحر قبل أن يتعلموا السباحة.
- وماذا عني وقد تعلمت السباحة ونضجت بما يكفي ؟ لماذا مازلت أسير معهم في مرحلة النظام الصارم ؟
- لأننا قدوة لهم.ولابد أن يقلدوننا.
- ( بصوت أهدأ) دلال أتفهم ما تقولين فلتصنعي نظامًا كما تشائين، ولكن فليكن أكثر مرونة من هذا النظام الصارم وإلا سيشعرون بعد ذلك بالحاجة للتمرد .
- أتعلم ؟ لقد اقتربت كثيرًا من دينا في تلك الأيام القليلة وأصبحنا أكثر قربًا من ذي قبل.
- جميل أن تكوني أخيرًا وجدتي أحد من عائلتي يصلح لصداقتك. ولعلمك دينا كانت دائمًا تدافع عنك.
- ( معاتبة) لقد كانت متفهمة أكثر منك لما أفعل. ربما لا تتفق مع ما أفعل ووجهة نظرنا مختلفة ولكنها تقريبًا قالت لي ما قلته أنت للتو (ضاحكة) أخوات.
- (باقتضاب) فعلًا يا للا المفاجئة.
تسأله راجية أن يكون قد لاحظ :- ألم تلحظ أني تغيرت أو أحاول على الأقل ؟
- طبعًا لا حظت خرجت من مرحلة اقتناعك أننا لسنا روبوت بقي أن تقتنعي أننا بشر دم ولحم نخطئ ونصيب.
- لا أفهم ماذا تقصد ؟
- ( بصوت عال وحاد كمن انفجر أخيرًا) أغلطي. أغلطي يا دلال ذوقي طعم العشوائية والتعثر. ليس دائما المثالية هي الأصح. ولا تنصبي نفسك دائمًا حكمًا فوق البشر تعرفين الصواب دون غيرك.
لأول مرة منذ زواجهما ينفعل عماد ويثور بهذا الشكل، ولأول مرة لا تنتقده ففي السابق حتى حين يقرران الإعلان عن خلافهما في أمر ما، كان عليه أن يتحسس كلماته ويضبط انفعالاته أقل درجة ممكنة حرصًا ألا يسمعهم الأطفال أو شكلهم بين الجيران وأجبرته أن يتابع معها تمارين ضبط النفس والتحكم في الغضب وتطالبه بتنفيذها في غمرة أي عراك :
- (مستغربًا) غريبة أنكِ هذه المرة تركتيني أغضب وأرفع صوتي كما أشاء ولم تقومي بالتمارين إياها معي ؟
-( تقترب منه ) أعتقد أنه أمر صحي أن تعبر بعشوائية عن غضبك دون ضبط . ثم أنك كنت تطالبني بأن أغلط اعتبر هذه أول غلطة.
يهدأ عماد ويشعر أن أمرًا تغير في دلال.ويحاول أن يسري عنها فيقترح عليها السير معًا على الشاطئ وفي أثناء سيرهما يحاول أن يخرجها من تحفطها ويجري وراءها لتزداد بهجة ومرحًا ولا تحسب درجة انفعالها وتفاعلها معه كما كانت في السابق.

تتحدث تالا لأبيها بكل ماحكت له وهو بالمستشفى في غيبوبته. فأخبرته عما مر بها قبل أن ترحل أمها وحين سافرت لمصر، وكيف لم تجد حتى أقارب له تعرف منهم أين هو. وكيف ظنت أنه بأمريكا إلى أن انتنهب بها الأمر ووجدته في كندا. ويحكي لها كيف ترك مصر مجبرًا ومحبطًا، بعدما اصطدم بروتين الجامعة التي رفضت تعيينه والعراك الذي خاضه وقرر على أثره أن يترك مصر، وكيف أن أمه ماتت في نفس التوقيت فشعر أنه لا مكان له هناك :
- فكرت أن أعود لإنجلترا وأبحث عنكما وبالفعل جهزت أوراقي وحصلت بالفعل على التأشيرة وانتويت السفر إلى هناك ولكن تغيرت الخطة تمامًا وتبدلت 180 درجة حين وصلتني رسالة إليكترونية من جامعة تورينتو بكندا بقبول بحثي وتعيني بالجامعة وعلي القدوم في أقرب فرصة. عرض لا يمكن رفضه.
- بالتأكيد قبلته وألغيت سفرك لأنجلترا.
- لا. كان العرض مغري لا شك لكنني طلبت منهم أن يمهلوني شهرًا، وسافرت بحثًا عنكما. ووجدت أن أمك غادرت لندن تمامًا ولا أحد يعلم إلى أين ذهبت. وظللت طوال الشهر أبحث عنها على أمل أن تسافرا معي أو على الأقل أسافر وأنا أعلم أين تقيمان.
- كان غضب أمي منك كبير. وهو ما جعلها تقطع كل الاتصالات بأي أحد حتى لا تستطيع من خلاله الوصول إلينا. ولكنها ندمت بعد ذلك حين داهمها المرض، ولم تجد أحدًا بجانبي إذا رحلت. لذا طلبت مني السفر إليك.
- سامحيني يا بنيتي لم أكن لأخمن أن تأتي إلى مصر بحثًا عني.
- كانت تجربة رائعة شعرت فيها بالألفة والدفء وكونت أصدقاء ( في خجل ) وأحببت.
- أوه ! رائع لديك حبيب في مصر ؟
وتبدأ تحكي له بشغف عن إسماعيل وقصتهما التي كانت في بدايتها ولا تعلم كيف تكتب نهايتها. رغم ما أبدى محمود من سعادة لارتباط ابنته ولكنه شعر بأن يوما ما سيأتي الحديث الذي لا يشتهيه عن عودتها لمصر.


بينما في مصر نجد إسماعيل شوقًا لها ولا يفوّت مناسبة ولا حديث إلا ووضع اسمها في جملة مفيدة. ويحاول آسر أن يخفف عنه ويليهه ويخبره أنه وافق على دخول الامتحانات والانتهاء من الكلية حتى لا يغضب أباه بعدما أنصلحت الأمور بينهما. ويثني إسماعيل على اختياره وأنه الأفضل، وأنه لايجب أن يعتمد على الفن كمصدر رزق حتى يستطيع أن يبدع دون قيود :
- لو كانت تالا هنا لاختارت لك أن تكمل بالفن فهي لا تؤمن بأهمية الشهادات كما نفعل نحن.
- حقًا ؟ ففي أوروبا لا تسير الأمور كما تسير هنا.
- أتعلم تالا حاصلة على ....
- (يقاطعه ) حكيت لي يا إيمو عن تالا منذ ولادتها حتي الآن. لم يبق إلا أن تحكي كيف كانت تشرب الشاي وكيف تأكل الكيك.
- صعب جدًا أن تعتاد فراق حبيبك والأصعب أنك لا تعلم هل سيعود أم سيختار الفراق.
وما إن بدأ المزاج ينحدر بإسماعيل حتى بادر آسر بمشاكسته. عندها رن هاتفه وبعد مكالمة تلون فيها ووجهه فرحًا وعلت وجهه كل علامات الترقيم يتوجه لآسر ليفصح له عن مضمون المكالمة:
- إدارة الأوبرا استحسنت العرض الذي قدمته في الحفل، ووافقت على أن أقوم بعرض لوحاتي في القاعة الرئيسية على أن أقدم عرضًا كعرض الحفل في الافتتاح ومثله في الختام.
- مبروك خبر سار جدًا يستحق الاحتفال.
- سأخبر تالا أولًا.
وقبل أن يبدأ الاتصال تأتيه مكالمة من أحمد زميله بالمدرسة يخبره بأنه اضطر أن يضع أدواته بالمخزن لحاجته للمكان ولا يرد، وإنما يتجه بحديثه لآسر بعد أن يغلق المكالمة:
- سأقدم استقالتي. تالا ستفرح.
يتذكر آسر نصيحته التي لم يمر عليها إلا دقائق بتكملة كليته ولقمة العيش المضمونة فينظر ليه مغتاظا، ويبدأن في نوبة ضحك هستيري.


في البالكون بشقة رشا يخرج صوت أم كلثوم وأغنيتها " بعيد عنك " فتقترب حكمت لتجد عبد الله ورشا جالسان يستمتعان بالأغنية ومندمجان تمامًا معها. فتنسحب حكمت ثانية وتناديها رشا :- هذه الجلسة لا تحتاجني.
يعقّب عبد الله وهو يجلسها بجواره :- نحن نعلم أنك تستيقظين الآن فجهزنا هذه الجلسة لكِ.
وتقف رشا وتسرع نحو المطبخ :- سأقوم لأحضر بعض التسالي والمشروبات.
تجلس حكمت بجوارعبدالله وهي تسأل :- هل حقًا ما قلت؟
يضحك عبد الله :- أنا أكذب مرة واحدة، صعب أكذب نفس الكذبة مرتين.
فتضحك حكمت : - قبلت المجاملة.
يتنامى إلى سمعهما سقوط بعض الأشياء بالمطبخ فيسرع عبد الله ليطمئن على زوجته. وتحاول حكمت اللحاق به بخطوتها البطيئة التي تخذلها قبل أن تصل ويدخل المطبخ ليجد رشا وقد سقطت على الأض مغشيًا عليه ويحاول إفاقتها ويخرج بها من المطبخ ليُطمئن حكمت :
- هل أنتي بخير يا ابنتي ؟
- نعم يا أمي شعرت بدوخة مفاجئة لكنني الآن بخير.
تقترب رشا من أمها لتهدأ وما إن تحاول تقبيلها تشعر بغثيان وتتجه للحمام فيشعران بأن الأمر غيرطبيعي ويحتاج لطبيب وتعقب حكمت:
- أو لاختبار حمل.
تخرج رشا وتسمع ماقالت أمها ولاتصدق أن يكون بالفعل حملًا .وتحثها حكمت لطلب الصيدلية وأمرت عبد الله أن يٌجلس ابنتها وعليها من الآن أن تظل دون حراك.
- (ضاحكة) أمي هوني عليكي من الممكن أن يكون مجرد دور برد لا أكثر.
وبعد لحظات من التأكد تستدعي رشا سميحة لتشاركها اللحظة، ويعم الفرح الجميع وتبكي حكمت من الفرحة وتشعر بالأسى فتقرب ابنتها لها :
- أسفة حبيبتي حرمتك وحرمت نفسي هذه الفرحة طويلًا.
- أمي لا داعي لتتذكري شئ محزن نحن فرحون الآن. أنسي يا أمي.
يتسابق الجميع لخدمة رشا التي تبدو غير مصدقة فأمها تطالبها بالجلوس، ويذهب عبد الله لعمل عصير، وسميحة تمنح تعليماتها وخبرتها لصديقة عمرها.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي