الفصل الثاني

بترت كلمتها عندما رأته يقف أمامها لتتمتم بذهول و عدم تصديق وقد شعرت بأن قلبها سيتوقف من شدة الصدمه وقالت:يحيـي؟!!

نظر إليها يحيي بذهول لا يقل عن ذهولها و تمتم:غزل؟!مش معقول!!

في غضون ثواني معدودة كانت قد طوّقت عنقه بكلتا يديها تحتضنه بكل ما أوتيت من قوة وقد نست العالم بأكمله من حولها.

تفاجأ قليلاً و لكنه ربت علي ظهرها مبتسماً لتبتعد هي عنه وقد نبهها عقلها علي الفور بما فعلته لتنظر إليه بأعين باكيه و قالت و دمعاتها تهطل علي وجنتيها:يحيي؟!أنا مش مصدقه نفسي!

إتسعت إبتسامته وقال:إزيك يا غزال؟

تراقص قلبها فرحاً فور أن إستعادت لقبها القديم لتضحك بقوة وقد فقدت السيطرة علي جميع إنفعالاتها وقالت بصوت مهزوز:الحمد لله ،إنت إزيك؟

أومأ بهدوء و قال:الحمد لله..إنتي بقا ال sitter يا ستي؟

هزت رأسها بحماس أن نعم ليبتسم قائلاً:طب تعالي إدخلي.

و أضاف ممازحاً:جيتي لقضاكي!

ضحكت بشدة ليقول:البرنس زيزو و البرنسيسه نور أمانتك لحد ما أرجع.

إلتقط جاكيت بدلته وهو يستعد للمغادره لتستوقفه قائلة:إنت كنت فين كل المده دي؟!

نظر إليها مبتسماً بلطف وقال:بعدين هنبقا نتكلم لإني حالياً متأخر عن الشغل بسبب سيادتك، مخصوم منك خمسين قرش غرامة تأخير.

إرتفعت ضحكاتها ليضحك بدوره ثم قال:يلا ربنا معاكي و لو إحتاجتوا حاجه كلموني علي تليفون الشغل هتلاقي الرقم جمب التليفون.

أومأت غزل بتأكيد وقالت:متقلقش..تروح و ترجع بالسلامه إن شاء الله.

إبتسم ببشاشه وقال:إن شاء لله..يلا مع السلامه.

ثم إنحني ليمنح كلاً من طفليه قبلة حانية ودعهم بها و إنصرف مغادراً لعمله.

أغلقت الباب خلفه لتستند بظهرها عليه وهي تنظر أمامها بإبتسامه حالمه و دمعاتها تهطل فوق وجنتيها بفرحة لتسرع علي الفور و تقوم بالإتصال بـ صافيه التي أجابت بهدوء قائلة: أيوة يا غزل، وصلتي يا حبيبتي؟

_عمتو أنا شوفت يحيي!!

هكذا أجابت غزل إجابةً لا تَمتُّ للسؤال بِـصله لتتسائل صافيه بتعجب وقالت:بتقولي إيه؟ شوفتي يحيي؟

أومأت غزل برأسها وهي تمسح دمعاتها وقالت: أيوة شوفته، مش هتتخيلي فين؟

تسائلت صافيه بلهفه وقالت:شوفتيه فين؟!

أجابت غزل وقالت: عنده في البيت!

_إيه؟!عنده في البيت؟ عنده في البيت إزاي يعني؟

إبتسمت غزل و أردفت: هو يبقا الباشمهندس اللي عايز جليسة لأولاده.

إرتفع حاجبي صافيه بتعجب و قالت:معقوله!! طيب أنا عايزة أكلمه..ولا أقوللك إديني العنوان و أنا جايه..

قاطعتها غزل قائلة:لا جايه فين إستني، هو مشي أساساً راح شغله..و بعدين بلاش تستعجلي إحنا مش عارفين هو دماغه فيها إيه دلوقتي.

إقتنعت صافيه بحديثها فقالت: معاكي حق،طيب إقفلي دلوقتي لما أروح أقول لـ إبراهيم.

_لااااا.

صدح صوت غزل جهوراً وهي تنهي صافيه عن فعل ذلك ثم قالت: لاا يا عمتو إوعي تقولي لـ بابا أنا ما صدقت وصلت لـ يحيي.

ثم إستأنفت حديثها تقول بتوضيح أكثر: إنتي عارفه موقف بابا من يحيـي إيه و من قبل ما يرجع، ما بالك بقا لو عرف إني شغاله جليسه لأولاده و بقعد عنده في البيت كل الفترة دي و بشوفه و بيشوفني كل يوم.

تسائلت صافيه بصوت خافت وقالت:يعني إيه؟!مش هتقولي له؟!

_ايوة مش هقولله ، أخوكي راسه ناشفه و إنتي عارفه ، و أنا معنديش إستعداد بعد ما لقيت يحيي أتحرم منه تاني!

=بس ده لو عرف إنك مخبيه عليه هيزعل منك زعل جامد يا غزل و مش بعيد يقاطعك فيها ، أنا شايفه إن الصراحه أقصر الطرق لإقناعه بدل ما تخبي عليه و يعرف و يزعل منك.

_لا إن شاء الله مش هيعرف، سيبيها بس لوقتها و بعدين ربنا يسهل.

=ربنا يستر يا بنتي و تعدي علي خير ، و إنتي بتعملي إيه دلوقتي؟

_أنا هقفل معاكي و أشوف زياد و نور بقا.

تمتمت صافيه بصوتٍ حنون وقالت: حبايبي وحشوني أوي ، بالله عليكي تصوريهم و تبعتيلي الصورة أشوفهم.

إبتسمت غزل و قالت :حاضر يا عمتو ، من عنيا.

و أنهت المكالمه لتتقدم من زياد و نور اللذان كانا يلتفان حول الطاوله الصغيرة يتناولان فطورهما ليبتسم زياد إبتسامه مشعه فور أن رآها و قال: غزل، وحشتيني.

قال الأخيره وهو يحتضنها بشدة لتضمه إليه بشوقٍ كبير و تشتم رائحته التي إشتاقتها وقالت : و إنتوا كمان وحشتوني أوي يا زياد.

و حملت الصغيرة تنهال عليها بالقُبل و الأحضان فقال زياد: إنتي جايه تعملي إيه عندنا؟

تصنّعت الغضب وقالت: إيه ده ،هو إنت مش عايزني ألعب معاكوا و أقعد معاكوا نرسم و نلون و نعمل كل الحاجات اللي بتحبها علي ما بابا يرجع من الشغل؟

إنبسطت أساريره فرحاً وقال :إيه ده بجد! يعني هتقعدي معانا حبه كتير و مش هنقعد لوحدنا تاني؟

أومأت بإبتسامه وقالت: أيوووون، و يلا بينا نخلص فطارنا بقا عشان نبدأ نلعب سوا و نتسلي.

تحمٌس زياد كثيراً و راح يلتهم ما تبقي بطبقه بشغف كبير بينما كانت هي تتطلع نحوهما بحبٍ كبير و هي تستعيض بهم عن ما فقدته في أبيهم من فراق و غياب طال كثيراً آمله أن القادم لن يحمل لها في طيّاته سوي كل شئ جميل و الذي سيكون بإمكانه أن يضمد جراحها و يجبر كسرها و يعيد إليها روحها.

********************
كانت تجلس بغرفتها تتطلع نحو الفراغ من أمامها و سمحت لدمعاتها أخيراً بالفرار من بين محجريها بعد أن حاولت منعهم طويلاً حتي تبدو صامدة كل الوقت.

لم تكن تتخيل يوماً أن تكون تلك نهايتها و أن تفقد أولادها أيضاً و تبقي صِفر اليدين.

إزداد بكاؤها الحار بقهرٍ لتتمتم في نفسها:إصبري يا يُسر لسه الحكايه منتهتش..يحيي هيفضل ليكي طول العمر بس إنتي شغلي دماغك و إلعبيها صح.

أمسكت بهاتفها و قامت بالإتصال بصديقتها التي أجابتها قائلة:أيوة يا سوسو عامله إيه يا حبيبتي؟

_الحمد لله يا إيمان إنتي أخبارك إيه؟

=أنا كويسه الحمد لله..طمنيني وصلتي لفين؟و رجعتي لجوزك ولا لأ؟

إبتسمت يُسر بسخريه وقالت:هه..أنهو واحد فيهم؟

_يحيـي طبعاً يا بنتي ده إنتي مش هتصدقي جوزي بيقوللي إيه إمبارح..كان سهران مع جماعه أصحابه في نايت كلاب علي البحر لقيته جاي بيقوللي مش هتصدقي شوفت مين هناك.

=همممم؟؟

_بيقوللي شوفت يحيي الهنداوي و معاه واحد كده إتهيألي إن هو سليمان أخوه بس لما ركزت لقيته قاسم عبدالرحمن صاحب شركة الإستيراد و التصدير اللي إبن عمته شغال أمن فيها.

_بتقولي إيـه؟!

قالتها يُسر بلهفه وهي تجلس متأهبه بحماس لإستماع المزيد فقالت صديقتها: والله يا بنتي زي ما بقوللك كده..و بيقوللي إن يحيي إتغير أوي و بقا حاجه كده هاي كلاس شبه رجال الأعمال بجد .

تمتمت يُسر بذهول:معقوله!

_أه والله يابنتي زي ما بقوللك كده..يحيي بقا حاجه كبيرة إشبطي فيه بإيديكي و سنانك بقا.

تنهدت يُسر بلوعة و قالت:بعد إيه بقا ما خلاص، كل اللي بيننا إنتهي.

_يا غبيه إنتي شغلي دماغك، طول ما بينكوا ولاد يبقا مفيش حاجه إنتهت و إنتي من حقك حضانة ولادك و لو حرمتيه منهم هتلاقيه هو اللي بيلف حواليكي عشان عياله.

إعتدلت يُسر بمجلسها وقد إتخذ الحديث مجريً جدياً أكثر وقالت بإهتمام:.تفتكري يا إيمان؟

قالت الأخري ببساطة:أيوة طبعاً.عالعموم هقفل أنا عشان خارجه و هستناكي تبقي تطمنيني عليكي.

أنهت يُسر المكالمة و ألقت بالهاتف إلي الفراش بإهمال و راحت تتفكر و تتدبر كيف لها أن تحتل قلبه من جديد!

~~~~~~~~~~~~~~~~~
عند غَزل والتي كانت تجول و تصول بالمنزل تشتم رائحة عطر يحيي التي تفوح بكل أرجاء المنزل، تتلمّس أغراضه و تطوف يداها علي ملابسه بخفه وهي تحتضن ثيابه عِوَضاً عنه، تتخيل أنه ها هنا ينام و هنا يجلس و هناك يأكل، تتأمل تفاصيل المنزل بأعين عاشقه منذ الصغر.

قامت بفتح كل نوافذ البيت كي تسمح لأشعة الشمس أن تحتضن البيت و تغمره بالكامل ثم بدأت في ترتيب الفوضي التي صنعاها نور و زياد و بعد أن إنتهت جلست إلي جوارهم و تسائلت بلطف: هاا يا سكر منك ليها، تحبوا تاكلوا إيه على الغـدا.

أجاب زياد بغتةً: أي حاجه غير مكرون و بانيه، بابا كل يوم بيعملهم.

إبتسمت وقالت: بلاش مكرونه و بانيه، إنت نفسك تاكل إيه وأنا أعمله.

راح الصغير يدق بإصبعه علي ذقنه بتفكير ثم قال: إعملي رز و بطاطس لونها أحمر و كرات لحم.

_كرات لحم؟! إنت بتكلمني بالفصحي يا زياد فِكرك مش هفهم؟!

قالتها وهي تداعب الصغير و تدغدغه بقوة لينفجر ضاحكاً بقوة قبل أن تتقدم منها نور وتقول: غزل، زغزغيني.

ضحكت غزل بإتساع و حملتها محتضنه إيّاها بشدة وهي تقول: إنت تتاكل يا جميل إنت، هاتي بوسه كبيرة.

أغرقت الصغيره وجهها بالقبلات لتقول غزل: يلا إقعدوا كملوا التلوين ده و أنا هدخل أعمل الأكل.

ثم نظرت إلي زياد وقالت مصطنعه الجدية: هل تريد شيئاً إضافياً بجانب الأرز و كُرات اللحم يا سيدي المبجّل؟

أومأ زياد نافياً بإبتسامة لتنصرف هي نحو المطبخ ثم بدأت في إعداد الطعام لهم ليرتفع رنين هاتفها فنظرت بالهاتف لتجد والدها يقوم بالاتصال بها فأجابت بتوتر: أيوة يا بابا.

_إيه يا غزل مبترديش لي؟! التليفون سخن في إيدي من كتر مانا عمال أكلمك بقالي ساعه.

=معلش يا حبيبي والله أنا آسفه، كنت بس بجهز أكل للكتاكيت اللي أنا قاعدة معاهم.

_أاه.. و إيه الأخبار؟!

=كله فل الحمد لله.. هرجع الساعه 7 بإذن الله.

_بإذن الله، تيجي بالسلامه، و خلي بالك من نفسك، أول ما أبوهم يرجع تنزلي فوراً.

أومأت بإبتسامه وقالت: حاضر والله متقلقش.

_ربنا معاكي.

=ياارب يا حبيبي، هقفل دلوقتي بقا عشان بعمل الأكل ، يلا باي.

أنهت المكالمة و شرعت في إعداد الطعام بهمة لتنجزه سريعاً و قامت بإطعام الصغار و الذين تناولوا طعامهم بشهية مفتوحه مما أسعدها كثيراً و من بعدها بدأت في اللعب معهم قبل أن تشير عقارب الساعة إلي السادسة مساءً ليرتجف قلبها بشدة منتظراً بلهفه عودة ساكنهُ.

أنهت ما بيدها سريعاً و قامت بتعطير المنزل و جلست برفقة أبناءه تنتظر عودته لينفرج الباب و يظهر هو من خلفه متهالكاً بتعب سرعان ما تحول إلي إرتياح ثم إلي بهجه عندما رأي آثار ما فعلته بالبيت و إنتعشت جميع حواسه بمجرد ما إن دخل إلي البيت فوقفت هي تستقبله بإبتسامة رقيقه وقالت: حمدالله على السلامه.

نظر إليها مبتسماً وقال: الله يسلمك ياارب....

بتر كلماته ركض أطفاله نحوه ليحمل نور و ينحني جاثياً علي إحدي ركبتيه وهو يحتضن زياد الذي قال: شوفت يا بابا غزل خلت البيت جميل إزاي.

نظر يحيي إليه مبتسماً ثم إلي غزل التي كانت تتفحص ملامحه بإشتياق لينهض قائماً و يقترب منها مبتسماً بلطف و أردف قائلاً: شكراً يا غزل، ليه تعبتي نفسك.

إرتبكت غزل من قربه الأول منها و حاولت تجنب النظر إليه ولكن كل محاولاتها قد باءت بالفشل فإبتسمت و نظرت أرضاً بتوتر ثم قالت: لا مفيش أي تعب، تعبك راحه.

إبتسم يحيي ببشاشة و باغتها قائلاً: تصدقي يا غزال إنك كبرتي و إحلويتي! زي ما يكون فات سنين مش سنه واحده.

إبتسمت قبل أن تومأ برأسها بتأييد ليتسائل قائلاً: لسه بردو منشفه راسك و مش عاوزه تتجوزي؟!

تجهم وجهها فجأةً وقالت: لا منا إتجوزت!

إتسعت عينيه بدهشه فنظر إليها بضع ثواني قبل أن يتمتم بذهول: إتجوزتي؟ بتهزري؟!

هزت رأسها بنفي و قالت: لأ مش بهزر، إتجوزت بس...

قاطعها قائلاً: لاا إستني ده إنتي تقعدي و تحكيلي كل حاجه بالتفصيل الممل.

نظرت إلي الساعه من خلفها وقالت بتوتر: لا معلش خليها مرة تانيه لإن بابا مستنيني من بدري و مش عايزة أزعله مني من أول يوم.

قال مبتسماً: صح عمي إبراهيم أخباره إيه؟!و صافيه؟!

نطق بالأخيره بتأثر لتومأ هي بإبتسامه وتقول: الحمد لله كويسين، علي ما تغير هدومك هكون حضرت لك العشا بسرعه وبعدها همشي.

_لا يا غزل..أنا هعمل أنا الأكل متتعبيش نفسك.

أومأت بموافقه وقالت: طيب إتفضل إدخل غير هدومك و أنا هجهز و أنزل.

بمجرد ما إن إنصرف إلي غرفته قامت هي بتحضير طعام العشاء له و وضعته علي الطاوله ليخرج من غرفته وقد إشتم رائحة الطعام ليقول: إيه ده إنتي اللي عملتي الأكل ده؟

أومأت بإبتسامه وقالت: أيوة بألف هنا.

نظر إليها يحيي بتركيز ثم قال: يا ريت بعد إذنك متتكررش تاني يا غزل.

تجهّم وجهها ليستطرد حديثه قائلاً: أنا مقدر إنك بتعتبري إننا واحد و أنا زي أخوكي و بتعملي كده بحب و ود.. بس معلش بلاش ده يتكرر تاني.. إنتي هنا sitter لزياد و نور بس يعني تقعدي معاهم و تلعبي و تتسلوا علي ما أرجع إنما مش مطلوب منك أي حاجة تانيه..في واحده مسئولة عن التنضيف بتيجي كل يومين و الأكل إحنا بنطلبه جاهز يعني ملوش لزوم تتعبي نفسك.

بالرغم من صحة كلامه إلا أنها شعرت بالضيق بشدة و إعترتها رغبةً شديدة في البكاء و لكنها تماسكت وقالت بنبرة صوت مهزوزة: أنا متعبتش خالص لإني معملتش حاجه و كمان زياد كان بيساعدني و بيرتب معايا و بالنسبه للأكل ده في حدود شغلي بردو لإن الطبيعي إني بقعد معاهم فترة مش قصيرة و من واجبي أعمل لهم أكل و أخد بالي منهم في كل حاجه لحد ما إنت ترجع..ده إختصاص أي حليسة أطفال يعني أنا معملتش حاجه مخصوص أو زيادة و اللي عملت لهم ياكلوا منه إنت كمان أكلت منه يعني انا معملتش حاجه مخصوص عشانك.

ثم قالت بهدوء: بس دي كل الحكاية.

إبتسم بتقدير و أضاف مبتسماً: منتحرمش منك يا غزل، تحبي أوصلك؟

رسمت إبتسامه مقتضبه علي شفاها وقالت:, لا ميرسي أنا طالبه أوبر..يلا عن إذنك.

قبّلت الصغار و ودعتهم ثم إنصرفت مغادرة البيت بينما جلس هو ليتناول طعامه بنهم شارداً بالأيام التي دائماً ما كانت تقضيها غزل في بيت العائلة برفقتهم جميعاً قبل أن يتبدل الحال و يفترق كلاً منهم لطريقٍ مختلف.

~~~~~~~~~~~~~
كان "علـي" يجلس حزيناً شارداً لا يفعل شيئاً سوي أنه يرجو من الله أن يطمئن قلبه علي أولاده و يقرّ عينه بعودتهما إليه.

دخل عبدالقادر إلي غرفة والده ليجده ممدد في فراشه بحزن شديد فقال: إزيك يابا؟!

دون أن ينظر إليـه أجابه: أنا كويس يا قدوره، إخواتك اللي مش كويسين، أنا قلبي حاسس بيهم و مش مطمن!

زفر عبدالقادر بتعب وهو يجلس إلي جوار أبيه وقال: سليمان مش عارف أوصل له، عملت البِدَع، سألت في كل الأماكن اللي كان متعود يقعد فيها، اصحـابه اللي كان بيسهر معاهم، المصانع اللي كان بيستلم منها بضاعه، مسيبتش حته إلا و سألت فيها حتي المستشفيات، الاقسـام، فص ملح و داب!

أسند الأب رأسه إلي السرير من خلفه بحزن وقال: يااارب إنت قادر على كل شيء.

نظر إليه إبنه بشفقة من حالته المتدهورة وقال: بس يحيي بخير الحمد لله.. تحب تشوفه يابا؟

نظر إليه والده بلهفه وقال: و حد يكره يملّي عينه بشوفة ضناه! وصلني بيه أوام..إنت تعرف طريقه.

_أنا آخر مرة كلمني عشان موضوع الفلوس عرفت إنه بيتكلم من تليفون في الشارع، واحد معرفه جابلي عنوان الكُشك اللي فيه التليفون، هروح هناك و أسأل و بإذن الله واثق إني هوصل له، و لو ربنا وفق و وصلتله هقولله إن صحتك تعبانه و طالب تشوفه وهو مش هيتأخر، أنا متأكد.

=المهم يرضي ييجي.

قالها الأب بيأس ليطمئنه عبدالقادر قائلاً: لا أنا واثق إن يحيي لسه من جواه يحيي بتاع زمان، المعدن الأصيل ميتغشش أبدأ يابا مهما شاف ولا جار عليه الزمن، و يحيي معدنه أصيل و لسه بيحبك زياده عن أي واحد فينا.

قال الأخيرة مبتسماً ثم عاد ليقول: مش ده كلامك يابا؟! طول عمرك تقول يحيي بيحبني أكتر واحد فيكوا، إنتوا ولاد زاهيـه.

هز الأب رأسه بحزنٍ شديد و غمغم قائلاً: الله يرحمـها.

_الله يرحمها و يرحم أموات المسلمين أجمعين.. أنا هخرج بقا أشوف المشوار ده و دعواتك ربنا ييسر.

_يااارب يبني ربنا معاك.

خرج عبدالقادر ليستقل سيارته و ينطلق بها نحو رحلته القصيره في البحث عن يحيي راجياً من الله أن تكلل بالنجاح تلك المرة.

وصل إلي المكان الموجود به ذلك الدكان الخشبي الصغير و توقف أمامه بسيارته ثم نزل ليتقدم من صاحبه وقال ببشاشة:السلام عليكم يا زوق، لو سمحت والله كنت عايز أعرف لو تعرف سكان المنطقة هنا كنت عايزك تدلني على واحد اسمه يحيي الهنداوي.

تمتم الرجل بتفكير وقال: الصراحه مش واخد بالي..بس ممكن بمرة تيجي لعم سلامه اللي واقف أمن الكومباوند اللي جمبنا هو اللي يعرف سكان المنطقة هنا نفر نفر و هيساعدك إن شاءالله.

لينصرف عبدالقادر محملاً بالخيبه عائدا نحو بيته.
________________

في صباح يوم جديد كانت تجلس بغرفتها تتمدد بفراشها بأريحيه وهي تحاول الوصول إلي يحيي و أطفالها كذلك.

مرت الأيام و الأسابيع و هي لا تعلم شيئاً عن صغارها فكإنما قد إنشقت الأرض و إبتلعتهما برفقة والدهما الذي يخفيهما عنها و لا تعلم للوصول إليهم سبيل، بعد أن صبرت و نفذ صبرها لم تجد بُدً من الإتصال بصديقتها إيمان والتي تنقذها دائماً في مثل تلك العثرات.

تنحنحت بتحفظ وقالت: ألو..أيوة يا مون عامله إيه؟!

_حبيبتي يا سوسو أنا كنت لسه هكلمك.

=القلوب عند بعضها، أخبارك إيه؟

_أنا كويسه الحمدلله إنتي عامله إيه طمنيني؟

تنهدت يُسر بضيق وقالت: الأخبار زي الزفت، ويبقي الوضع علي ما هو عليه.. الأستاذ يحيي مختفي بالولاد و مش عارفه أوصله.

ضحكت صديقتها بقوة وقالت: ما هو إنتي لو تشغلي دماغك كنتي هترتاحي بس إنتي مقفله مخك و عايزة يحيي يجي لحد عندك و إنتي قاعدة معززة مكرمه.

تمتمت يُسر بحنق وقالت: ما تخلصي بقا يا إيمان من غير لت و عجن كتير، أعمل إيه يعني؟

_بصي يا ستي، أنا هجيبلك عنوان الشركه بتاعة قاسم عبدالرحمن و إنتي و حظك بقا.. تروحي و تسألي عليه هناك و لو لقيتيه خير ملقيتيهوش تاخدي منهم عنوان البيت أو الشركه بتاعته!

قالت يُسر بتعجب: الشركه بتاعته؟!!

=اومال انتي فاكرة إيه..الشركه بقت شركات يا ماما، يحيي و قاسم عبدالرحمن عاملين بيزنس عالي جداً و كل واحد ماسك منصب رئيس مجلس إدارة في شركه لوحده، يعني لو عرفتي تشنكلي يحيي الهنداوي دلوقتي تبقا بيضالك في القفص يا جميل.

إبتسمت يُسر بغرور وأضافت و بريق الخبث يلتمع بعيناها: يحيي ده أنا مشكلاه علي إيديا من سنين يا ماما، بعرف إزاي أوديه و إزاي أجيبه، هو يحن بس و الباقي كله سهل.

=سيدي يا سيدي، طيب يا ستي ربنا معاكي و نشرب الشربات قريب.

_هتشربي متقلقيش، عالعموم شكراً يا مون، هستني منك رساله بالعنوان و لو حصل جديد هقوللك.

علي الفور أنهت المكالمه فأرسلت لها صديقتها عنوان الشركه فقامت بالإتصال بأحدهم قائلة: أيوة يا زكريا..عايزاك معايا في مشوار ضروري دلوقتي و ليك عندي حلاوة كبيره أوي.

وافقها الشاب دون جدال لتهم مسرعه و تبدل ملابسها بأحسن الثياب عندها و تعتزم طريقها نحو الشركه.

~~~~~~~~~~~~~~~~~

كان يحيي يجلس منهمكاً بين أوراقه يتابعها بتركيز لتدلف سكرتيرته الخاصه إلي المكتب بعد أذن لها بالدخول فقالت: باشمهندس يحيي، في واحده بره عايزة تدخل لحضرتك.

دون أن يرفع ناظريه أجابها متسائلاً: واحدة مين؟

_بتقول مدام حضرتك!

إنتبه لها مسرعاً وقال بلهفه فشل في إخفائها: دخليها بسرعة.

أومأت بموافقه و إنصرفت ليستوقفها قائلاً: ولا أقوللك..متدخليهاش غير لما أقوللك.

أومأت مجدداً وقالت:تحت امرك.

خرجت من الغرفه و أبلغتها بأن تنتظر قليلاً لتجلس بتوتر وهي تهز قدميها بقلق و خوف وقالت: إنتي قولتيله إن مراته اللي عايزاه.

أومأت الأخري بتأكيد وقالت: أيوة حضرتك بلغته و قاللي تنتظري لما أبلغك تدخلي.

إنقبض قلبها وقد تيقّنت بأن القادم لن يكون يسيراً عليها بينما كان يجلس هو بالداخل وقد إعتدل بمجلسه بأريحيه و أخرج غليونه الفاخر و بدأ بتدخينه ثم قبس الزر الموجود أمامه علي المكتب قائلاً بإقتضاب: دخليها!

إرتفعت دقات قلبه بشده كطبول حربٍ قد قُرِعت معلنةً عن ساعة النزال ليأخذ شهيقاً عميقاً ملأ به رأتيه و زفره ببطء محاولاً تهدأة إنفعالاته المتزايده قبل أن يستمع إلي طرقات علي باب المكتب فأذن بالدخول لينفرج الباب و تدلف هي محاولة تصنّع القوة و الثبات كعادتها و لكن قواها قد خارت فور أن رأته يجلس أمامها.

دون أن ينظر إليها أشار لها بالجلوس وهو لا زال يطالع الأوراق الموجوده أمامه علي المكتب متصنعاً عدم الإكتراث لأمر وجودها.

طال إنتظارها وهو لا زال يتفحص الأوراق الخاصه بهِ لتحمحم بنعومة لتلفت إنتباهه فنظر نحوها بطرف عينه ليجدها تنظر نحوه نظرات ثاقبه فرفع وجهه لينظر إليها قائلاً ببرود مصطنع: جايه ليه يا يُسر؟

إبتلعت ريقها بتوتر وقالت: إيه الكلام ده يا يحيي!..بقا دي مقابله تقابلني بيها بعد كل الوقت ده؟

رفع كتفيه بعدم إكتراث وقال ساخراً: أومال عايزاني أقابلك إزاي؟! بالأحضان؟!

تنفست الصعداء وقالت: وحشتني يا يحيي!

إبتسم متهكماً و تجاهل كلماتها ثم قبس زر المكتب لتدلف السكرتيرة فقال: هاتيلي قهوة يا هند و شوفي المدام تشرب إيه.

نظرت اليها يُسر بترفع وقالت: و أنا قهوة زي يحيي!

أومأت السكرتيرة و خرجت من المكتب فعادت هي لتنظر نحوه بتعجب حيث كان يتعمد تجاهلها لتعود قائلة: يحيي!! إنت مش سامعنب؟! بقوللك وحشتني.

أطربه سماعها لإستجدائاتها بإلحاح ليستمر في تدخين غليونه و هو يتلاشي النظر داخل عينيها التي طالما بات يتطلّع نحوهما بِشغفٍ لم يعُد له مكان الآن ثُمّ رَفع قدمهِ ليضعها علي المكتب من أمامه يصوّبها نحوها بكل عنجهيةٍ و غرور و أردف بقوة قائلاً :
_يحيـي بتاع زمان إنسيه يا يُسر، إعتبري إن هو لسه تحت التراب.

نظرت إليه بصدمه وقالت: صدقني يا يحيي أنا إتغصبت علي الوضع ده، سليمان منه لله فِضل يجري ورايا و يزن علي دماغي و يهددني بالعيال لحد ما وافقت أتجوزه.

إبتسم بإقتضاب ساخر و إرتكز بكلتا يداه علي المكتب من امامه وهو يقترب بجزعه منها أكثر وقال بصوتٍ هامس و كإنما يخبرها سراً: و فضل باشا جه إزاي؟! بالزن و التهديد بردو؟!

إبتلعت لعابها بتوتر وأضافت: صدقني والله هو اللي غصب عليا و أنا مكنتش موافقه نهائي بس معرفتش أوقفه..كان سكران يومها و مكانش في وعيه....

قاطعها بإشارةٍ من يده ثم رفع الهاتف و أجري إتصال بأحد الموظفين إستغرق حوالي عشرة دقائق كانت كفيله بإصابتها بالتوتر و الإنزعاج ثم أنهاه عندما دلفت السكرتيرة إلي المكتب تقدم القهوة لهما و خرجت فنظر هو إلي يُسر وقال: من غير كلام كتير يا يُسر..اللي إنتي جايه عشانه مش هيحصل!

زرفت الدمعات و إنتحبت سريعاً ثم قالت: أنا عارفه إن موقفي ملوش تبرير.. بس عشان خاطري يا يحيي أنا محتاجالك..انا مش بنام الليل من كتر التفكير فيك.

راقه حديثها كثيراً ليسدد نحوها نظرات متلاعبه ثم أردف قائلاً: و أنا موجود..في أي وقت تحبي تشوفيني فيه تعالي البيت نقضي يوم حلو سوا و تروحي.

و همس بخبث صدمها: ولا من شاف ولا من دري!

قطبت حاجبيها بتعجب و دهشه وقالت: إيه اللي إنت بتقوله ده يا يحيي؟! عايزنا نمشي في الحرام بعد ما كنا متجوزين؟!!

_ كنا.

نطقها وهو ينفث دخان غليونه الكثيف ليصنع غمامةً أمامها فقالت: بس ده مينفعش يا يحيي؟! أنا عايزة نرجع في الحلال و نربي عيالنا سوا.

قال متهكماً: جري إيه يا مدام يُسر، إنتي ناسيه إنك دلوقتي بقيتي طليقتي و خلصتي عدتك.

و اضاف ساخراً: ولا صح أنا نسيت.. الموضوع بقا بالنسبه لك عادي.

ضغط علي أعصابها بشدة لتنفجر باكية فنظر هو نحوها ببرود وقال: من غير شحتفه و دموع تماسيح،عايزاني أرجعلك فعلاً يبقا تنفذي اللي قولتلك عليه! و مفيش جواز بعدها كمان، عايزه تكتفي بإنك تبقي زي اي واحده في حياتي بشوقك، مش عايزه يبقا خير و بركه.

صَدَمها تعنتُه الجديد عليهِ كلياً لتتململ بجلستها و نهضت من مقعدها لتقف أمامه و أضافت بنبرة باكية:

=إنت بتتكلم إزاي يا يحيـي؟! ده حرام!

رفع كتفيه بعدم إكتراث وقال بجمود: ده اللي عندي.

نظرت إليه مطولاً وقالت: طيب حتي نتجوز عرفي!

نظر إليها بِترفّع و أشار لها بإصبعه لتقترب منه فإنحنت بجزعها لمستواه فإذ به ينفث دخان سيجارته بوجهها و أردف ساخراً: جواز لأ يا يُسر، كان فـي و خِلِص!

ثبتت ناظريها نحوه بقهرٍ صادق إستشعرته ليتجاهلها هو و نهض من علي مقعده ليدور حول المكتب ويقول: و علي فكرة إنتي متملكيش رفاهية التفكير، يعني مفيش عندك فرصه تفكري، عايز أسمع جوابك حالاً.. مو
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي