4 الفصل الرابع

جلسوا على المائدة، ليقول ممدوح:
- شوفي يا ست البلد كلاتها، احنا إتأخرنا عشان كنا عند العمدة حجازي، وكان هناك كل رجالة البلد وكبراتها، عشان نعملوا صلح بين عيلة الشيخ شبل وعيلة السمارنه وكان كل طرف محكم راسه إن فدان الأرض الغربيه بتاعه، وغلب غلبنا معاهم إن الموضوع يتحل ودي، لغاية ما جه كمال عجاج ومعاه الشيخ صفوان ولد الهواكل وشهد إن الفدان ده منباع من جد حميده ولد شبل لجد صابر ولد السمارنه وهو والحاج عمران الله يرحمه كانوا شهود.
نظرت له بتعجب:
- وهو الشيخ صفوان لساته عايش، ده معدي التسعين؟!
ابتسم:
- ولو شفتيه هتجولي ما كملش السبعين ولسه وتد، دول بيدورولو على عروسه، تيجي نجوزه بدريه؟
اتسعت عيناها تعجبًا، وضحكت، وسألت:
- عليك وعلى هزارك يا ممدوح، ده آني لو جلت لها إكده تطب ساكته، المهم حلوتوها الحكايه واتراضوا وإلا لا.
- طبعًا حليناها هو حد يجدر يكسر كلمة الشيخ صفوان وإلا كلمه كمال باشا.
- طب الحمد لله.
- وإنتِ يا ست الكل تعملي حسابك إن عندينا ضيوف يوم الجمعه الجايه.
- ضيوف مين؟
- جولي يجي إكده خمسين نفر، هيبجي في الدار هنا عشرين، وبره الدار ثلاثين.
- خير يعني؟
- خير طبعًا، العمدة جايب ناس يرمموا الجامع الشرجي، وآني جلت غداهم عندي، الغدا هيروح للعمال عند الجامع، والمهندسين والكبرات هيبجوا أهنيه في الدار، عاوز أكل يشرفنا وتعملي كمان أكل من بتوع مصر ده، عشان المهندسين، آه يا ستي وتعملى حلو كريم كرامل مخصوص لخالد الباشا، عشان طلبه.
اختلج قلبها بين ضلوعها، فخالد هو زوج نرجس التي كانت يومًا ما صديقتها المقربة والتي تجاهلتها تمامًا بعد زواجها من خالد، ولم تدرِ زينب السبب، سيطرت على نفسها سريعًا وقالت:
- خالد الباشا جاي معاهم.
- آه ما هو اللي متكفل بالترميم، وآني عارف إنك أحسن واحده تعمل الكريم ده، ودي أول مره الراجل يشرفنا، إلا جوليلي يا زينب إنتي ونرجس عجاج ما عتوش تكلموا بعض ليه، مع إني عارف إنكم
وإنتوا صغار كنتوا كيه الخوات.
نظرت له بغضب:
- من ميتا الرجاله ليها في دواخل الحريم يا أبو عبدالرحيم؟
نظر لها متعجبًا:
- أبوعبدالرحيم ده إنتي ما تجوليهاش غير وإنتي زعلانه مني! خير لساتك زعلانه؟
زفرت قائلة:
- زعلانه ما زعلاناش ما لكش صالح، ليك إن اللي طلبته يتنفذ وبس.
- طب جوليلي مالك؟
- هو إنت ما خابرش إن خالتي جمر جايه تزورنا يوم الجمعه، وخروج خالتي جمر من دراها عزيز وجليل، أجعد معاها آني وإلا أجهز العزيمه يا ممدوح.
ضرب رأسه وقال:
- لا حول ولا قوة إلا بالله إزاي نسيت حاجه زي دي؟ معلش يا زينب، حجك عليّ يا غاليه والحاجه جمر آني هاجولها وبعدين إنتي فاكره إني هاسيبها تيجي وتمشي في نفس اليوم وإلا إيه وربنا ما يحصل أبدًا، اطمني.
قالت ريهام:
- طيب يا مامتي يا عسليه بما إن فيه عزومه بقي أعزم نور ومنى ونهى ويعملوا بلقمتهم ويساعدونا في تجهيز الأكل.
ابتسمت وقالت:
- ما يضرش يا آخرة صبري، بس هم هيساعدونا برضك وإلا هتجعدوا ترطوا في الحديت وما أخلصش من صداعكم.
صمتت قليلًا ولمعت عيناها مع ابتسامة جميلة:
- خليهم ياجوا يد زياده تريح ما تضرش.
أنهوا إفطارهم وتوجه ممدوح لغرفته، دخلت زينب خلفه وبعد أن قام بلف عمامته وضعت العباءة على كتفه، فاستدار لها و هو يقول:
- ها جمر الدار لساتها زعلانه؟
زفرت بهدوء:
- لا يا ممدوح ما زعلاناش.
ابتسم وقبلها من رأسها:
- ربنا ما يحرمنا من رضاكِ يا ست البلد.
- ولا يحرمني منيك يا غالي.
وغادر ممدوح بينما ذهبت زينب لتتابع شئون المنزل.
******
استيقظ خالد وفرك عينيه من آثار النعاس وتثاءب، ومدد ذراعيه يحاول أن يفك عضلاته المتيبسة من النوم، نظر بجواره فلم يجد ونيسة، نظر للساعة ليجدها اقتربت من الرابعة عصرًا، نزل من على فراشه ودخل الحمام ليستحم، وخرج يصفف شعره وهو مبتسم، إن السعادة تتملكه فهناك فرصة ليرى من ما زالت تسكن فؤاده بعد سنوات طوال!
كم سنه؟ يا إلهي ثلاثون سنة قد مرت منذ أن تواجد في مكان قد يراها به، ورغم كل السنوات التي مضت فما زال يتذكرها ويتذكر جمالها كانت ولازالت كما يسمع جميلة للآن، كان يعشق زينب ويتمنى الزواج بها لكن والده أحمد الباشا خطب له نرجس عجاج بدون حتى أن يستشيره ورغمًا عنه تزوج نرجس التي كانت صديقة زينب المقربة، كان سيتحين الفرصة ليحادث زينب وتكون له زوجة ثانيه لكن والدها النجار وافق على زواجها من ابن الجبالي لتضيع زينب من يده ولكنها لم تفارق عقله، سيظفر بالوجود في نفس المنزل الذي تسكنه بل وسينعم بتذوق الطعام الذي تعده فزينب كانت ماهرة جدا في إعداد الطعام ولم تكن تنافسها فتاة في إعداد الكريم كرامل، والذي تذوقه في عدة مناسبات فممدوح دائمًا ما يوزعه في المناسبات يرسله لدوار العمدة والعمدة يوزع منه.
دخلت ونيسة الغرفة ملقية التحية:
- صبحك الله بالخير.
- صباحك مجندل عليكي وعلى عيشتك.
- باه ليه إكده يا سي خالد، ده احنا لسه الصبح لا فتحت خشمي ولا جلت حتى كلمه تودرك.
- تودريني ! أهو ده اللي ناجص، أم المراكيب هتودرني.
نظرت له بضيق:
- بناتي زينة صبايا البلد يا ابن الباشا، وما هماش بناتي لحالي ولا كنت جايباهم في ديل جلابيتي وآني جايلك، دول بناتك وصلبك.
- بلا جرف بنات إيه وهباب إيه، ما ليش عيال آني غير يوسف نوارة عيني.
- ربنا يحميه ويبارك فيه يوسف حبيبنا ونوارتنا كلنا، بس برضك ورد و روح بناتك والبلد كلاتها تحلف بيهم وبأخلاجهم.
اقترب منها ممسكًا إياها من شعرها:
- ليه هم يجدروا يعملوا حاجه ده آني كنت تاويتهم بالحيا.
نظرت له والدموع تترقرق بعينيها العسليتين:
- أكتر من إكده! مش كافيك جعدتهم بعد الثانويه ومنعتهم يدخلوا الجامعه، ولا نفع معاك مراضيه ولا محايله، بنات كيه الورد كانوا ما فيش في شطارتهم ما يكملوش تعليمهم ليه؟ حتى المبيل مانعهم يمسكوه ولا بيخرجوا من الدار، ولولا اسم الله عليه يوسف هو اللي بيحن عليهم وياخدهم يطلعهم ويوديهم مصر وسكندريه ما كانوش شافوا الشمس.
أحكم قبضته على شعرها وهو يقول:
- مزاجي إكده، كيفي إكده، ولا عنديش غير إكده، يحمدوا ربنا إني سايب يوسف يعمل اللي جلتي عليه ده، أهو ما منعتوش، رايده إيه تاني؟
بكت قائلة:
- رايده أعرف لما إنت كارهني إكده وكاره بناتي ما عتفوتناش ليه؟ حلني وفك الطوج اللي محاوط رجبتي بيك ده، بتيجي جاعتي ليه؟
نظر لها مضيقًا عيناه:
- مزاجي، اللي مصبرني عليكي يا ونيسه حلاوتك، كل ما أبعد بتحلوي في عيني وأريدك، بعدين آني ما فيش حرمة تبجي على اسمي وأسيبها عشان تتجوز راجل غيري، حريم خالد لخالد وبس، ورايداني أهمل البنته عشان الناس تاكل وشي، لا دول جاري يا إما يتجوزا، يا ينجبروا وأرتاح.
- ما جالهم بدل الراجل عشره ومرتك محكمه رايها ما تجوزهمش.
كان باب الغرفة مفتوحًا لتقف نرجس على عتبة الباب وهي تعقد ذراعيها وتستند على جانب الباب وتقول:
- أباه يا خالد همل شعرها، شديد إنت عليها يا ولد الباشا، هملها لحالها مسكينه ونيسه، وآني يا أم البنات هاجوزهم لمكن يجيلي شوجي.
نظر لها خالد بضيق:
- أهلًا بأم الوريث.
وترك شعر ونيسة وخرج يقف أمام نرجس، التي أخذت تنظر له بحب، وتعدل من هندامه ومن وضع العباءة على كتفه وهي تنظر لونيسة بدونية وتقول:
- همي يا ونيسة يا أم البنته للمطبخ وإلا كمن أبوالوريث جاكِ عشيه عاده نفسك هانم، عندينا عزيمة للعمدة والرجاله اللي بيشتغلوا في الجامع غداهم عندينا النهارده، يالا بلا لكاعه وجلع ماسخ.
مرت ونيسة مكسورة القلب والروح فهي تعامل معاملة أقل من معاملة الخدم، ولا تملك الاعتراض أو الفكاك، فلم يعد لها من سند، لقد فقدت معظم ذويها والباقوون لا قبل لهم بالوقوف في وجه بطش خالد، ومن ذا الذي يقف أمام خالد؟! لقد كانت تكرهه حد الموت، فلقد اعترف لها بنفسه أنه قتل والدها، وأخيها فقط لكي لا يكون لها من ملجأ سواه وجعلها توقع له على عقد بيع منزل والدها لكي لا يكون هناك من جدران تحميها سوى جدران منزله، ولولا ابنتيها لكانت هربت منه لترحم نفسها من بطشه وما فعله معها، لكنها تخاف على صغيرتيها فقد تقتلهما نرجس، ولكن ما يعطيها الصبر هو يوسف الذي يحميها
ويحمي ابنتيها لأنه يحبهم ولا يتحمل أن يغضبهم أحد، لكنها تعيش في خوف فخالد لا أمان له ولو قرر في لحظة أن ينقلب على يوسف أو لم يبال في لحظة بغضب يوسف لربما قتل صغيرتيها وقتلها، هي لا يهمها نفسها، بل الفتاتين.
روادتها كثيرًا فكرة أن تأخذهما وتهرب بهما بعيدًا عن بطش خالد، لكن أين يكون ذلك البعيد؟ وهي لم تغادر البلدة أبدًا، ربما الفتاتين غادرتا عدة مرات لكن برفقة يوسف بالطبع، وأين ستذهب بهن، ولو فعلت ذلك وأمسك بها خالد فساعتها سيكون أرحم عقاب لها ولهما هو الموت، وهي تعرف خالد جيدًا لن يهبها للموت براحة أبدًا بل سيذيقها كل ألوان العذاب هي وابنتيها، وساعتها لن يستطيع يوسف الاعتراض لأنهن سيكن خاطيات في نظره.
كانت نرجس تنظر في إثرها باشمئزاز وما أن اختفت عن ناظريها حتى نظرت لخالد بغضب شديد:
- مش ناوي تبطل رمرمه يا أبوالوريث؟ إيه حنيت للأصل الواطي وشغل الخدامين؟
- آني يا نرجس معاذ الله، خابراني ما ليش في الحرام وإنت عارفه نسوان يبجى جواز.
- خابره يا خالع قلبي، آني جصدي على رمرمتك في الحلال، إيه اللي جابك الفجر تتسحب على جاعة المحروجه اللي اسمها ونيسه أم المراكيب دي.
قال بلين:
- جيت وخري ما رضيتش اصحيكي، عارف إن وراكي ليله كبيره النهارده.
رفعت حاجبها وقالت:
- لا فيك الخير يا حنين، ولمن إنت خايف عليا وعلى زعلي جايم متسبح ليه؟
- واه يا نرجس ما آني عتسبح كل يوم.
نظرت بغل:
- خالد إنت فاهمني زين، فاكرني ما سمعتش حسك وياها، ناسي إياك إن جاعتي جار جاعتها، وإني مخصوص مجعداها جاري وفوج مش تحت مع الخدامين عشان ما تجيهاش من ورايا، ما آني عارفاك كل شويه إكده تحن للرمرمه، وسامعه حسك معاها زي ما كنت سامعه بكاها وهي تترجاك تفوتها وتهملها لحالها.
- ظالماني يا نرجس، هي اللي غوتني، ما رضيتش أكسر بخاطرها.
- كداب في أصل وشك يا خالد، هو آني مخبله إياك، آني خابره زين إن ونيسه ما تطيجكش لا في سما ولا أرض، ومتجوزاك مغصوبه، وما نسيتش ليك إنك جتلت خوها، ولا بوها، ولو عليها كانت هجت بس اللي رابطها هنيه ومخليها مستحملاك ومستحمله اللي باعمله فيها هم البنته، آني جلتلك سمعتك وسمعتها بوداني دول اللي هياكلهم الدود ولولا إني خفت لو دخلت سحبتك من عنديها حد من باجي الخدامين يوعالي ويشمت في كنت عملتها يا ابن الباشا، فوج يا خالد، بدل ما تصحى تلاجيها جار بوها وخوها، إنت عارف إني مهملاك على راحتك، بس اعجل لأعجلك.
- واه أقدر ما أعجلش وإلا أجدر أزعل بنت عجاج.
نظرت له بفخر:
- زين إنك فاكر إني بنت عجاج وأخت كمال.
قبلها من رأسها:
- وآني أجدر أنسى.
وقال وهو يغادر دون أن ينظر لها:
- ما تعمليش وكل للعمال يوم الجمعة، ممدوح الجبالي اتفج مع العمده إن الوكل عنديه.
انتفضت وكأنما لدغها عقرب، والكلمات ترن في رأسها تحاول استيعابها، وقبل أن تنطق معترضة كان قد غادر.
سيجتمعون عند ممدوح الجبالي! إذن ربما يظفر برؤية زينب، التي كانت صديقتها المقربة بل كانتا أكثر من أختين، لكنها علمت أن خالد كان يعشق زينب ويريد الزواج بها وتعلم أن والده أحمد أجبره على الزواج بها هي، وما أن علمت بذلك حتى استحال قربها من زينب مستحيلًا، ابتعدت عنها
وعن رؤيتها وكأنها لم تعرفها يومًا، بدون أن توضح الاسباب، فلم تكن لتعطي له الفرصة ليراها، وهي تعلم جمال زينب الذي لا يستطيع أحد مقاومته وفاز به ابن الجبالي.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي