الفصل الرابع

نعم،" سنعيدها سيرتها الأولى"
بعد أن سمعت أبي يتكلم مع أمي بشأن الذهاب والهجرة إلى مكان آخر، ركضت إلى سريري وقمت باحتضان وسادتي والبكاء في أحضانها.

وبعد مرور ساعات الليل العصيبة، والتي كدت بصعوبة أن أغلق عينيّ، جاء اليوم التالي وقمنا لنحضّر الفطور ونهوّن على بعضنا البعض.

وإذ فجأةً بصاروخ يهبطُ جانب بيتنا نشعر وكأن زلزالاً ضرب بيتنا.
ركضنا جميعنا نحو نافذة الغرفة وقلوبنا تنفطر وتدمع على ما رأيناه.
أبي يمسك إخوتي ويدفعنا جميعنا نحو الأسفل كي نقوم بالإختباء قبل شنِّ غارة أخرى فوق رؤوسنا.

لكنني قاومت ذلك، ووقفت أمام النافذة ممسكة قلبي وأنطق " أشهد أن لا إله إلا الله " فقد شعرت أنني على وشك الموت.

رأيت بأمِّ عيني كيف تطايرت الأشلاء عالياً في السماء، رأيت كل وأن قطع وأشلاء اللحم أصبحت مُعلقة على أعمدة الكهرباء.

لايمكنني أن أنسى لحظات هذه المشاعر طوال حياتي، ولا يممكني وصفها أبداً.

بعد إنتهاء الغارة الجوية التي شُنت بجانبنا، فقد علمنا أنها قد استهدفت باص نقل داخليّ وتوفيَ كل من في الباص.

لقد رأيت بعيني كل أنّ أوراق القرآن الكريم ممزقة ومقطعة وملطخة بالدماء.

بعد كل هذا العناء قرر أبي أن نحزم أمتعنا قبل أن يشتد القصف بشكل أفظع، وقال لنا أن غداً في الصباح الباكر الإنطلاق.

غمرتنا الأحزان، ولم نستطع إمساك دموعنا، ذهبنا لكي نودع غفران وأهلها، وكانوا أيضاً قد حزموا أمتعتهم ليهاجروا إلى منطقة تحميهم من القصف العنيف.

جاء الليل ولم نستطع إغماض أعيننا من شدة الخوف والقلق من المستقبل المجهول.

ماذا سنواجه غداً!
ماهو مصيرنا؟
هل سنقلي حتفنا غداً ونذهب إلى السماء السابعة؟!

يا الله إنني لا أخاف على شيئ مثل خوفي على فقدان أحد من أهلي، قضيت ليلي باكيةً كيف سأعيش إن فقدتُ أحداً منهم!
أظن أنني سأموت من شدة الحزن إن فقدت شخصاً أحبه.

لقد قرروا غفران وأهلها أن يهاجروا إلى " تركيا" فهي المنطقة الأكثر أماناً.

قصت علينا غفران مأساتهم على الطرقات
وتصف قائلةً -وهي ترتجف من برودة الليل الثلجي- حالها عندما وصلت مع الأطفال إلى حاجز السلك الشائك الذي يفصل الحدود بين وطنها وتركيا، وقد دفعت طفليها الصغيرين عبر الحاجز واستمرت في الجري على أمل أن محنة ترك بلدها المضطرب،لكنها سرعان ما اكتشفت أن طفليها الكبيرين، ست وسبع سنوات، ليسا خلفها.

وفي ذاك الوقت كبتت الأم لهفتها على ولديها لمناداتهما في الظلام وتذكرت التحذير الذي وجه للأسرة بعدم إحداث أي ضوضاء أثناء الهرب خشية أن يلفتوا انتباه قناصة، ومُجبرة عادت الأم أدراجها صوب الحاجز باتجاه سوريا فوجدت طفليها عالقين في السلك الشائك وهما في حالة من الرعب لم يقدرا معها على الصراخ.

وهمس أحدهما لها قائلا "أمي أنا عالق. أردت أن أنادي عليك أين أنت يا أمي لكنني كنت خائفا".

وبعد تخليص ولديها من السلك الشائك واصلت الأسرة مسيرها، وكانت لهفة الأم وهي تحمل الطفلين الصغيرين، أربع وخمس سنوات، هي الوصول إلى بر الأمان، وكابدت طريقها في صعود أحد التلال حتى دميت يداها.

وفجأة قطع جنديان الطريق وتجمدت الأسرة في مكانها.

وعندما قام أحد الجنديين بالاقتراب من الأطفال صدتهم الأم، لكن الرجلين ابتسما وقال أحدهما: لا بأس عليك أنتم في أمان.

وكان الجميع مذعورين خوفا من الموت في أي لحظة.

ورغم تطمين الناس لهم فإنها من شدة الخوف كانت تخشى أن يكونوا كاذبين.
ولم يهدأ لها بالهم حتى وصل آخرون وقدموا لهم  الشاي وأسكنوهم ملجأ مؤقتا بمجمع سكني مهجور.

وتحكي الأم الارتباك الذي كان فيه ابنها الأكبر عندما قدم لهم  الشاي حيث سأل أمه مترددا "هل آخذه؟"
أيعقل أنه ملغوم؟

وكانوا قد أكملوا القسم الثاني من الرحلة عن طريق البحر ويا لها من رحلة مليئة بالموت.

د

اخل البحر، يحاول أخ غفران  انقاذ رغد بخلع قميصه و رميه إليها، صاحب مطعم  على الشاطئ يحاول سحب قارب صغير الى المياه من اجل نجدتها و لكن القارب لا يذهب ابعد من بضعة امتار، مركب لخفر السواحل يظهر فى الصورة .
لحظات قليلة و يأتى احد منهم ليطمئن الجميع أنه تم انقاذ الطفلة رغد بسلام.
كما قصت لي غفران أنه أمثر من 2.500 هارباً من القصف العنيف  قضوا نحبهم خلال محاولتهم للوصول الى الأراضي الآمنة، عشرات الآلاف عازمون على المخاطرة من اجل الوصول، الذى يتحقق فى الاغلبية العظمى من الحالات.

فور وصول الزوارق للشاطئ، يخرج الرجال اولاً ليساعدوا النساء و الاطفال على الخروج، يحاول اللاجئون قذف حقائبهم و احذيتهم على الشاطئ فى محاولة يائسة لتجفيفها بعد غمر المياة لزورقهم طوال الرحلة العصيبة.

البعض الآخر يرمى بسترات النجاه عاليا كلاعب كرة القدم الذى يخلع قميصه احتفالا بالهدف.

مثل عائلة كانت معنا يأتون بهواتفهم و حقائب صغيرة بها ما تبقى لهم من ملابس و مدخرات قليلة من العملات التى دفعوا معظمها لأناس ساعدوهم على العبور لقد،  اضطر العديد أن يبيعوا كل ما امتلكوا فى سوريا من اجل هذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر.

أطباء، مدرسين، مهندسين و ربات بيوت، جميعهم أبحروا، البعض يضطر الى السير لاكثر من 40 ميلاً للوصل إلى بر الأمان.

"

لقد عانت رغد من أمرين بسبب الحرب، كان قد بدأت فى التلعثم في الكلام، لقد كانت خائفةً جدا بسبب القصف" هكذا تقول غفران، بينما كانت تضمها إلى حضنها خوفاً عليها.

قبل عدة ايام، تقطعت السبل بسيدة كانت معنا تعانى من الشلل، نصحها مرافقيها أن تنتظر حتى يرفق بها أحداً و يقوم بإيصالها لاقرب نقطة تسجيل.

لقد ظلت جالسة أمام جامع لمدة ساعات حتى تعطفت عليها احدى السائحات هناك، التى قامت بإستعارة سيارة وأوصلت السيدة إلى أقرب نقطة لمركز للاجئين متحدية الشرطة المحلية التى تمنع السكان و الزوار من ايصال اللاجئين بسيارتهم.

على الشاطئ، يمشى " إبراهيم " لقد فقد القدرة على تحريك قدميه أثر إصابته برصاصة سكنت عموده الفقرى قى الايام الاولى من القصف.

يسير محمولاً بجواره فتى نحيف فى الخامسة عشر من العمر يدعى طلال الذى يعانى من مرض وراثي أدى إلى ضمور فى عضلات ساقيه، يقود المجموعة ابن عمهم.

وروت أنه كان معهم شخص قَطعت قصته القلوب أنه أب سوري لطفل حديث الولادة يبلغ من العمر (5 أيام) قائلاً:إنه كان معه في نفس الحافلة، حيث قام الأمن وهو في طريقه لإحضار وصفة طبية لزوجته التي ترقد في المشفى بعد عملية ولادة قيصرية، وقال أن الزوجة بقيت وحيدة في المكام ولا يوجد أحد يرعاها مُطلَقاً أو ينفق عليهما، ولا يعلم ماذا سيحدث لها وهي وحيدة دون مال أو زوج.

كيف ذلك يا الله! 
كيف لنا أن نعيش كل هذه المعاناة!
لكن كلما روادتني هذه الأفكار الشيطانية أتذكر قول أبي أننا ذهبنا لنهاجر في سبيل الله وأن أرض الشام هي الأرض المباركة.

هكذا انتهت قصة غفران وأهلها وانقطعت أخبارهم عنا، لا ندري ماحدث، أين سكنوا!.
أين عاشوا؟
لقد كانوا خيرة الجيرة، ولم نرَ منهم إلاّ الشيئ الحسن.

ليس هناك مناسبةٌ هذا اليوم للعودة إلى منطقتنت في حلب، غير أن شِعراً أعادنا إليها منذ أيام، حين يوثّق أحدهم  ينقل لنا فيها أوجاع المكان وأطفاله الفقراء الذين تحولت قلاع الطين التي كانوا يبنونها حفاةً إلى قبور لهم، ويؤرخ الوقتَ على وقع القذائف والموت والنزوح، حين يرفع سكانها أصبعاً وسطى في وجه الطائرات ويضحكون حتى السعال.
بالطبع سيكتب التاريخ بحبر لا يزول مع الزمن قصة مستضعفين فروا من ظلم شديد الى اخوة في الدين وجيران.

رأينا حَجرَان متقابلان على الطريق الرئيسي يعنيان أن مباراة لكرة القدم قد انتهت منذ وقت قصير، وفقدانهما يعني أن طفلاً في الحي قد مات بسبب قذيفة عابرة، وأن أصدقاءه قد أعلنوا الحداد عليه وتركوا اللعبة حتى نسيانه.

الحاجز الجديد على طرف المدرسة يعني أن فصيلاً جديداً قد تشكَّلَ واتخذ من المكان مقراً له، وأن أطفالاً جُدداً لن يستطيعوا ممارسة نشاطهم الصباحي في قراءة التاريخ وضجيج الأناشيد الصباحية، وأن بيوتاً جديدة سينزح أهلها خوفاً من الطائرات التي تقتل كل شيء.

المسجد المغلق يعني أن الصلاة قد تأجلت بفعل القصف، وأن الأمهات اكتفينَ بالدعاء لحماية أطفالهنّ، وأنه غداً ستجوب الشوارع للتكبير والراحة.

غياب الاتصالات يعني حرمان الجميع من معرفة ماذا يدور خلف جدران المدينة، أو أن رجلاً غاضباً قام بتحطيم برج الاتصالات، أو ربما آخر قرر سرقته ليبيعه لتجّار الخردة والحديد.
أو  أن المبنى قد تهدم على رؤوس ساكنيه حاملاً معه أحلام الجميع برسالة يثبتون فيها أنهم على قيد الحياة.

هنا في "هنانو"  أنت لست بحاجة للاستقراء، كل شيء واضح ومرسوم بلغة ودلالات مفهومة تُتعب الغريب عن المكان، وتُشعره بالضيق من كتل الإسمنت التي تشبه ملامحنا ونحن نركض حفاةً حول كرة صغيرة.

بينما يأكل الإسفلت من لحمنا، وتفتح آلاف التساؤلات عن قصص تروى عن الحب والخوف والجوع خلف الجدران.

تخلو المدينة من سكانها اليو، هكذا أخبرني من زارها مؤخراً بعد ثلاث سنوات من احتلالها.

عائلاتٌ قليلة تسكن في ما تبقى منها، تدلُّ عليهم الخرق المهترئة على حبال الغسيل.

يقول صديقي خائفاً بلغة لا يفهمها إلا من عاش في هنانو؛ «لا شوادر ولا أصص زرع ولا براكات قهوة ولا أحجار لكرة القدم».

أُغلق الرسالة دون ردّ.

يرسل في اليوم الثاني؛ «تائهون يعبرون المدينة»

فأفهم أن سكاناً جُدداً يحاولون العيش في منازلنا القديمة ويفشلون من جديد. الرسالة الأخيرة؛ «أزلتُ شادر البيت»، فعرفتُ أنه هجر المدينة إلى غير رجعة.

هكذا سمعنا أصدقاءنا وجيراننا تتكلم عمّا جرى في منطقتنا إنه شيئ يدمي القلب.

كان هناك جارة لنا في البناية المقابلة تدعى أم محمد

جلست أم محمد وحدها على باب بيتها في حيّ طريق الباب في حلب، كانت تراقب الشارع الخالي من مظاهر الحياة، وتضم يديها الباردتين إلى صدرها لتخفف من حدّة الصقيع الذي زاد من سوء ذاك النهار.

لم يكن هذا بيتها القديم الذي عاشت فيه مع زوجها وأولادها مرارة وحلاوة كل شيء، فالنزوحُ صار سمة معظم القاطنين في هذه المدينة.

والبحثُ عن مناطق آمنة بعض الشيء، أو أقل قصفاً، أجبرها دوماً على حمل أحفادها والخروج بهم، إلى أن استقر المطاف بها في هذا البيت العربي في مكان آخر، بعد أن تضرّر بيتها في " هنانو "  وأصبحت الإقامة فيه خطيرةً منذ تشرين الثاني 2013.

كان حلم العودة إلى بيتها لإصلاح ما يمكن إصلاحه والسكن فيه يرافقها دوماً، فتركت معظم أغراضها فيه رافضةً إخراجها.

وعندما كانت جاراتُها تَلُمنَها على عدم أخذ أغراضها كانت تقول: «ما زال جيراني في الحارة، الذين عشت معهم عشرين سنة، هم سيحمون بيتي من السرقة أنا متأكدة من ذلك».

كان كل مبنى هنانو يحتوي على ثلاثين شقة، فنادراً ما كان يوجد في مبنى واحد عائلتان من منطقة واحدة.

السمة الوحيدة التي كانت تجمعهم هي الفقر، والجري وراء لقمة العيش في بيوت طابقية تشبه علب الكبريت.
وهذا للأسف هو الواقع المرير!

للحظة شعرَت أم محمد بالاختناق، قصصٌ كثيرة حكتها أم محمد خلال دقائق لتفرغ ذاكرتها أمامي. مرَّ أمامها شريط الذاكرة لبيتها الذي دَهَنَتُه باللون الأبيض بيديها هي وزوجها لتوفر أجرة العامل، سريرها في الغرفة القبلية بعد أن أقعدها ألم المفاصل.

وحال دون نومها على «فرشة الصوف» التي كانت دائماً ما تتباهى بأنها ثقيلة جداً ومحشوةٌ بصوف «طلي»، أي خروف الصغير. منذ عرسها كانت هذه «الفرشة» رفيقتها.

الخزانة الحديدة على الشرفة التي كانت تضع عليها «المونة»،  من عدة أصناف «، قلب عبد الوهاب، والريحان».

كانت تجلس مع زوجها على أريكة على الشرفة المطلة على الشارع ليشربا القهوة، التي كان يفضلها في كأسٍ زجاجية، وكانت تلومه دائماً قائلةً إن القهوة لا تُشرَب إلا بفنجان، ثم تعرّجُ على أن «الدخان هذا سيقتلك».

فيما ينظرُ إليها هو بحدّة ويسألها عن المارّة في الشارع، وعمّا إذا كان نظرها يصل لمعرفة ذلك الشخص المارّ من هناك أو لون ثيابه، وحين تجيبه كان يقول لها: «ما زلت شابة يا حجة».

مرَّ في ذاكرتها أيضاً جامع أبو بكر الصديق  في مواجهة بيتها، واستئناسها الدائم بصوت المؤذن وسماعها لخطبة الجمعة، هي التي لا تجيد من القرآن سوى سورة الحمد وسورة الصمد.

كانت تحفظ كلمات من الخطبة لتسأل أولادها عنها عند عودتهم، لتتأكد من ذهابهم إلى الجامع.

تذكرت كيف زَوَّجَت محمد في بيتها، وكيف ضمت الغرفةَ الصغيرةَ إلى الشرفة كي تتسع لغرفة نومه.

وتذكرت سهرات الضحك والبكاء التي رافقت جدران هذا المنزل التي تحمل شهادات أولادها وصورة لزوجها وورداً بلاستيكياً مررته على الجدران.

وستائر طرّزت عليها حصانين متقابلين، تغطي بها باب البيت كعادة أهل قريتها.

تذكّرَت الأغطية من النوع «الكوري» و التي وضعتها فوق محمل «الفرش».

وكانت قد أوصت عليها الحجيج من السعودية، وضنّت بها على نفسها وزوجها. كان من المفترض أن تكون تلك الأغطية هدايا لبناتها عند زواجهن.

معظم سكان المدينة، ومنذ سماعهم خبر تقدم قوات الأسد، أخذوا ما استطاعوا من ثياب ومواد أساسية وتوجهوا نحو الأحياء البعيدة .

لم يكن هرباً من الموت، فالطيران يحصد الجميع، ولكن الخوف من الاعتقال أو انتهاك الحرمات كان يسيطر عليهم، والخوف من فقدان عزيز عليهم والعيش وحدهم في ظلمات الحياة.

كان هناك «فسحة» صغيرة في أرض البيت الذي سكنته، الذي كان يعود لأحد أقرباء زوجها ممن هاجروا إلى تركيا.

زرعت أم محمد فيها بعض الحشائش لتساعدها على الحصار المطبق منذ أشهر على المدينة، وبدأت تلك الحشائش بالنمو قليلاً فوق الأرض.

كان يساعدها على الصبر انتظارُ ابنها المعتقل، وأملُها بالحياة لترى موت الطاغية بأم عينها فيهدأ ثأرها الشخصي ممن قتل بكرها محمد، واقترابُ حصاد «موسمها» الذي زرعته بعناية على قطعة أرض لا تتجاوز الـ 50 متراً.

«يريد اقتلاعنا كما قتل أبناءنا»، قالت أم محمدٍ مع صوت تنهدٍ مسموع: سامر الذي جلس إلى جوار والدته ملتفاً بحضنها كما لو أنه يحاول تهدءتها قال لها : .

فردّت عليه بغضب: «أنا أم محمد، الشهداء لا يموتون».

وهي تلمُّ في أكياس الخيش ثياب أحفادها والدمعةُ لا تفارق وجهها، وصوتُ بكاء الاطفال يملأ المكان ويضيفُ على الجو جنائزية جديدة.

لمحت بندقيةً في زاوية البيت كان سامر قد أتى بها، لم تعد قدماها تحملانها، شعرت أن سامر سيكون شهيداً آخر، وعجزت عن الصراخ.

قالت لي في اتصالٍ لاحقٍ إنهما لم يتحدثا بشأن البندقية، وإن ابنها اكتفى بتقبيل يدها قبل أن تنطلق السيارة التي جاء بها لتنقلها مع حوائجها والنساء والأطفال.

وأظنها أيضاً إنها اكتفت بلمس شعره الأسود، والدعاء. كان سامر قد أعدّ لها بيتاً في حي الفردوس.

وفي الاتصال الأخير لي معها أخبرتُها أن الناس ينزحون إلى مناطق النظام، طلبتُ منها بخوفِ طفلٍ صغيرٍ أن تحمل أحفادها وتتجه إلى هناك.

كان كلامي مبعثراً وغير مفهومٍ أمام صمتها، فأنا في حضرة أم محمد، ذاكرة المدينة وحاضنتها كما أعتبرُها.

قالت لي بعد أن انتهيتُ من حديثٍ طويلٍ عن الحياة وإرادة العيش: (ن أترك أرض الشام المباركة، وسأموت بها، وأدفن بها رغم أنفوفهم).

شعر أن جارتنا أم محمد هي أكثر من عانى بيننا!
فهي التي فقدت أولادها، فمنهم من اعتقل ومنهم من ذهب إلى خالقه.

أمّا نحن فقد حزمنا الأمتعة، لكن كان أبي كله أمل أننا سوف نعود ولن يطول هجرنا ولن نذهب سوى ثلاثة أيام ريثما يهدأ الوضع قليلاً.

كنا جميعنا نتأملُ مثل أبي، لكن كان الواقع عكس ذلك تماماً للأسف الشديد.

فقد ركبنا سيارتنا هرباً من الموت، وذهاباً إلى المستقبل المجهول، الذي لا نعرف عنه شيئاً.
أين المسير؟
أين سينتهي بنا المطاف!

سرنا نحو المجهول، ونحن في منتصف الطريق فكّر أبي أن نذهب إلى عمي الذي يسكن في منطقة بريف حلب، نجلس عنده بضعةً أيامٍ ريثما نجد بيتاً يلم شتاتنا ومنطقة تحمينا من قصف العدو.

بعد عدةِ ساعات مضى الوقت ووصلنا إلى وجهتنا إلى بيت عمي، ذاك الطريق المجهول لا نعلم عنه شيئاً.

اتصل أبي بـعمي لكي يدلنا على مكان بيته، لكن لا جدوى!
كالمعتاد لا شبكة عندنا.

انتظرنا ساعات في السيارة تائهين، يائسين من هذه الحياة، لا وجهة لدينا، ولا بيت يحمينا، الأرض مأوى لنا، لم يتبقَ في حيلتنا إلا الدعاء.

وبعد عدة ساعات ومحاولات كثيرة من أبي للاتصال بأخيه، وأخيراً وبعد عدد مكالمات غير محدود نجحت معنا مكالمة، أخبرنا عمي أننا في تلك المنطقة وننتظر منه أن يساعدنا ويمنحنا بعض الوقت للعيش في بيته، إلى أن نرى مكاناً يسعفنا.

جاء ابن عمي سعيد ووجهنا إلى مكان بيتهم، لم يكن يعيش في البيت أحداً سوى عمي وابنه الكبير سعيد، فامرأته وابنه سعد وابنته شيماء كانوازفي زيارة عائلية في منطقة أخرى.

ولجنا البيت ولا نعلم من معالمه شيئ، كان منزلاً كبيراً يحتوي على ستة غرف، به أثاثٌ فاخر، أرضه مزخرفة وملونة بالألوان الجميلة.

غرفة نوم الوالدان لها طراز مختلف، ألوان أضوائها تشعرك بالرومنسية.

أما غرفة نوم الأطفال فهي ملونة بألوان الشبان والشابات، باللون الزهري والأزرق، لها طابع جميل حيث البراءة كلها تجتمع فيها.

أما المطبخ فإنه يحتوي كل الأجهزة الحديثة، نافذفته تطل على الأراضي الزراعية، فهو بيت في آخر الضيعة، لا يوجد بجابنه سوى عمارة واحدة وهي خاليةٌ من السكان.

بدأت رحلة خوضنا ومعركتنا في البيت الجديد، تلك الرحلة المجهولة، ننام ونستيقظ لا نعلم أين الاستقرار ولا أين العيش!
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي