الفصل الواحد والعشرون

لا تعرف بناتي معنى الموت، تسألني طفلتي الكبرى حينما قلت لها إن العنكبوت الذي قبضت عليه تحت المنديل "مات"

ماذا يعني مات؟
وأين سيذهب؟

فلا أجيب وأطرق رأسي هرباً من إجابة معقدة حتى على عقلي. وأمهات سوريا؟

كيف يشرحن الموت لأبنائهن؟

أم أن القصف يروي لهم بالصوت والصورة التفاصيل التي لا يردن لهم أن يعرفوها؟

أم أن الموت بنفسه يأخذهم ليشرح لهم ما معناه وكيف يكون؟

وكيف يحكين للعالم الماجن بصمته وتفرجه عليهن ماذا تعني لهن الحياة؟ الحياة التي لا يعرفن عنها سوى توقع الموت في أي لحظة؟



بائسة هي حياتنا نحن الأمهات المترفات ونحن نُقصي أطفالنا بعيداَ عن كل ما هو مؤلم حتى بالمشاعر.

جرحتْ طفلتي رأسها في الحديقة وهي تلعب فهرعتُ كالمجنونة أستعلم ما جرى وصرخت عندما شاهدت بعض الدم بين شعرها؟
كيف تشعر أمهات سوريا وهن يرين الدم يَسحُّ من كل جزء من أجزاء أبنائهن وبناتهن، وبعضهم قد مات بدمائه بالفعل؟

صعب أن نظل نفكر بمشاعرهن ومهما حاولنا فلن نفهمها، ولن نعرف ولو وصفت تلك الأم السورية التي تنقل يومياتها تحت القصف عن أحاسيسها وهي تريد أن تضم طفليها إلى جسدها.

"لا يسع عقلي التفكير كيف أنني لا أستطيع تغطية أطفالي، أكبادي، مرام ومسلم.
كيف وأن هناك أجزءًا منهم مكشوفة لم تتغطى بالكامل!!


وأنا التي أمنع أي صورة عنيفة وأي صورة من الحروب عن بناتي لأنهن لا يدركن بعد ماذا يحصل في العالم .

من دمار وقهر وحروب ولا يتخيلن شكل الموت الذي يعيشه أطفال مثلهن يومياً.

وأسأل نفسي ترى متى علي أن أبدأ بشرح الحياة على حقيقتها لهن؟
ومن أين أبدأ؟
من أي قصة أبدا؟
من قتل الأطفال؟ أم تهجير الأهالي؟

أم من أصوات قصف الطائرات؟
عن ماذا أخبرهم، ومن أين أبدا؟


قضيت أكثر من ساعة وأنا أتابع ما كتبت تلك الأم في مذكراتها.

وكيف تناقل الناس كلماتها وحاولتُ أن أشعر بما تشعر به وأتخيل شكل الحياة التي تحياها تحت القصف وهي تستميت لحماية طفليها بأي وسيلة ممكنة!

وقد تركت بيتها الجميل وحياتها الطبيعية لتسكن القبو المظلم مع عشرات من الناس الذين هم في الغالبية من النساء والأطفال.


مريرة هي الأمومة في ظل الحرب!

وصعب تخيل الحياة في سوريا وهي تحت القصف، وجُل الذي يمكن للأم أن تفعله هناك أن تدعو الله في كل لحظة وكل ساعة وتجمع قواها لحماية أبنائها وعائلتها.

ثم يشتد القصف فجأة فتفقدهم أو يفقدوها في ثوان معدودة!

وترى الأطفال يصرخون بجهل وضياع والرماد يغطي كل الأشياء من حولهم ماما،  ماما،
             فلا صدى ولا رد!


الذين يتابعون القصف ويقلبون الأكف على الأبرياء المدنيين الذين يقتلون.

يكتبون على مواقع تواصلهم الاجتماعي  وينتظرون كل صورة تصل كي يبكون.

بكون ضعفهم وهوانهم وقلة حيلتهم، ثم يلومون بعضهم على التقصير بالكتابة والتعبير عما يحصل ولو بـ"قصة" صغير على أحد مواقع التواصل، كأضعف الإيمان.


أنا لم أكتب على صفحتي منذ بداية القصف وانتشار الصور من هناك أي كلمة، أصيب قلبي بالخرس من جديد.

فهل يمكنه الكلام وهو يطالع المجزرة الهائلة التي لا تصد، والعالم كله صامت أمامها؟
هل نكتب عن مشاعرنا المشلولة والمنهكة كل مرة؟
عن دعواتنا لهم بأن يصمدوا ونحن منهارون.

عن ضعفنا وقهرنا وهم يقصفون، أم نكتفي بالبكاء مع أنفسنا  وعلى حلب وعلى سوريا؟
هل نساهم في التبرعات ونشفي بعض الغل الذي يقهرنا ونرتاح بعدها؟
وهل يكفي هذا؟


تخرسنا الأمومة التي نشهدها في الغوطة، تُخجل مشاعرنا التي تبدو كاذبة أمام مشاعرهن.

ويخجل قلبي وأنا أحس بأنني لا أصلح أن أكون أما أمام أمومتهن، فلا المشاعر التي تعتريهن تعتريني ولا الخوف الذي يُقذف في قلوبهن يشبه ما في قلبي.


أمهات صامدات بدون طعام وماء.
بماذا يبررن عجزهن عن طبخ الغداء لأبنائهن وبناتهن؟

كيف تتعامل أمهات الحروب مع الخوف والصدمات النفسية التي تسري في قلوبهن وقلوب أطفالهن الصغيرة، وكثيرون منهم قد ولدوا في الحرب ولم يعرفوا غيرها منذ سبع سنوات؟

أي قصص يحكينها لهم قبل النوم وكيف يتخيل هؤلاء الأطفال أبطال الحكايات من غير حرب ومن غير قصف؟

وهل ينامون أصلا كي يحلموا بغير ذلك الكابوس الذي يعيشونه!!


ما زلت عالقةً  يا أمي قرة عيني بطرَفِ ثوبكِ..
ولِطُهْرِ دعَواتكِ ظامئةٌ عروقي!

كثيراً ما أبرعُ في وصفِ آلامِ الآخرينَ.. أكتبُ عن أوجاعِهم وخَيباتِهم.. ولكن عندما يتعلقُ الأمرُ بوجَعي.

بمَوتِ أمي!!

أفقدُ كلَّ الكلِماتِ، ويعجَزُ القلمُ عن المسيرِ وكأنني أنِسْتُ بوجعي!! أ
م أنَّ صوتَ الألمِ عميقٌ وعالٍ لا يمكنُه أن يتكِئَ على الكلِماتِ!! 
لم أكنْ صغيرةً حينما ماتت أمي.

وهل موتُ الأمِّ يقصِمُ ظهرَ الصغارِ فقطْ؟! 

صحيحٌ أنه مؤلِمٌ وقاسٍ على الصغارِ، لكنَّه للكبارِ بطعْمِ الشتاتِ والمَنفى!!

 أحْسَسْتُ حينَ موتِ أمّي أنّي بلا وطنٍ.. نعم الأمُّ كالوطنِ.

فعندما يفقِدُ الإنسانُ أمَّه يفقدُ وطنَه! فكيفَ بمنْ يفقدُ وطنَه مرتينِ؟!

 عندما تموتُ الأمُّ تصبحُ الحياةُ بلا ضفافٍ! وتنقطِعُ حبالُ النجاةِ! 


قد تأخذُني الدنيا في دوّامتِها طيلةَ النهار، تغيبينَ عن بالي، لكنكِ تعودينَ إليَّ في المساءِ.

على سجادةِ الصلاةِ لأمنحَكِ أرقَّ الدعَواتِ! أو على الوِسادةِ قبلَ أن أنامَ.

عندما أضعُ رأسي على الوِسادةِ.. تسرعينَ إليّ، تجلسينَ عندَ رأسي.

تداعبينَ خَصْلاتِ شَعري بأنامِلِكِ.. أتأملُكِ.. بشعرِك الأسودِ الذي لم يخالطْهُ الشيبُ مع أنكِ قاربْتِ الخمسينَ.

وأبدأُ أبُثُّ لكِ تفاصيلَ يومٍ كاملٍ!

يكونُ صدري مُثقَلاً بالوجَعِ، أُلقي على مسامِعِكِ أحاديثَ لن يفهمَها إلا أنتِ، ولن يتسِعَ لها قلبٌ إلا قلبُك! 



أحياناً كثيرةً أسيرُ بصحبتِك.. أُمسِكُ بيدِك.. أشربُ كأسَ شايٍ معكِ.

ففي الموتِ كما الحياةِ نحتاجُ لكِذبَةٍ كي نَقْوى على الاحتمالِ! 

أشتاقُ لكلماتٍ أخبِّئُها في كَمِّ الأمنياتِ، أُلقيها على مسامعكِ.

فتربُتينَ على كتِفي.. أشتاقُ لضِحكتِكِ.. لذراعَيكِ المفتوحينِ واسعاً لطفلتي.. لصوتِكِ وهو يرِنُّ (الله يرضى عليكِ).

أشتاقُ لسماعِ صوتكِ فجْراً وأنتِ ترتلينَ القرآنَ، ثم تنتقلينَ لتحضيرِنا للمدارسِ.

ولسانُكِ يلهَجُ بالدعَواتِ لنا.. تُصرِّينَ على عَدَمِ مساعدَتِنا لكِ مع أنّكِ مُتعَبةٌ ومُرهَقةٌ ومريضةٌ، لكنكِ كنتِ تُشفقينَ علينا!

في الغربةِ كنتِ أنتِ عينَنا التي نرى بها الوطنَ!

 في الغُربَةِ.. كنتُ أشعرُ نفسي كدُميةٍ ترنو نفخةَ الروحِ.. في الغربةِ كنتُ أحترق كفراشةٍ وهيَ تظنُّ نفسَها تستلذُّ بالضَّوءِ!! 

لكنكِ كنتِ تعوِّضينَ كلَّ ذلكَ بحكاياتكِ التي لا تعرفُ الملَلَ، نعودُ إلى البيتِ، نُنصِتُ إليكِ.

تحمليننا على جَناحِ الذاكرةِ.. تضيئينَ لنا الوطنَ.

نراهُ في ارتعاشِ شفتيكِ.. ودموعِ عينيكِ.. تحدثيننا عن ذلك الترابِ المعطَّرِ.. عن نابُلسَ مدينةِ الياسمينَ.. زقاقِها.. كُنافتِها.. بيوتِها.. صلةِ الأرحامِ.. طقوسِ رمضانَ.. عائلاتِها.. وبناتِها.. عن التديُّنِ والتحرُّرِ.

عن المتناقضاتِ في تلكَ المدينةِ الوادعةِ الدامعةِ الغاضبةِ.. عن زهرِ الليمونِ والبرتقالِ.. ووالدِكِ الثائرِ الصامتِ الذي يضعُ الأموالَ للثوارِ تحتَ شِقِّ البابِ ليلاً كي لا يراهُ ولا يعرفَهُ أحدٌ!! 


وعندما كانتْ تقترِبُ السنةُ الدراسيةُ من نهايتِها كنتُ أعودُ وأشكو لكِ.

بأنَّ كلَّ صديقاتي يتلفحْنَ الحُلُمَ إيذاناً بقربِ عودتِهنَّ لبلادِهنَّ.

يتسابقْنَ لينسُجنَ حكاياتِ الفرحِ وتتراقصُ الدمعةُ في عينيَّ عن وطنٍ مسروقٍ!!

كنتِ تسرعينَ حينَها وترسُمينَ لنا الوطنَ بريشتكِ الأبْهى.. 


ما أوجعَ الذاكرةَ!!!

حين تختارُكِ وتسكنُكِ.. تحاولُ أن تهرُبَ منها، ولكنَّ رائحتَكِ تبقَى الأقوى!

اكتشفتُ بعضاً منكِ فيَّ!!

 لم يُسعِفْنا الموتُ يا أمي كيْ تكبُرينَ أمامنا.

كي نرى تجاعيدَ وجهِكِ.. والعروقَ النافرةَ على كفِّكِ! لم يُسعفْنا الموتُ لتتربَّعي على أريكتِكِ كملِكةٍ.

وندورُ حولَكِ كفراشاتٍ، لكنَّ ما يُنعِشُ قلبي. دعواتُكِ لنا.

فقد عمّرْتِ أكثرَ من صوتِكِ البهيِّ الذي ذابَ في كأسِ الموتِ! إليكِ يا أمي في كلِّ عيدٍ.

وما عُدْتِ تحتملينَ الحياةَ! وما عُدْنا لولا طيفُكِ نحتملُها.. نُطعّم الحقيقةَ بعضاً من السرابِ لنجعلَها محتمَلةً!


هكذا كانت "سهاد" توصف شعورها عندما فقدت أمها، لا ولكن لم يتوقف ذلك على موت أمها، ولكن هناك صاروخ لعين حقير، قد تسبب بأخذ روح أمها وأختها التي كانت سندها في هذه الحياة.

وفي رفة عين، لقد رحلوا!!

ماذا لو أردنا تذكر من قد أكملوا حياتهم داخل الزنازين!!



في السجن لا تتعرف على ذاتك فقط، بل تصبح قادراً على اكتشاف الآخرين، اكتشاف المبهم فيهم، تكتشف أمزجتهم.

أخلاقهم وحقول الخضرة واليباس، تمتلك أدوات وتجتاز مساقات ماكنت تحلم أن تجتازها.

السجن يكشف لنا ذاتنا فنرى أشياء لم نكن نراها من قبل ونحس بأمور ما كانت لتخطر على بالنا.

ويتكون جنين أقوى من ذاتنا الحقيقية.. ثم لا يلبث حتى يولد بين أيدينا.


نتأمل ملامحه التي تشبهنا وننبهر به ولا نصدق أننا كنا نحمل هكذا جنيناً تلقّح على حين غفلة من السجان!

 
في السجن تعلو قيمة الأشياء التافهة والبسيطة أو التي كنا نظنها كذلك.

حفيف الثياب المنشورة، لمس الباب وفتحه باليد، المشي على التراب، النظر في الأفق بلا جدران تطبق على الأنفاس.. تلبس ما تريد وقتما تريد وبأي لون


تصحو متى تريد وتنام متى تشاء، تأكل ما تشتهي وأن وأن وأن..

في السجن لا مكان للاشتهاء ولا للنضارة ولا للحركة فكل شيء آسن ذو رائحة كريهة تشبه رائحة مياه المجاري التي تسير تحت أغطيتنا!

 
تعلمتُ في السجن أن أرفع رأسي ولا أنحني أمام الألم.. تعلمت أن أوقره وأتعلم أبجدياته فلقد وسّع الألم ذاتي.. فكلما اشتدت ريح الألم.

أشتم ريح يوسف!

الألم في السجن يمنحنا قوة فوق قوتنا فبالألم تصبح أقوى من الجلاد.. تصبح حراً بعد أن كنت عبداً لذاتك التي تحب اللذة والرفاهية والراحة.. الألم يعيد تشكيلنا.. يجعل رأسك برأس الجلاد.. نِداً له بل وأقوى منه!




هذه المرة ألم الأسنان.. عندما كنتُ عبداً!

أقصد عندما كنت خارج السجن لم أكن أتحمل حتى الرشح لكنني هنا وبعد مرور ستين يوماً على الألم المتواصل صرت حراً!! أطوي الغرفة ذهاباً وإياباً.

أغلق فمي كي لا تنشق عني آهة مكتومة تجرح رفاقي وتحزنهم علي.

أرواد الألم ويراودني.. أراوده كي أغفو قليلاً على حد الحلم.
لكن شظايا وجعي أصابت رفاقي النائمين وبدؤوا بالاستيقاظ واحداً تلو الآخر فانثال الصبر على روحي!!
   
الألم يذكرني بأن لي جسداً، ففي السجن تحاول أن تسحق جسدك وتنعتق منه كي لايقدم تنازلات ولاتسويات.


كي تتحرر! في كل ليلة ينادي رفاقي على السجان يخبرونه بآلامي.. يراودني الألم فاستعصم فيقُدُّني من دبر ويكون دليلاً على براءتي وجريمته! يشتعل جوفي سعيراً.

وفي كل ليلة يعدني السجان بأن يوصل الأمر إلى إدارة السجن، والتي بدورها ستوصلني بالطبيب ولكن بلا جدوى!

 

قاب قوسين أو أدنى صرت من الطبيب فقد قدمت طلباً رسمياً لإدارة السجن حتى يتم عرضي على طبيب الأسنان وبتُ أتحرق شوقاً للخلاص.

تجهزتُ للموعد المرتقب والذي جاء بعد شهر فقدت فيه ما يزيد على عشرة كيلو غرامات.. اقتادني السجان في الموعد المحد.

يداي مقيدتان إلى الخلف، أقدامي مكبلة بالجنازير والبوسطة مليئة بالسجناء المرضى فهذا يفرغ ما في بطنه وذاك يتلوى ألماً!



أصل إلى المستشفى، أجلس على الكرسي الخاص وجسدي ينتفض في باحة الألم!

يلقي الطبيب نظرة سريعة ولا مبالية على أسناني التي تستعر، أشهق وهو يتناول من الطاولة المخصصة آلة حادة تشبه الكماشة ويقول لي بكل غلظة:

-افتح فمك.

_ماذا تريد أن تفعل؟

_سأخلع لك كل أسنانك، لا فائدة كلها نخرها السوس!

_أقول وأنا أرتجف كريشة في مهب الريح:

_ ألا يوجد بديل ؟ حشو، تنظيف، سحب عصب، تركيب جسر، معالجة لثة؟

_نحن هنا لكي نخلع فقط،إما أن تخلع أسنانك وإما أن تقوم فوراً فلا وقت لدي!

وإياك أن تطلب الطبيب مرة أخرى وأشار بطرف عينه على السجان كي يأتي ويجرني خارج الغرفة.
أصمت.. أقف.. أفكر ثم أقول له: اخلع واجلعني ارتاح من هذا العذاب.
 
استسلمت لعملية الخلع والتي كانت تتم بدون بنج ولا مسكنات!!

كنت أهوّن على نفسي وأقول وجع ساعة ولا وجع كل ساعة.

الخلع كان يتم على دفعات وبعد الانتهاء من عملية الخلع تكون قمة الرحمة في حبة المسكن.

 

وهكذا دخلت السجن بـاثنان وثلاثون سِناً وها أنا اليوم بدون أسنان ألبتة!!

أنتظر تركيب طقم الأسنان منذ ما يزيد على الثلاثة أشهر وفي هذه الأثناء أفقد عشرة كيلو أخرى من وزني.. تنغرس الأشواك في رأسي فأتكئ على رائعة ربي"ربِّ إنّي قد مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ".


"الزمن في السجن ليس هو الزمن الذي اعتدناه خارجه، فهو يمضي ثقيلا كالكابوس.

وهو لا يُحسب بالأيام والأسابيع، إنما بالساعة والدقيقة والثانية، لأننا بنعيش بالدور جوا السجن، النفس بيكون بالدور داخل زنزانة اثنان في ثلاثة متر وفيها ستون بني آدم".!!



لستُ مَهيض الجناح حتى أعجز عن التحليق من جديد بحقوق شعبي في سماء واحة السلام.

كانت هذه هي آخر الجمل التي قالها لي أسير تعرفت عليه آن ذاك.

لم يتردد لحظة في الإفصاح عن اسمه في هذه الشهادة، التي تكالبت الكلمات لإرسائها في سطور قليلة.

فكانت النتيجة أن الشهادة التي أبلغني صديقي؛ ليست كاملة وتنقصها العديد من التفاصيل.

بيد أن نبشي في ذكريات صديقي في سجون العدو بمثابة نكأ في جرح سال منه سيل من القيح.



ويبدأ نهار المعتقلين في المكان الملعون مع ساعات الفجر الأولى.

وأصوات السجانين تأمرهم بألفاظ نابية بالاستيقاظ، يتبعها سؤالهم عن وجود أي جثث داخل المهاجع "
أيوجد لديكم فطايس؟

ولا يبدو هذا السؤال غريباً، إذ لا يمر يوم دون إخراج جثتين على الأقل من غرف السجناء.

حيث يحضر الجنود لنقلها ويدونون أسماء المتوفين الكاملة، ويتكرر ذلك مساء مع احتمال إخراج جثث جديدة، وهو أمر يحدث أيضاً عند قدوم معتقلين جدد إلى السجن، لتعرضهم للتعذيب في الأيام الأولى مما يؤدي إلى حالات وفاة.

"عند قدومي للغرفة جلس رئيس المهجع بجانبي وأصر على حفظ اسمي الثلاثي واسم والدتي ومكان وتاريخ ولادتي.

استغربت هذا الطلب لكنني علمت بعد ذلك أن رؤساء المهاجع مكلّفون بحفظ معلومات كافة السجناء كي يتمكنوا من معرفة هويتهم عند وفاتهم دون سابق إنذار".

بعد التخلص من الجثث يحضر طبيب السجن ويسأل كافة المهاجع عن وجود أي حالات مرضية أو إسعافية.


"هل منّا من يتجرأ على الإجابة بنعم حتى لو كان يلفظ أنفاسه الأخيرة؟

فقط عندما نموت يُسمح لنا بالخروج لمثوانا الأخير، وقبل ذلك لن نحلم بالحصول على حبة دواء.

أُخرجتْ خلال فترة وجودي في السجن حالات إسعافية معدودة، لم نعرف إلى أين، ولم يعودوا البتة".


ولعلّ المصير المحزن الذي لقيه بعض الذين تجرؤوا على إظهار مرضهم وضعفهم كان الرادع الأهم لبقية السجناء لإخفاء آلامهم.


"ففي أحد الأيام سعل أحد المعتقلين بوجود السجان الذي جن جنونه، وطلب من السجين أن يستلقي، وعندما نسمع كلمة "مستلقي"

نعلم أنه إعدام فوري في المكان، واستلقى السجين النحيل ذو الجسد الضعيف، وقفز السجان الضخم وضربه على صدره الذي تهشم تماماً، وخرج تاركاً إياه يلفظ أنفاسه الأخيرة أمام أعيننا"!



تبدو هذه الذكريات أليمة للغاية لماهر الذي يتوقف عن الحديث لبرهة.

ثم يعود ليؤكد أنه كان شاهدا على أكثر من خمسين حالة وفاة بهذه الطريقة.

"الأمر يعتمد على مزاج السجانين، ويصبون كثيراً غضبهم على السجناء ضرباً وتعذيباً، ونعتقد بأن ذلك مرتبط بهزائم عسكرية تُمنى بها قوات العدو بين الحين والآخر، وأيام عيدي الفطر والأضحى كذلك كانت تحمل لنا جولات جديدة من الضرب والتعذيب والإهانات".


وتعتمد طريقة تقديم الطعام على مزاج السجان، ففي معظم الأحيان يُلقى الطعام على الأرض.

أما في حال غضب السجان لسبب ما، فإنه يعمد إلى رمي الطعام على السجناء.

سواء كان مكوناً من البرغل أو الحساء أو اللبن أو البيض، أو حتى الشاي، ليخرج بعدها متجهاً للزنزانة التالية.


والطعام بالنسبة للسجناء يعني جمع البرغل أو اللبن أو الحساء الممزوج بالأوساخ من على الأرض أو البطانيات.

ليحظى أكثر من ثلاثين سجيناً بكمية لا تكفي ثلاثة أشخاص في الأحوال المعتادة.

ولا يعد وضع المياه أفضل من ذلك بكثير، فماهر يذكر اضطرار السجناء لتقنين استخدامهم المياه كي لا يموتوا من العطش.

خاصة بعد وفاة خمسة عشر سجيناً بسبب انقطاع المياه أكثر من ثمانية أيام متتالية بشكل تام عن المهاجع.


وغني عن القول إن أي نوع من الصلاة وذكر الله وقراءة القرآن كان من المحرمات داخل السجن، وأي منها يستدعي أشد العقوبات في حال اكتشاف حدوثها من قبل السجانين.

و"كانت شتيمة الرئيس الملعون تستدعي عقوبة أقل من عقوبة الصلاة، كنا نلتزم بالصلاة فقط بأعيننا كما كنا نتلوا ونحفظ القرآن بين بعضنا همساً".


يرى جلال أن رحلته إلى السجن الملعون وخروجه منه أشبه بالعودة إلى الحياة من بين براثن الموت.


"استُقبلت هناك بالضرب والإهانات والكلام البذيء، وعشت سنة كانت أشبه بالموت البطيء، لم كل هذا الحقد؟

لم لا ينفذون حكم الإعدام فينا فوراً؟

في كل يوم كنت أتمنى العودة إلى أي فرع أمني كنت فيه، حيث فقدت الأمل في الخروج.

وكانت الأفرع الأمنية -رغم قسوتها- تشكّل بالنسبة لنا حلماً صعب المنال.


"ليدعو لهم الجميع بالراحة، ولا راحة لهم سوى بالإفراج عنهم أو الموت.

فذاك السجن الذي لا أجرؤ علي ذكر اسمه هو الجحيم بعينه.

ولا أتمنى سوى أن يهدم على رؤوس كل من فيه، وأولهم السجناء، لأنهم يموتون كل يوم ألف مرة"!
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي