الفصل الثالث

لم أكن مصرةً على شيئ في حياتي مثل إصراري على العلم والتعلم والذهاب إلى المدرسة رغم الظروف.
فـمع كل المشقّات والمتاعب التي كنت اواجهها وسوف اواجهها أيضا، كنتُ أحاول وأحاول وابذل كل ما بوسعي، حتى لا أتغيّب يوماً واحداً.
لكن هناك يومٌ فاصل، يومٌ ما بين معركة كر وفر،يوم بألف يوم، كنت ذاهبةً إلى المدرسة صباحاً أرتدي لباسي الخاص بالمدرسة كما هو المعتاد، وأنا مفعمةٌ بالنشاط، مليئة بالحيوية،ترتسم بسمة على محياي فبكل تاكيد سأذهبُ أنا وأخي إلى المدرسة ، فعلنا كما نفعل كل يوم، نودع أمي قبل ذهابنا، نقبلُ يديها الحنونتين ونطلب منها أن تدعوا الله لنا أن يوفقنا في خطوات يومنا.
لكن هذا اليوم الذي لم يكن بالحسبان !
ذهبنا متحمسين إلى اللعب مع أصدقائنا، ولأخذ الدروس ورؤية معلمينا.
ولكن ما إن بدأت الحصة الأولى، وشارفت على الإنتهاء وإذ بصوتٍ يهزُّ أرجاء المكان.
ياإلهي!
ما هذا!
آذاني تؤلمني من شدة الصوت
غبار.. طنين.. رائحة غريبة مميزة.. إنها بارود
يالله.. يالله
انه صاروخٌ ضرب المدرسة!
صرخ جميع من كان بالمدرسة بأعلى صوتهم.
بعد أن كانت مدرستنا أجمل شيئ أصبحت بناء مدمر ومهدم، بدأت مقاعد صفوفها بالبكاء والنحيب ، تلاميذًا تستغيث، أتى عليهم القصف ولن يعودوا للجلوس عليها بعد الآن.
الخوف ينتابُ الجميع، جميعهم شعور أنّ الموت محاطٌ بهم يحدق بهم بتمعن.
نعم فإنّ الطيران قد ارتكب مجزرة حقيقية بحق الطفولة، بحق العلم، بحق القلم ، حيث استهدف المدرسة ومحيطها بما يقارب عشر صواريخ فراغية وكأنه كان ينتقم من حملنا اقلاما بوجهه.

ومع بداية القصف بدأت الإدارة بإخراج الأطفال من الصفوف بأقصى ما لديهم من سرعة، اركضوا هيا هيا اركضوا، اطفال تبكي وبعضها يصرخ ومنهم كانوا متعجبين من الذي يحدث، وكأنهم فقدوا حاسة الإدراك، ومع هذا كله ما إن وصلوا إلى بوابة الخروج حتى اتتهم ضربة مروعة، وكأنه كان ينتظرهم ليخرجوا ليفعل ما فعل فقد قام الطيران باستهدافهم وهم في طريقهم باتجاه باب المدرسة، وهذا السبب في أن معظم القتلى منهم بل واكثرهم مِن مَن طلبوا العلم.
كان الجميع في هلعٍ شديد، كلٌ يحاول الفرار بحياته، والذهاب إلى أهله سالماً غانماً.
كنت أسمع صوت دقات قلبي من شدة خوفي المتزايد مزامنة لما يحدث أمامي .
تذكرت اخي الذي خرجنا انا وهو سويا في الصباح الباكر.
نظرت حولي وانا ادعو الله من كل قلبي أن يحميه لأراه مختبئ خلف باب اهلكه الزمن على مر الايام شبه مهترئ قد اكمل الصاروخ عليه وجعله قطعتين ممزقتين.. هرعت إليه احضنه وأخبره اننا في أمان الله رغم أنني كنت خائفة جدا
وبعد فترة قصيرة أتى أبي باتجاه المدرسة بسيارته وأنتشلتي أنا واخي من بين الركام وأخذنا من الموت إلى حضنه الذي كنا نحتاجه جداً في تلك اللحظة.
ركبنا السيارة مسرعين وأبي لا يتكلم ولا كلمة واحدة من شدة غضبه وخوفه علينا، شاهدته اكثر من ثلاث مرات يحمد الله تعالى على سلامتنا من تلك الضربة اللعينة، وفي طريقنا شاهدنا جثث الأطفال الذين استشهدوا بفعل القصف على المدرسة، بينما الناس غير قادرين على نقلها لكثرتها، ولاستمرار الطيران في التحليق ولخوف الناس على حياتهم.
نعم، تحولت إلى مقبرة!
كم من أمٍ كانت تنتظرُ عودة ابنها سالماً وحضّرت له الفطور لكي يأكلوا سوياً؟
وكم من أم كانت ملتهفة لرجوع ابنها لتخبره بأنها أحضرت له السيارة التي كان يحلم بها؟
وكم من أم كانت تركض وهي حافية القدمين لتطمئن على ابنائها؟
لكنهم لم يعدوا!
لأن روحهم قد غادرت إلى خالقها، وأصبحوا من طيور الجنة.
يحلّقون في السماء الوديعة بنقاوة سريرتهم بضحكتهم المثلى تاركين ورائهم قلوب أمهات لن يستطيع الزمان في الئام جرحهم ابداا.
الكلام وكل الكلمات التي وجدت حتى وقتنا هذا لا تكفي للتعبير عن قساوة المشهد الذي لا يزال عالقاً بذهني، أتذكر أصدقائي، معلماتي، مدرستي العزيزة التي هدمت!
الحرب اشتعلت وأصبحت قريبةً منا.
وصلنا أنا وأبي إلى البيت، أمي تبكي من شدة خوفها علينا، حمداً لله على سلامتكم.
البيت مشحونٌ بالرعب، أخوتي خائفين، وأمي تنتظر عودتنا على أحر من الجمر كي تُطمئنَ قلبها.
ما إن وجدتنا عائدين سالمين،حتى ركضت إلينا تحضننا وتقبّلنا، كانت تكرر فقط جملة لقد مضى لقد مضى، ناولتنا كأس من الماء بعد الظمأ الشديد الذي انتابنا من هول ما رأينا، جلسنا نريح أعصابنا بعض الشيئ، فقد هوت وخرّت قوانا من ذلك الوقت العصيب الذي مررنا به
ما إن لبثنا براحة بضعة ساعات، وإذ شُنَت غارةً حربية قريبة من منزلنا، فزعنا جميعنا، وكأنها أهوال يوم القيامة.

هو الخراب، لا تعبير آخر يمكنه وصف مشهد القصف الذي حصل بجانب بيتنا.

أحدهم كان يحدث نفسه بصوت مرتفع ممزوج بالحزن والاسى، يخرج من حنجرة تكاد تنفجر من حدة الوجع محمود ابني يااارب لا أملك أحداً غيره.
يصرخ بحرقة من سيعوضه عن فلذة كبده، جنى عمره الذي تبخر أمامه جراء عصف الانهيار أنهى له ما تبقى من أمل بهذا البلد. 

أمام المنزل، التي تحطمت نوافذه وهبطت طوابقها، بينما دمرت جميع مداخلها، كان يقف أحداً من سكان هذه البناية، وهو يحمل عشرات الأوراق والدفاتر في يد بينما يتحدث مع شخص آخر على الهاتف بيده الأخرى كان واضحاً أنه يحاول إقناعه بالمجيء لتفقد حجم الأضرار في سيارته. لكن هذه المحاولة باءت على ما يبدو بالفشل فاكتفى بالقول له: "سيبقى باب السيارة مفتوحاً لن أستطيع إقفاله".

آخرون لم يكونوا أكثر جرأة بل أكثر قدرة على التغلب على صدمتهم لتفقد ما جرى. "لا خيار لنا إلا المجيء إلى هنا وإحصاء خسارتنا"
أصعب مايمكن أن نخسر أروحاً كانت لنا كل شيئ، خسارة الأرواح لا يمكن أن تعوض.
من يعوض الابن حنان أبويه؟
من يعوض الأخت عن عطفها وحبها لأخاها!
هكذا هي الحياة في الحرب، تنام الأم وهي خائفة وقلقةٌ أتستيقظُ غداً وترى أولادها حولها، أم أنها سوف تستيقظ على تشيع جنازة ابنها من جهة، ودفن ابنها من جهةٍ أخرى.
الحياة مع الحرب تشعرك كم أنك بحاجة ماسّة إلى أحبابك، كم أن حياتك لا طعم لها ولا لون، وكيف وأن الحياة باهتة سوداء اللون!


يقول أحدهم،هو يعرف المنطقة جيدًا يوجد فيها منذ سنوات عدة، يشير بيده نحو أحد المقاهي التي دُمرت على نحو كبير قائلاً: "لم تمض سنة على افتتاحه واليوم انتهى". يتساءل عما إذا كان أصحابه قادرين على تحمل نفقات الترميم في ظل الأزمة هذه الأوضاع قبل أن يجيب نفسه قائلاً بسخرية: "لا أعتقد، من منا يستطيع ذلك؟
ينهي حديثه بأمنية أن يغادر هذا البلد فلا أمل فيه ما دام حاله يتهدور إلى هذا الحد!

سمعته أنا وأبي وكنا نتناقش حيال ذلك، كان أبي يرفض رفضاً قاطعاً مغادرة البلاد وكان يقول أنّ أرض الشام مباركة وهي أرض جهاد، ولا يمكن لنا أن نتركها ونغادر.
فمن يُحي كلمة لا إله إلا الله إذا نحن ذهبنا؟

مرت علينا ليلة عصيبة، ملئيةً بالقصف والبراميل، لم نستطع النوم ولا ساعةً واحدة.
نحتمي ببعضنا البعض، كلنا ننزل إلى القبو الذي يقع تحت الأرض، فهناك أكثر أماناً على ما أعتقد.

صوت الطائرة تقترب رويداً رويداً نحو الأرض، تشعر وكأن ملك الموت يقترب منك!

كنا ونحن أطفال تغمرنا الفرحة عندما نرى طائرة تطيرُ في الجو، ونركضُ ونغني فرحاً، لكن الآن!!
لا أستطيع وصف شعوري عندما أسمع صوت طائرة في السماء، إنه الخوف من فقدان عزيز عليك، أو أنه رعب الموت وما سيحصل لك بعد غياب الروح من أسئلة الملكان!
يا إلهي كم الحياة مخيفة!

بعد أن هدأ القصف شيئاً ما وقفت ألقي نظرةً من نافذة غرفة الجلوس ، بدت النوافذ عارية من زجاجها والأسقف من قرميدها، وتدلت من بعضها أسياخ معدنية ملتوية، وتطايرت أسطح بعض الشقق السكنية فأصبحت مكشوفة للسماء.

في أحد الأبنية ما زالت الدماء تغطي الدرج، فيما غرفة المصعد فارغةٌ كأنَّ المصعد وأبوابه في الطوابق قد طاروا من أماكنهم.

فيما الزجاج المهشم والأثاث وبقايا الدمار مكومة على جوانب الطرقات.

فإنه منذ الكارثة لا تزال الأشجار التي اقتلعها الانفجار والسيارات التي يغطيها الركام حبيسة الطرقات.

إلى جانب هذه المشاهد، تتناثر في الطرقات كتب وأدوية وملابس وأثاث وأسقف قرميدية أثرية منهارة، وفيما يحاول بعض المهجرين نَصبت الخيام على الأرصفة، في محاولة لإيجاد مأوى للناس الذين فقدوا منازلهم بالكامل.

كنت أحمد الله أنني أعيش مع عائلتي تحت سقفٍ واحد ولم يُهدم بيتنا فوق رأسنا.

قطعت أمي تأملاتي هذه وطرحت عليّ أن نذهب لكي نطمإن على غفران وأهلها.
ذهبنا أنا وأمي وأخوتي، كانوا في حالة ذعرٍ شديدة، وكان عندهم أيضاً جيران يعيشون قريباً من منزلنا، ويتحدثون عن هول الصدمة وماحصل عندما حصلت المجزرة.

عندما صحوت غدوت أصرخ لزوجي ولم أجده، مرة مرتان ثلاث، لأكتشف لاحقاً أنه سقط من الشرفة في الطابق السادس، ليقع عند شرفة الجيران في الطابق الرابع، إصابته بالغة ولكن حالته مستقرة وما زال على قيد الحياة، وهذه معجزة حقاً".

آخر ما أذكره أني شاهدت كتلة نار بحجم نحو عشرة طوابق دفعتني على مسافة أمتار، غِبت عن الوعي وعندما صحوت وجدت أن الجدران فُتحت على بعضها بيني وبين الجيران كأننا في منزل واحد!


في البداية سمعنا صوتاً عميقاً ثم زمجرة لثوانٍ قليلة، ومن ثم اهتز المبنى مع صوت قوي كأنَّ الكون كله اهتزَّ فوق رؤوسنا، وكنا متأكدين أنه زلزال سيهدُّ الكون بأكمله. إنها نهاية العالم فعلاً!

سمعت فتاة صغيرة تنادي وتقول: يارب لا أريد أن أموت ما زلت صغيرة، أود أن أعيش مع أمي وأبي وألعب بسلام!

وتحكي بأسىً ولوعة قائلةً: "أنا فقدت بيتي ومحلي وانجرحت، لكني أبكي على قِطتي التي قضت بين الزجاج والحديد"
"لا شباك ولا باب ولا سقف" هذه نهياتنا أن نعيش بالعراء!

كل منا كان يعبر عن خوفه ومشاعره في هذه الكلمات، وقالت غفران كلمات عمقية: من المؤسف أن الناس ماتت ببيوتها وهذا هو المكان الذي من المفروض نشعر فيه بالأمان متنا فيه!
ما عندنا درج نصعد عليه إلى بيتنا؛ لنرى ماذا حلَّ به، ولم يبقَ عندنا لا شباك ولا باب ولا سقف ولا شرفة.

أتذكّر في تلك الليلة المشؤومة وبعد كلّ الرّعب الذي مررت به وعدم استيعاب حقيقة ما حدث، هو أنّني بحاجة لعناق، عناق بقوّة وحنان صوت فيروز حين قالت "آه عانقيني". شعرت لحظتها بحيثيّات هذا الشّطر وتخيّلت نفسي أفتح ذراعي وأضمّها بشدّة كي تبكي وتصرخ "كفى". ولكننا، لم نستطع حينها، لا بالكلمات ولا بالتّعبير لأنّ وقتها كان لا ينفع شيئاً!


فأصبحت المنازل غير صالحة للسكن، فمعظم التمديدات الصحية والكهرباء والماء بحاجة إلى صيانة، وخزانات المياه مخربة، وإصلاح كل ذلك يُكلّف مبالغ كبيرة، أصبحت المدينة شبه مهجورة!
لم يعد هناك أصوات أطفال تلعب خارجاً، أصبح كل شيئ مخيفاً وموحشاً!
لم يبقى شيئ سوا عواء الكلاب المتواصل، وكأنها تفرغ غضبها بالصراخ في مناطق منكوبة.


عدنا إلى مزلنا محملين باليأس، والخوف، لكن أبي دائما ما كان يمدنا بالطاقة والحيوية ويذكرنا في فضل العيش في بلاد الشام وكيف أننا مأجورون على كل لحظة نعيشها في هذه البلاد.

ذهبنا جميعنا كي ننام ونسلم أمرنا لله عز وجل، وما إن رقد جفن كل واحد في سريره سمعت صوتاً من غرفة أبي وأمي، لم أكن لاتنصت لكنه الصوت في الظلام الدامس.
كان أبي يحادثُ أمي قائلا لها: أظن أن الوضع يزداد سوءً، ويجب علينا أن نحمي أولادنا ونذهب إلى منطقة أكثرُ أماناً، هناك حيث يسكن عمي.

ذعرت من كلامي أبي، انتابني خوف شديد، يا الله سنعيد سيرة التشرد!
سنذهب من بيت إلى آخر!
لا استقرار ولا حياة كريمة!
سنعيش برعب وذعرٍ دائما!
إنه لأمرٌ متعبٌ جداً
أن تمحو ذكرياتك في مكان ما، في لحظة ما حفاظا على حياتك، وأي حياة!
انه الأمل في البحث عن مستقبل مجهول افضل
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي