الفصل الثاني

أسرعت أنطلق عبر الأشجار، مطلقة لحواس ذئبتي العنان وقد تركتها لترشدني خلال رحلتي الأولى لخارج جدران محبسي المسمى قسرًا بالمطاقعة التي يقطنها أفراد قطيعي، لقد ركضت لعدة ساعات الآن، وقد بدأت أشعر بتأثير تلك الساعات على جسدي، فلساعات وانا أركض في أرض خالية لا تنتمي لأحد، لست واثقة اذا ما كنت أدور في دوائر حول نفسي أو إن كانت تلك الأرض فقط شديدة الاتساع، ربما هذا فقط خطئي أنا
أخيرًا عبرت حدود إحدى المقاطعات في الساعات الأولى من النهار، لا أعلم إن كان لديهم دوريات حراسة أم لا، ولكني بكل تأكيد لا آمل في ذلك، اعتقد أن هذا القطيع هو قطيع الغابة الخضراء، ما سمعته عنهم هو أنهم ليسوا بأشرار أو معروفين او شيء من ذاك القبيل، انهم فقط نوعًا ما متواجدون هنا، عبرت مقاطعتهم بسهولة ودون أية عراقيل، الأمر الذي هو ليس بجيد لأجلهم خاصة اذا ما خطط أحدهم لمهاجمتهم، تكرر نفس الشيء مع العدة مقاطعات التالية، قطيع النار جعلوا بعض الذئاب تطاردني، حسنًا الأمر لا يعدو عن تتبعهم لرائحتي بعد فترة طويلة من ابتعادي عن مقاطعتهم، وأشكر إلهة القمر ان ذئبتي لم تُرى الى الآن
و ها أنا مرة أخرى في أرض خالية ليست خاضعة لملكية أحد، ولكنها فقط رحلة قصيرة بمسافة كيلومتر، ربما؟ على أية حال، لازلت أركض لما يقرب الاثنى عشر ساعة، اعتقد انني استحق استراحة بعد ركضي معظم ذلك الوقت، هدأت من سرعتي حتى استقريت على مكان نائي بجوار جدول قريب ثم تحولت الى هيأتي البشرية، سريعًا ارتديت كنزتي العلوية الفضفاضة القديمة وبنطال جينز مهتريء، جلست بجوار الجدول ووضعت قدمي في مائه، استندت برأسي على كتفي بينما أتكيء على ذراعي وأنا أستمتع بحرارة الشمس ثم ابتسمت، لفترة طويلة، لقد مرت فترة طويلة منذ أن تمكنت فقط من الاسترخاء، دون أن اقف خائفة في الجوار منتظرة الصفعة التالية من أيًا كان من شهد جرمي الذي لا يعد جرمًا من الأساس

جلست هناك لبضع دقائق استمتع بسكون محيطي وقد هدأت أنفاسي المتلاحقة قبل أن اسمع صوت زمجرة معدتي، طعام! لماذا لم أفكر في احضار الطعام معي؟.. غبية
تنهدت ثم خلعت ملابسي من جديد، ومن ثم تحولت الى ذئبتي.. متأخر جدًا الآن، انا لست حقًا بالشخص الذي قد يقوم بالصيد في هيأته الذئبية، فرغم كل شيء بالامس كانت المرة الثانية فقط التي اتحول بها بسبب تعنت قطيعي وخوفي من افتضاح أمر لون ذئبتي
استمريت في ركضي نحو الحرية دون توقف حتى وصلت الى مقاطعة القطيع التالي، توقفت على الحدود عندما طالعت بعض الذئاب تحوم مختفية في الظلال، يحاولون أن يكونوا حذرين كي لا ينتبه لهم أحد، نظرت حولي باحثة عن شيء كي استتر به عن أعينهم، ماذا؟ ألا أستطيع فقط ان أشق طريقي لداخل مقاطعتهم دون أن يلاحظوا! لا.. فماذا لو امسكوا بي وقاموا باستجوابي حول لون ذئبتي غير المألوف؟
وعند ذلك الخاطر التقطت عيناي بقعة من الطين قمت بالتدحرج بداخلها على الفور مما جعل فرائي يبدو بني اللون، انتظرت حتى يجف قبل أن اختبيء خلف شجيرة، مستعدة للركض في أي لحظة تسنح لي بها الفرصة كي أفعل
نظرت نحو الظلال من جديد فالتقطت عيناي بعض من نفس الذئاب من السابق، دقائق أخرى مرت قبل أن يبدأوا في التحرك، ربما يبدلون الدوريات، لذا انتهزت الفرصة
وركضت مسرعة عبر منطقتهم، وبالطبع لم اتوقف عندما وصلني صوت عواء الذئاب الجديدة التي تسلمت مناوبة حراسة الحدود التي عبرتها للتو، لقد اشتموا رائحتي على الأغلب، لا لن أخاف من أصوات عوائهم وبالطبع لن اتوقف فالوقوف يعني... لا لن ادع تلك الأفكار السلبية تعوق تقدمي، لذا واصلت الركض بسرعة أكبر، ولكن ما لم اتوقعه هو أن اكاد ان اسقط على الأرض بعد أن تمت عرقلتي فجأة من قِبل ذئب بلون الرمال، زمجر في وجهي كاشفًا عن أنيابه ثم تحرك منتويًا الانقضاض علي، ولكني قفزت مبتعدة ثم أسرعت راكضة من جديد، أطلق الذئب عواء سمعت على إثره الصوت الثقيل للحوافر على الأرض القريبة من خلفي، اعتقد اربعة او خمسة ذئاب يركضون خلفي في هذه اللحظة، هرعت وانا أحث ذئبتي على الركض بشكل أسرع، تذمرت ولكنها أطاعتني وزادت من سرعتها على أية حال
' هيا! احتاج لان ابتعد من هنا' صرخت بها وانا انحرف بحدة نحو اليمين ومن ثم اليسار، أحاول جاهدة أن أفقد الذئاب من خلفي، إلا أن ذلك لم يفلح على ما يبدو
' انا احاول! لا اعتقد انني استطيع الركض بشكل أسرع ' صرخت ذئبتي في رأسي بذعر قد استولى على حواسها، مما جعلني أصاب بالعدوى على الفور، ماذا لو امسكوا بنا؟ ماذا لو لم استطع الفرار؟ ماذا لو قتلونا؟
ذلك الخاطر أصاب هدفه مما جعل ذئبتي تسرع أكثر وأكثر، سمعت صوت الحوافر يصبح أهدأ فأهدأ كلما بعدت المسافة بيني وبين ملاحقيّ
' سوف نفعلها ' بكيت بارتياح وقد فعلنا
ولكني بمجرد عبوري للحدود رأيت صفًا من الذئاب يشكل حاجزًا يعوق تقدمي، يتوسطهم الذئب رملي اللون، يقف منتصبًا وفخورًا بينهم، عيناه البنيتان تخترقان ذهبيتاي، رأسه مائل للجانب بينما يراقبني عن كثب، ذهبت راحتي من السابق أدراج الرياح عندما خطى خطوة حذرة للامام تراجعت على اثرها خطوتان للخلف مما جعله يتوقف على الفور، طالعته بخوف في عيناي بينما حدق بي هو في المقابل بحيرة
تراجع أخيرًا للخلف حتى اختبأ خلف احدى الأشجار، لحظات ثم ظهر من جديد مرتديًا سروال قصير وفي هيأته البشرية
لديه الشعر الأشقر المعتاد، ولكن بلون يميل للرملي كلون فراء ذئبه وأعين بنية فاتحة، بشرته داكنة ويبدو وكأنه في التاسعة عشر من عمره او ربما العشرون، لديه جسد متناسق ولكنه ليس بعضلي بشكل مبالغ به ولا بالنحيف كذلك، بشكل عام يبدو لطيفًا
تحرك باتجاهي مجددًا فتراجعت خطوة للخلف مما جعله يتوقف في مكانه
: لن اؤذيكِ، كل ما اريده هو الحديث
قال بصوت هاديء ولا يبدو انه يحمل شيء من السخرية، على الرغم من ذلك، لقد تعلمت ألا أثق بأحد لذا لم افعل
: تحولي
أمر، وعندها أدركت أنه على الأرجح في مكانة أعلى بمراحل مما كنت يومًا عليه، ربما قائد من الدرجة الثالثة، أو الرجل الثاني بعد الألفا ( بيتا ) على كلٍ، أنا في قاع القطيع، لذا من السهل أن يتغلب علي
على الرغم من ذلك أنا لم أعد في مقاطعته، اذًا لماذا علي أن استمع اليه؟ استطيع أن أركض في اية لحظة ولا يستطيع أن يفعل شيئًا حيال الأمر
حركت رأس ذئبتي نفيًا مما جعل الزمجرات تنطلق من صف الذئاب الخلفي، حسنًا على ما يبدو انهم لا يحبون أن يتم عصيان رؤسائهم، ذئب آخر تقدم للأمام مما جعلني اتراجع للخلف بخوف، نظر له الشاب في عينيه مما جعل الأخير يتراجع على الفور بطاعة، شعرت ذئبتي بالارتياح قليلًا ألا انها لازالت تشعر بالتوتر
' ألا نستطيع فقط الركض؟ لن يتمكنوا من اللحاق بنا فنحن لم نعد في منطقتهم ' سألت ذئبتي بيأس
' نستطيع، ولكنهم لازال بامكانهم ارسال آخرين خلفنا، بالاضافة لكونك حديثة التحول ولم تستطيعين استخدام كل قواكِ بعد ' أجابت، قوى؟ أي قوى!
وقبل ان اتمكن من السؤال تكلم الشاب من جديد
: اسمي كولوم، بيتا قطيع الظلام
حسنًا لقد اجاب على افتراضاتي السابقة، لم اطيع امره السابق للتحول بينما هو لم يتحرك على الاطلاق
لحظة واحدة، قطيع الظلام؟ أنا لم اسمع بذلك الاسم من قبل، ربما دايمون أخفى القليل عني، كما فعل مع القطعان الأخرى التي سألت عنها، أنا فقط اعرف قطيعي، الغابة الخضراء والنار

ساد الصمت لبضع دقائق، اعتقد أنه ينتظر تحولي، بدى على وجه كولوم الانزعاج اللحظي قبل أن يضع قناع غير مقروء يخفي حقيقة مشاعره
: اما أن تتحولي او تلتقي بالألفا، الخيار لكِ
اتسعت عيناي على اثر تعقيبه الأخير وسرعان ما تواريت خلف إحدى الأشجار وقمت بالتحول
ارتديت نفس الملابس من السابق ولكني لم أخرج
: هل انتهيتِ؟
سأل كولوم من مكان وقفته السابق، أومأت برأسي ولكني سرعان ما ادركت خطئي، انه لا يستطيع رؤيتك سيلينا

: أجل
أجبت بهدوء، ولكني أعلم انه وكل من معه قد سمعوني، ماذا أفعل، أنا فقط لا استطيع الحديث بصوت مرتفع مع شخص لا أعرفه

: مع ذلك أنا لن أخرج
صرحت بشكل أكثر حزمًا ليصلني صوت ضحكته وبعض الضحكات الساخرة على اثر تصريحي

: وماذا قد يكون السبب في ذلك؟
سألني بتسلية واضحة من نبرة صوته
: أنا لم أعد في أرضكم كما انك لا تمتلك حقوقًا على ذئب مشرد
زمجرت ذئبتي على اثر كلمة ( مشرد ) ولكنها على الصعيد الآخر جعلت الجميع يلتزم الصمت
: لقد عبرتِ خلال مقاطعتنا وأي مشرد يعبر دون تصريح عليه أن يعاقب، لا يوجد استثناء لهذه القاعدة
أجابني بنبرة تبدو عملية

تنهدت قبل أن اقول مرة أخرى
: معك حق، لا يوجد استثناء، ولكن طبقًا لقانون المستذئبين، يوجد، فعندما يعبر مشرد من خلال إحدى المقاطعات ويتم الامساك به يجب معاقبته، ولكن اذا تخطاها دون أن يتم الامساك به يكون له حرية المغادرة بدون أية أسئلة، الاستثناء الوحيد لتلك القاعدة هو أن يكون المشرد مجرم، وأنا لست أيًا من ذلك، فانا لم أرتكب جرمًا واحدًا في حياتي، لست مطلوبة لأي سبب من الأسباب، ولست متوحشة، إن لم تصدقني أنظر في القسم الرابع القطعة ١٤.٥.٢ لترى إن كنت مخطئة في نظر قانون المستذئبين

سحبت نفسًا عميقًا بمجرد انتهائي ثم انتظرت رده، صمت.. هذا هو كل ما قابلني

تنهدت مرة أخرى ثم خلعت ملابسي وتحولت الى هيأة ذئبتي، تأكدت من أن فرائها لازال مغطى بالطين ثم خرجت من خلف الشجرة، قوبلت بالأوجه المصدومة للذئاب وكولوم وعندها اومأت برأسي باحترام ثم تحركت مبتعدة، بالتأكيد لن يلحقوا بي الآن

: انتظري
أحدهم هتف فجأة بينما أنا على بعد خمسين مترًا من الحدود، توقفت ثم التففت ببطء لأرى شاب مراهق بشعر بني وأعين داكنة سوداء تقريبًا يحدق بي، كان يضع سروال قصير، نحيف قليلًا ولكنه يمتلك عضلات كذلك
وصلني ببطء وبينما هو يقترب لاحظت انه يماثلني عمرًا، ما الذي يفعله من هو بعمره، يحمي الحدود ويطارد المشردين؟ لابد أن ذلك ليس قانونيًا
توقف على مسافة متران بعيدًا عني ثم انحنى محدقًا في عيناي
: كومراد! ماذا الذي تفعله؟
هتف كولوم بوجه يبدو عليه الغضب وعدم الاستحسان، ولكنه لم يتحرك رغم ذلك، وكذلك لم يفعل الصبي، كومراد، اعتقد ان ذلك هو اسمه

: أنتِ بعيدة جدًا عن موطنك اليس كذلك؟
سأل بصوت ناعم وهاديء، مطمئن بعض الشيء
لمحات من قطيعي السابق مرت بعقلي، وشعرت بقطرة من الدموع تنحدر من عيني فوق فرائي، فأومأت ببطء، عيناي مليئتان بالحزن والألم

: هل تفتقديه ؟
سأل مجددًا بصوت يبدو تمامًا كالسابق
حركت رأسي نفيا مما جعل المفاجأة تبدو جلية في عينيه، من الواضح أنه لم يتوقع تلك الاجابة، تحولت نظراته للحزينة وهو يقول
: اعتقد أن كل ما تحتاجيه هو صديق، شخص يكون قريبًا منكِ ويجعلك سعيدة، الست محقًا؟
سألني برفق بينما يقترب ليمسد فرائي المكسو بالطين، خرخرت ذئبتي بسعادة على اثر تلك اللمسة، وعلي أن أعترف، انها لطيفة
استلقيت أرضًا على معدتي وأسندت رأسي فوق قائميّ الأماميين، بأعين نصف مغلقة

: انتِ تحتاجين وطن، مكان تشعرين فيه بالأمان والراحة، ليس مكانًا ما تشعرين به دومًا بالتوتر والخوف، أخبريني ألست على حق؟

سأل كومراد مجددًا، كما لو أنه يعلم كل شيء عني بدون حتى أن يعرفني، دمعة اخرى سقطت من عيني بينما أوميء برأسي موافقة

: لماذا لا تأتين معنا؟
اقترح فرفعت عيناي المتسعتان نحوه بمفاجأة.. ابقى؟
: ستمتلكين وطنًا، ستكونين سعيدة، كل الذئاب الواقفين على الحدود سيكونون عائلتك، وسيهتمون بكِ، تمامًا كما فعلوا معي
حدقت به بتفكير، عاجلًا ام آجلًا سيتم قتلي أو الامساك بي، ولدي احساس بأن ذلك سيكون عاجل عوضًا عن آجل، وقفت ببطء ثم اتخذت طريقي نحو الأشجار، تحولت ثم ارتديت ملابسي على مهل وأنا أسأل نفسي سؤال واحد
هل أنا حقًا أريد ذلك؟
وطن؟ عائلة، حب واهتمام، كل شيء لطالما حلمت بالحصول عليه يومًا ما، اعتقد أن السؤال ليس صعب الاجابة عنه، ولكنه كذلك، لقد ضُربت، جرحت، جلدت، بُصق علي، دفعت من أعلى الدرج، والقائمة بلا نهاية
هل سيعاملني ذلك القطيع بلطف وتعاطف، أم سيكونوا تمامًا كما القطيع السابق؟ لماذا قد أهب نفسي لقطيع بينما أنا قد تحررت للتو من سابقه
ولكن من ناحية أخرى ذلك القطيع يبدو لطيفًا، البيتا يبدو أنه رجل عطوف، كومراد يبدو وكأنه قد أحبني كصديقة وكل واحد على الحدود الآن سيحمي قطيعه مهما حدث، تستطيع أن تعلم ذلك من وجوههم القلقة عندما أتى كومراد لأجلي، ومن تعبيرات الوجه المتوحشة عندما لم أنفذ أوامر البيتا خاصتهم، نقطتان قيمتان وفقط جواب واحد
المخاطرة هي ما تبني الشخصية، وأنا لم أخاطر في حياتي ابدًا من قبل، لم اقف ابدًا في وجه أحد، لم استجوب احد، لم أضع ثقتي بأحد بعد والداي
أظن أن القيام بمخاطرة لمرة لن يقتلني
سحبت نفسًا عميقًا ثم خرجت من خلف الشجرة، شعري يكسوه الطين، ملابسي قديمة ومهترئة، وجهي وجسدي مليئين بالاصابات والندوب، ومع ذلك ابتسم لي كومراد، ابتسامة واسعة شملت وجهه، ولم أستطع منع شبح خاصتي من اعتلاء تعبيرات وجهي  في المقابل
وعندئذ فعلت شيء غير متوقع، ألقيت بنفسي عليه محتضنة له، لم أعانق أحد منذ أن كنت في السابعة، انه شعور جيد، احتضنني كومراد كذلك بينما أهمس في أذنه : أشكرك
أطلقت سراحه مبتعدة وقد أدركت فجأة ما فعلت، أحنيت رأسي وأنا أعض على شفتي السفلى

: آسفة
اعتذرت بهدوء، قطيعي القديم كان ليقوم بضربي او صفعي اذا ما حاولت لمس أحدهم، لذا أعددت نفسي لتلقي الصفعة المدوية التي ستحط فوق وجهي
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي