الفصل الثالث

لا تتيقن أنك قريب إلا حين تبتعد

في مدخل العمارة يلحظ مجدي القاطن بالدور الثاني سيارة الإسعاف، ولا يجد أحدًا ليسأله ولا حتى سعيد فيكمل لشقته حيث يستأثر بالدور الثاني كاملًا جهزها له أبوه رجل الأعمال المعروف الحاج فتحي السرحان صاحب مصانع السرحان للأدوات المنزلية والذي كان يحتفظ رغم ثرائه بهيئته الريفية.
كان أبوه معروفًا بكرمه وأعماله الخيرية التي طالت الكثير ولكن حين تعرض قبل وفاته لضائقة مالية خسر فيها الكثير من أمواله وأملاكه، لم يتبق له غير المصنع الأصلي، وظل لما يقرب من عامين طريح الفراش فأصبح ابنه مجدي يدير المصنع نيابة عنه والذي كان على عكس أبيه متشددًا وكثيرًا ما كان يلوم أبيه على إسرافه ومعاملته اللينة مع العمال والموظفين. ويرى أنها السبب فيما حدث له . فكان أول ما فعله هو أن استغنى عن كثير من العمال بحجة أنهم لن يستطيعوا مجاراة التقنية الجديدة التي قرر أن يمد بها المصنع. بالرغم من أن هؤلاء العمال لم يتركوا والده في شدته وارتضوا بتخفيض مرتباتهم لحين تحسن الأوضاع بالمصنع.
واستطاع مجدي في غضون أعوام قليلة أن يعيد مكانة أبيه ويتوسع في بناء مصانع على أحدث التقنيات ويستعين بأمهر العمال والخبرات بل ويحاول غزو الأسواق العالمية وكانت وصية أبيه أن يحاول أن يلين قلبه تجاه العمال والمظفين بالمصنع فيكبر انتمائهم للمصنع.
ولم يكن هذا هو الدرس الوحيد الذي حرص الأب يستوعبه مجدي فقد تزوج ابنة عمه وزوجته سامية وأنجب إنجي وجيلان وحازم الذي جاء ميلاده بعد سنين أصر فيها والده أنه لابد أن ينجب ولدًا. كان الأب يقطن معه قبل رحيله وحين لاحظ جفائه تجاه أولاده أقسم بأنه لن يكون راضيًا عنه إذا سمع أو عرف أنه طال أحد منهم بالضرب أو الإهانة خاصة بناته لأن البنات لابد أن يعاملن كأميرات حتى لا يسمحن لأزواجهن بإهانة أو جرح لكرامة فكان لزامًا على مجدي أن ينفذ ذلك في البداية تنفيذًا لوصية أبيه حتى لا يغضبه وبعدها شعر بمحبة بناته وحنانهما وأنه هذا هو يعطي طعمًا لحياته.
يصل مجدي لشقته وتستقبله زوجته التي مازالت تحتفظ بلكنتها وهيئتها الريفية بالشعر الطويل المجعد وتعقده للخلف بفارق من الأمام لا تعرف من المساحيق الأ القليل وبإيعاز من بناتها ورغم ذلك ترتدي ملابس حديثة لكنها محتشمة وينطبق عليها تماما مقولة عفوية الريف وبساطته التي لم تلوثها المدنية.
يسألها مجدي عن أمرسيارة الأسعاف فتنفي معرفتها بالأمر فتأتيه مسرعة جيلان ابنته الصغري ذات الأربعة عشر عامًا سريعا نحوه :- لو أردتم معرفة القصة فهي عندي أنا رويتروز العمارة . ينظران لها في استغراب وشغف وتبدأ جيلان في سرد ما تعرفه.
بينما أختها أنجي في غرفتها تشاهد الفيديو الذي انهته للتو وتستعد لتحميله على حساب التيك توك الخاص بها يأتيها رسالة من مروان الذي سبق واتصل بها وأعرب عن رغبته للتعاون معها لكي يوصلها لبعض الشركات لتعلن عن منتجاتها واقترح أن يكون بينهما لقاء لإتمام الاتفاق ولكنها أخبرته أنها لا ترغب في ذلك الآن وربما تغير رأيها بعد أن تنتهي من الثانوية العامة. وها هو يعاود الاتصال في محاولة أخرى لإقناعها أن الجهد كله سيكون من نصيبه ولاتحمل همًا لذلك:-
- دعي لي نفسك لا أريد سوي موافقتك وهي هي نفس الفيديوهات التي تقومين بها ولكن بتفاصيل الأعلان ومحتوى سنتفق عليه.
-لا أعتقد أن ذلك ممكنا الآن كما أن لقاءنا ليس بالأمر السهل فلابد أن أخبر أهلي بهذا.
-كما تريدين لكن أرجو ألا تفوتي الفرصة فالمكسب خيالي.

يفيق رضوان من غيبوبة السكر ويؤكد الدكتور أنه لا حاجة لنقله للمستشفي ويمكن متابعته في البيت وفتح رضوان عينيه للحظات يتأمل من حوله ثم يثبت عيناه عند عماد ودنيا كأنما كان يتأكد من وجودهما ويعود للنوم ثانية ليحمد الجميع الله على سلامته وينسحبون كل إلى شقته.  
ينظر عماد لشقيقته ويشير إليها بالخروج من الغرفة:
- هل من الممكن أن تفسري لي ماذا يحدث؟
- حاولت على مدار خمسة أيام الوصول لك أنت وزوجتك ودائما هاتفك غير متاح.
- سافرنا لإسبانيا منذ أسبوعين.
- دون أن تأتي لتودعنا ! أو حتى تتصل ولكن لماذا ألومك؟ هل تذكر أخر مرة زرت فيها أباك؟ مؤكد لا تذكر فهو منذ زمن.
- ليس هذا الوقت المناسب للعتاب لماذا أتي أبي إلى هنا ؟
- وكيف علمت بوجوده هنا ؟
- لقد عدت بالأمس ووجدت اتصالات كثيرة من سعيد ظننته يريد الإيجار واخبرني ساعتها بما حدث
- لاحظت الاتصالات الكثيرة من سعيد ولم تلحظ اتصالاتي طوال خمسة ايام التي غاب فيها أبي؟
- كنت مسافر كما قلت وعدت للتو وسعيد أخبرني بوجودك.
تصمت دنيا فيحاول عماد تغيير الموضوع :
- ما موضوع الخمس أيام أين تظنين كان أبي طوال هذه المدة؟
تنظر إليه دنيا متحيرة :
- حين يفيق سنحاول أن نعرف.
لم يتغير عماد كثيرًا فشخصيته المسلوبة تمنعه من التورط في مسئولية رعاية أبيه حتى أنه كثيرأ ما يتهرب من ملاقاة أخته لأنه على علم مسبق بوصلة اللوم والعتاب التي ستنهال عليه ولا يجد لها ردًا حاضرًا كما أن دلال زوجته تنزعج حين يأتي أبيه ليبيت أو حتى لزيارة خاطفة ولو يوم واحد وتحيل حياته لجحيم وربما يصل بها الأمر لترك البيت وهو ما حدث بالفعل حين تعبت أخته يومًا في الولادة وتم حجزها بالمستشفى فاضطر لاستضافة أبيه وكان عليه هو أن يقوم برعايته وخدمته دونها حتى يسلم من عصبيتها وكان الناتج أنه خسر صفقة مهمة كان يننتظرها وخصم له صاحب الشركة من راتبه فتركت زوجته المنزل مستنكرة ما حدث وأنها وأولادها لن يحتملوا أن تقل مصاريف الشهر التي أعتادوا عليها منذ ذلك الحين وترفض دلال استضافة الأب ويحاول عماد أن يتجنب غضبها فكانت النتيجة قطيعة شبه تامة مع أبيه وأخته.

في أحد مقاهي وسط البلد بعد انتهاء اليوم الأخير من امتحانات الفصل الدراسي الأول يجلس عمّار مع مجموعة من أصدقائه وقد ارتدي معظمهم الملابس المعتادة بين لشباب من الجينز المقطع وزين بعضهم صدره ومعصمه بالسلاسل التي تحمل أشكال مختلفة كالجماجم أو الوشوم التي تحمل أحد النجوم يبدو الجميع منشغل عنها إما بالنظر في الهاتف أو بلعب فيفا على البلايستيشن أومتابعة المباراة والانفعال معها بينما يجلس عمّار واضعا سماعته ويشاهد أحد الفيديوهات الخاصة باليوتيوبر محسن مندوه الذي يتحدث فيه كعادته للشباب في أمور وتساؤلات تخص حياتهم ومعتقداتهم وكان الفيديو الذي استحوذ على اهتمام عمّار يتحدث عن عدم تقديس الشخصيات التاريخية وأنهم بشر مثلنا لهم أخطائهم ويسرد بعض السقطات التي وقع فيها هؤلاء العظماء ! يترك عمّار هاتفه للحظات متابعًا هدفًا يسدده سامر صديقه بمهارة ويعلق:
- يا ولد يا حريف!
- دورك يا عمّار فلتأت لنلعب مرة حتمًا سأهزمك.
- لا، فلتنس الأمر كما أني لابد أن أتحرك.
يتدخل أمجد موجها خبطة خفيفة لكتف عمّار:
- مؤكد أنك تمزح لازال عندنا الوقت ثم لابد أن نتفق على الرحلة هل استقر الأمر على الغردقة أم دهب لكي أقوم بالحجز؟
يرد سامر: - دهب بالتأكيد اتتفقون معي؟
ينظر للجميع ويبدي الجميع الموافقة سواء بإيماءة أو برفع علامة ال (أوك) منشغلين بهواتفهم أو متابعة الأحاديث الجانبية:
- تمام سأتدبر أمر الحجز وأبلغكم على مجموعة الوتساب.
يبدأ الكل في الالتفات لعمر والسؤال عن التفاصيل والتكلفة:
- التفاصيل على جروب الدفعة يا صديقي أنت وهو (يضحك الجميع) فالبنات لم يعرفوا بعد ولكي يقال الكلام مرة واحدة.
ينتبه الجميع لصوت سماعات المقهى حين يعلو صوت أغنية من أغنيات المهرجانات الجديدة ويقوم عمر ليرقص ويتفاعل الجميع معها.

يجلس سعيد وزوجته وهي تحتضن ابنها الرضيع حسن أمام العمارة يتسامران حين يخرج من بوابة العمارة رحاب ورضوى بنات الأستاذ صادق الذي يظهر خلفهما ولا يلقون التحية بل لا يلتفت أي منهم نحوهما وما أن يبتعدون تتعجب زينب:
- لا حول ولا قوة إلا بالله السلام لله لا أتصور كيف يعيشون بهذا الشكل.
- والله كثيرًا ما أشفق عليه حين أشاهده يحمل مشترياته ويصعد خمس أدوار كاملة وأكون على وشك أن أساعده ويمنعني خوفي أن يقابل ذلك بجفاء واتذكر ما عله بنا حين قررألا يشارك السكان الزيادة وحين اعترضوا قرر أنه سيستغنى عن خدماتنا تماما.
- أتعلم أنه مديون لنا فهو يستخدم السلم ولا يكفي أن تمسح زوجته أمام شقتهم ناهيك عن حراسة العمارة
ماذا نقول لقد قبل على نفسه ولا أعرف كيف استطاع أن يقنع نفسه بذلك.
-لكي يبرأ من ذنبنا عليه ألا يستخدم السلم.
يعلق ساخرا :-يصعد إلى السطح ويطير.
يضحكان وتسمع زينب شجار طفليها أحمد ومحمد بالمدخل وتسرع إليهما فيبدأ في تصفح هاتفه ويفتح حسابه على التيك توك ويبدأ في مشاهدة أحد الفيديوهات التي تقدمها انجي ابنه استاذ مجدي
-الله عليكي يا إنجي جميل.
تسمعه زينب لتخرج إليه متوعدة في غضب وتهم لتبدأ في مشاجرته
-منْ إنجي ؟
ينظرلها سعيد وهو فعلا سعيد أنه أثار غيرتها فلا يرد عليها متجاهلًا فضولها ويكمل مشاهدته للفيديو فتصر وتجلس بجواره موجهة عيناها نحو هاتفه وتهز رأسها حين تعرفها وتشاركه المشاهدة.
بينما يخرج من بوابة العمارة متوجهًا للمدرسة يصادف إسماعيل رودينا وهي تتوجه لسيارتها وفور رؤيته تتوجه نحوه لتحييه.
-كيف حال حضرتك يامستر؟
-مستر؟ لا داعي لهذا اللقب الآن لقد كبرت وأصبحت فنانة كبيرة ما شاء الله
-الفضل لحضرتك لقد دخلت فنون جميلة بسببك
-وبسبب موهبتك ماشاء الله أنا أتابعك وشاهدت على صفحتك أعمال مميزة ومشاركاتك بالمعارض والمسابقات وسمعت عن معرضك ولكن لم يسعفني الوقت لزيارتهم
لا لن أتنازل عن زيارة لمعرضي في القريب العاجل
يتركها إسماعيل ويسير نحو مدرسته وقد ثقلت خطاه وملأت رأسه أفكار سوداوية محبطة فقد كان ذلك حلمه يوما ما يحاول إسماعيل أن يطرد تلك الفكرة فعلا ما تفعله رودينا الآن هو حلمه التائه منه منذ سنين ولكن وأدته قلة إمكانياته واضطراره أن يعمل مدرسًا في أحد المدارس لتستقيم الحياة ويستطيع أن يعالج أبيه الذي ظل حبيس الفراش بسبب مرضه وبعد وفاته كان إسماعيل قد نسي أو تناسى حلمه بعمل معرض بل والانطلاق للعالمية واكتفى بوظيفته كمدرس رسم ورسام بورتريهات بالطلب وكأن قدر المدرس أن يصنع طلابأ قادرين على صنع أحلامهم بينما هو مازال قابعا في نفس المدرسة ومع نفس الزملاء بل ونفس الأحداث وتفاصيل اليوم الدراسي سواء تجاه المنهج والطلبة أو تجاه زملائه
تننبه رودينا لحركته المتباطئة وتظنه متعبا وتعرض عليه أن تقله إلي مدرسته ولكنه أكد لها أنه اعتاد أن يستغل قرب المدرسة بأن يسير إليها كل صباح كنوع من الرياضة وأعجبتها الفكرة ووعدت أنها لابد يوما أن تشاركه سيره وتنطلق بسيارتها وتركته ليسير وحيدا محبطا يملئه الشعور بأنه مازالا محلك سر والعالم يسير من حوله.
يدخل إسماعيل في المدرسة ويقف إسماعيل وراء منصة الطابور وهو يلقن إحد الطلاب ما عليه أن يقول ويشجعه:
- هيا يا مازن جاهز؟ لا تنظر لأحد وأنا بجوارك تشجع.
يصعد مازن ليلقي كلمة الصباح ويصفق له إسماعيل فور نزوله ويشير لزياد ليبدأ مشجعا إياه. يقترب أحمد مدرس الرياضيات من إسماعيل وتبدو في ملامحه بعض التهكم :
- أظنك سعيد الآن فمنذ أن أشرفت على الإذاعة المدرسية وجدت شيئا مفيد تفعله (يضحك ساخرا) بدل اللا شئ الذي تقبض عليه راتبك.
ينظر له إسماعيل بامتعاط دون تعقيب ويكمل ما كان يفعل مع الطلبة.
لقد خسر كثيرًا من أحلامه التي طاق لتحقيقها حين أجبرته ظروفه أن يعمل في هذه المدرسة وأن يلتقي كل يوم بأمثال أحمد الذي لايجد لمادة الرسم ولا لإسماعيل نفسه أي أهمية يستحق عليها راتبه ويعطيه الفرصة للتنمر والاستخاف بما يفعل وإن كانت علاقته بطلاب المدرسة دائما ما تخفف عنه أمرضياع حلمه فهو لم يكتف فقط بالموهبين في الرسم إنما كان يشجع ويتابع كل طالب يجد لديه حلما يشبه حلمه وكثيرًا ماكان يحكي لهم عن نفسه وعن حلمه ويعرض عليهم أحيانا لوحات البوتريه التي يبيعها لمن يطلب أو لوحاته الزيتيه الأخري التي يحتفظ بها على أمل أن يأتي يوما ليقيم معرضه الأول الذي اخفق أكثر من مرة في أن يجد من يدعمه :- ما رأيك يا أستاذ ؟
قطع تفكيره صوت زياد الذي توجه اليه بعدما انهى فقرته في إذاعة المدرسة ليسأله ثانية بعد أن شعر أنه لم يسمعه :-أستاذ إسماعيل هل أديت بشكل جيد؟
-نعم حبيبي أحسنت أنت صوتك كنز أرجوك لا تهمله.
-أرجو أن تقتنع أمي بذلك فهي مصرة أن هذا ليس مستقبل أفخر به وسيعوقني عن المذاكرة.
-لا مؤكد أنها تخاف عليك عموما انتبه للمذاكرة لعلها توافق يوما.
يقترب عليّ زميل زياد ويدّعي أن عليهما أن يتحركا حالا لأن الحصة ستبدأ. فيعنفه زياد بعد أن ابتعدا :- أيها الغبي لن أحضر الحصة الأولى فقد نسيت الكتاب وكنت أحاول أن أضيع بعض الوقت مع الأستاذ إسماعيل وربما اقنعه باصطاحبه لغرفة الرسم لنكمل الحديث.
- من قال أني أناديك من أجل الحصة كنت أريدك أن تشاهد معي شئ على هاتفي تعالى للحمام.
ويدخلان معا إلى الحمام وهما يلتفتان حولهما للتأكد من أحدا لايراهما.
يتابع إسماعيل حركات زياد وعلي ويلحظ حركاتهما المتسللة من بعيد وهمّ أن يذهب للحمام لعله يفهم السر ورأهما ولكنه أثر التوقف وقرر أن يدير الأمر بشكل أخر. فهو لايعتبر زياد مجرد طالب عند حيث كان أبيه صديقه وكاتم أسراره ويبدو أنه كان يشعر بقصر عمره فكان دائما ما يوصيه بزياد وفاجئة داهمه المرض اللعين فلم يتركه إسماعيل بلحظه وكان يبيت معه أحيانًا يحكي له عن أمنياته لابنه وكم تمنى أن يشاركه لحظاته الخاصة وقبل أن يغيب كانت وصيته لزوجته بأن يشارك في تربية ابنه والعناية به.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي