الفصل الرابع

بمجرد عودتها إلي البيت إستوقفها والدها بحدة و عيناه تنطق عن كمّ الغضب اللتان تخبئانه محاولاً أن يتماسك و ألّا يثور منفعلاً عليها فقال بحدة هادئة: حمـدالله علي السلامه يا أستاذه غزل.

_الله يسلمك يا بابا.

قالتها غير منتبهه لوجهه الغاضب المتجهّم و لكنها إلتفتت إليه بصدمة عندما قال: يحيـي عامل إيه؟!

نقلت بصرها بينه و بين صافيه التي كانت تقف تنظر أرضاً بخزي قبل أن ترمقها بأسف لتبتلع غزل ريقها في توتر وعادت تنظر إلي والدها الذي تفاقمت حدته وقال: إيه مش سامعاني؟ بقوللـك أخبار يحيـي إيه؟ مش إنتي لسه راجعه من عنده؟! ولا ناويه تكذبي تاني؟

أدركت أن لا سبيل للفرار من المواجهه فإقتربت من والدها وقالت بلين: أنا آسفـ.....

قاطعها قائلاً بضيق و إستهجان: آسفه؟! بتكدبي علي أبوكي عشان خاطر إيه؟! عشان خاطر واحد زي ده؟

إعتري الضيق ملامحها فقالت: ماله يحيي يا بابا؟!

_ماله يحيي؟! ماله ولا مالوش ده ميخصناش.. إنتي إيه يا بنتي؟ مفرطه في كرامتك و عزة نفسك ليه كده؟! واحد عمره ما حس بيكي ولا هيحس في يوم من الأيام، ترمي نفسك عليه ليه؟ فاكرة إنك كده هتكسبيه مثلاً؟

تعجبت أسلوب والدها و منطِقُه! لماذا كل هذا التعسف تجاه يحيي و الذي لم يري منه أبداً سوي الخير!!

_حضرتك أنا مش فاهمه موقفك تجاه يحيي حاد أوي كده ليه!! إحنا طول عمرنا متربيين سوا و ما شوفناش منهم غير الخير!

=خيـر؟!!

تسائل والدها مستنكراً و أضاف: أنهي خير ده سيادتك؟! ممكن تعرفيني إيه هو مفهوم الخير من وجهة نظرك؟! الخير اللي عمله أخوه لعمتك لما إتجوز عليها؟! ولا الخير اللي عملته مراته ليها لما خربت بيتها و ظلمتها و إتسببت في طلاقها؟! ولا يكونش الخير اللي عمله أبوه لما وقف يتفرج عليهم وهما بيفتروا عليها و سكت!..فهميني أنهي خير!! دي عيله كلها معدنها مغشوش و ملهاش أصل..إشمعنا سي يحيي بتاعك ده اللي هيبقا الحلو اللي فيهم؟!

_مش شرط عشان كلهم وحشين يبقا هو كمان زيهم..أي عيلة فيها الكويس و فيها الوحش.

=آااه..و يحيي بيه هو الفرع العِدِل الوحيد بين كل الفروع المايله دي، مش كده؟!

همّت بقول شئ ٍ ما ليعلو صوت رنين هاتفها قبل أن يجتذبه والدها من بين يديها بحدة وهو ينظر به قائلاً: ده يحيي باشا..بيطمن عليكي وصلتي ولا لسه، ليه حق طبعاً مش الخدامه بتاعة عياله!

حملقت بهِ بذهول لتجده يجيب المكالمه بحدة ويقول: ألو؟

علي الجانب الآخر قطب يحيي حاجبيه بتعجب وقال: ألو، ده رقم غزل؟

_لا يا سيدي ده رقم مدام غزل، أي خدمه؟

=حضرتك عمي إبراهيم؟!

_أيوة أنا عمك إبراهيم، مين حضرتك؟

=أنا يحيـي يا حج إبراهيم، إزي حالك؟

_كويس، يلـزم خدمه؟

إزداد تعجب يحيي من أسلوبه المقتضب و حدته الغير مبررة بالنسبة له فقال: لا أبداً..كنت عايز أبلغ مدام غزل إني مش هنزل الشغل بكرة، تقدر ترتاح هي.

_كويس أوي، و بالمناسبه أحب أبلغ حضرتك إن مدام غزل هترتاح علي طول، تقدر تشوف لعيالك جليسه تانيه تقعد معاهم، مع السلامه.

أنهي إبراهيم المكالمه بإقتضاب و ألقي بالهاتف إلي الطاولة المجاورة له تحت نظرات غزل المندهشه والتي قالت: حضرتك عملت ليه كده يا بابا؟

_عشان ده الصح..مرواح عند يحيي ده تاني لأ..كفايانا أوي اللي خدناه من العيله دي لحد كده..أنا معنديش إستعداد أختلط بحد منهم تاني.

دخل إلي غرفته بهدوء ينافي الفوضي العارمه التي صنعها بقلب إبنته فقد ألهب بقلبها ضجيجاً لا ينضب.

بأعين دامعه نظرت إلي صافيه التي إقتربت منها و تحدثت بنبرة آسفه: أنا أسفه والله يا غزل، حلفني برحمة أبوبا و أمي و معرفتش أكدب عليه و إضطريت أقولله إن الباشمهندس ده يبقا يحيي.

_إنتي سمعتي اللي قاله يا عمتو؟ ده قال ليحيي إني مش هروح هناك تاني!!

ربتت صافية علي وجنتها تحاول مواساتها وقالت: معلش يا غزل إن شاء الله ليها حل، هو بس مضايق إننا خبينا عليه لكن مجرد ما يروق هيوافق ترجعي بإذن الله.

هزت غزل رأسها بيأس و قلة حيلة ثم إلتقطت هاتفها و دلفت إلي غرفتها وقامت بمهاتفة يحيي الذي أجاب علي الفور قائلاً: أيـوة؟

_أيوة يا يحيي.

=أيوة يا غـزل، فـي إيـه؟ عمي إبراهيم كان بيكلمني ليه كده؟!

زفرت غزل بتعب وقالت: أصل أنا كنت مخبيه عليه إني sitter لعيالك، كنت قيلاله إني بروح لناس تانيه و لما عرف النهارده إتخانق معايا و قاللك الكلام اللي قاله ده!

=طب و ليه كنتي مخبيه عليه؟!مش فاهم.

_لإنه لو كنت قلتله مكانش هيوافق، بابا من ساعة اللي أخوك عمله مع عمتي و هو واخد موقف من العيلة كلها.

لعن تحت أنفاسه غاضباً وقال: هو أنا مالي و مال اللي عمله أخويا؟ هو مكتوب عليا أحاسب علي عمايل أخويا طول العمر ولا إيه؟!

صاحت بحدة: مش عارفه بقا يا يحيـي، أهو ده اللي حصل.

_طيب إهدي خلاص،أنا هتصرف.

تسائلت بفضول و ترقب: هتتصرف إزاي يعني؟

_بكرة هاجي أتكلم معاه و أستأذنه ترجعي تاني.

قالت بيأس: لا متتعبش نفسك، بابا مبيرجعش عن موقفه بسهوله.

_يستي هنحاول، ماهو بصراحه إحنا مش هنقدر نستغني عنك، زياد و نور إتعلقوا بيكي و أنا مش هآمن عليهم مع حد غيرك.

إبتسمت بسخرية وقالت: شكراً علي ثقتك فيا يا يحيي، عالعموم اللي يريحك إعمله، تصبـح علي خير.

أنهت المكالمة و أغلقت الهاتف ثم وضعته أسفل وسادتها بملل و بدلّت ثيابها لتتدثر من بعدها بغطائها مستسلمة إلي سلطان النوم.

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

لم يكحل النعاس جفنيه، بات ليلته شارداً يفكر بما حدث اليوم، لقد تلقّي أكبر صفعةً في حياتهِ اليوم!

لم يغفل عن خضوعها و إستسلامها إليه حتي تنال مرادها و تستحوذ عليه كما كانت تفعل سابقاً لتنفلت منه إبتسامة متهكمه وهو يتذكر كيف كان يبسط لها ذراعيه ممدودتين بكل ما تشتهي نفسها قبل أن تطلب.

الآن فقط تيقّن أنه كان مخطئاً بحق نفسه قبل الآخرين، لقد تهاون كثيراً حتي فقد كل شئ.

حاول أن يسبل جفنيه مستسلماً للنوم و لكن صورة أطفاله قفزت إلي خياله فنهض سريعاً و ذهب إلي غرفتهم و ألقي بجسده المنهك إلي الفراش الفارغ بالغرفه و راح يتطلّع نحوهم بأعين آسفه نادمه.

_أتا عارف إن مش من حقي أحرمكوا منها، إنتوا ملكوش ذنب في كل اللي بيني و بينها و دي مهما كان أمكوا، يمكن تكونوا محتاجينها أكتر مني، دي حاجه متزعلنيش! أيوة متزعلنيش إنتوا لسه صغيرين متفهموش حاجه، حتي لو بتحبوها أكتر مني دي حاجه متزعلنيش بردو! أهم حاجة متزعلوش مني و متتظلموش بسببي، بكرة لازم أخيركوا تفضلوا معايا ولا ترجعوا لها، و أيّاً كان قراركوا أنا موافق أهم حاجة راحتكوا و سعادتكوا.

هكذا حدّث نفسه بما يشغل باله و قلبه ليعتزم أمره بأنه سيخيّرهم بالبقاء معه أم الذهاب إلي والدتهم و ليكن ما يختاروه ثم أغمض عيناه غارقاً في نومٍ عميق.

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

_إنت متأكد من اللي بتقوله ده يا جوز أمي ولا هتودينا في داهيه؟

تسائلت يُسر بخوف يتملك منها ليجيبها إسماعيل بتأكيد ويقول: إلّا متأكد..زي ما الست ميجيبهاش غير ست زيها، كمان الراجل ميكسرش شوكته غير راجل زيه، إمشي ورايا تاكلي الشهد.

مسحت علي وجهها بتوتر و تسائلت: طب إفرض يحيـي فهم الموقف غلط و بقت فضيحه! يبقا إزي الحال ساعتها؟

=يفهم غلط إيه يا غبيه إنتي لهو هيقفشك في وضع مخل لا سمح الله! كل الحكاية إننا هنخليه يتلحلح، هنخلي نار الغيرة تاكل قلبه من تاني و يقول حقي برقبتي.

_ربنـا يستر بقا، أنا قلبي مش مطمن.

= لا يختي إطمني و خلي قلبك يطمن، بس أمانه عليكي لما ترجعي مرات يحيي الهنداوي من تاني متنسيش عمو إسماعيل اللي كان السبب.

لم تُجِبه فقال: قومي يلا إلبسي كده و إتغندري و إنزلي هتلاقي الواد زيكا واقف مستني بالتاكسي، إطلعي معاه و زي ما إتفقنا إعملي.

فعلت يُسر كما أخبرها و إستعدت ثم ذهبت برفقة ذلك الشاب إلي تلك الشقه الذين قاموا بتأجيرها لتنفيذ مخططهم الفاشل بها.

كانت يُسر تجلس و التوتر يأكل داخلها، تفرك يديها بقلق وهي تنتظر ما سيحدث عمّا قريب آمله أن تجدي تلك الخطة ثمارها.

" فـي هدية حلـوة مستنياك في العنوان ده دلوقتـي، متتأخرش!"

بينما كان يحيـي يقوم بإعداد الفطور لأولاده وصلته تلك الرساله التي قرأها بقلبٍ وچل وهو يحاول تخمين مفادها و لكن تغلّب عليه الفضول ليسرع بتبديل ملابسه و الذهاب إلي العنوان المرسل إليه.

صعد درجات السلم بتوتر و توقف أمام الشقه ليطرق بابها بترقب ففتح له شاب في مقتبل العشرينات من عمره، هز رأسه متسائلاً: عايز مين حضرتـك؟

ظل يحـيي ينظر إليه بهدوء ثم قال: لا أبـداً،الظاهر العنوان غلط!

همً بالإنصراف ليستوقفه ذلك الصوت والذي يحفظه عن ظهر قلب: ميـن يا زيـكـا؟

هوي قلبه أرضاً فور أن إستمع لصوتها فعاد ينظر خلفه وهو يدقق النظر بداخل الشقه ثم دفعه إلى الداخل و دلف مسرعاً ليجدها تجلس بأريحيه علي الأريكه و تتناول الفاكهه ببساطة و أمامهما زجاجتيّ خمر و بعض التسالي.

وقف يحـيي يطالعها مشدوهاً ويقول: إنتي بتعملي إيه هنا؟!

لم تتصنٌع الخوف و القلق فلقد إنبعثا من عيناها صادقين فقالت: يحيـي....

بخطوةٍ متسعه..كان هو يقف أمامها يقبض علي شعرها بقبضةٍ فولاذية وهو ينظر إليها شزراً ثم قال: يحيـي إيه و زفت إيه؟! إنتي بتعملي إيه هنا؟! هي حصّلت تروحي شقق؟!

رأت أن الأمر يتخذ مساراً غير الذي كانت تبغي فقالت بأعين باكيه: إستني بس يا يحيي أنا هفهمك،والله العظيم الموضوع مش زي ما إنت فاهم.

قاطعها صارخاً بغضب هادر: مش زي مانا فاهم، زي مانا شايف، بيره و مَزّه و الدنيا حلوووة.

أضاف الأخيره وهو يصفعها بقوة بكل ما يملك من غضب و نفور لتنفجر هي باكية وتقول: صدقني يا يحيي والله العظيم ده.....

_إخرسـي..متنطقيش إسم ربنا علي لسانك الوسـ..خ ده، إنتي إيه يا بنتي، إيــــه يا بنتي الزباله اللي إنتي عايشه فيها دي؟! هو أنا كنت معمي عن حقيقتك للدرجادي، كنت مغفل و برياله للدرجادي، كنت آني واحده زيك في بيتي إزاي؟!!

نظرت إليه بإستعطاف و إستجداء وقالت: والنبي يا يحيي إسمعني، إديني فرصه أشرحلك.

همس إليها بصوتٍ مخيف أثار الرعب في قلبها فقال: أنا مش عايز أسمع صوتك، صوتك ده بيقرفني و بيخليني مش طاايق نفسي،إخرسي خاالص.

و راح من ثَمّ يتطلع حوله بعينيه القلقتين ثم نظر إليها بثبات وقال بضعف: أعمل فيكي إيه؟! أولّـ.ـع فيكي ولا أدبحـ.ك و أشرب من دمك!..بس المـ.وت خساره فيكي لإنك هترتاحي، أعمل فيكي إيه؟! أفضـ.حك و أوديكي في داهيه؟!! بس عيالك!..عيالك ذنبهم إيه تبقا أمهم بالأخلاق دي؟!

أجهشت في بكاءٍ قوي لينظر إليها بإشمئزاز ويقول: بتعيطي؟! بذمتك مش مكسوفه من نفسك؟! مفكرتيش في بنتك؟! بنتك دي ذنبها إيه تكبر تلاقي أمها واحده **** زيك؟!

إنحنت تقبّل يداه ببكاءٍ وإستعطاف وقالت: عشان خاطري يا يحيي إسمعني، والله العظيم إنت فاهم غلط، طب عشان خاطر عيالنا.....

أشار لها بسبّابته وهو يهز رأسه بإيجاب ويقول: عشان خاطر عيالنا فعلاً.. عشان خاطر عيالنا.

إستلّ هاتفه من جيب سترته وقام بالإتصال بمحاميه الخاص يستدعيه للحضور إليه علي وجه السرعه.

أنهي المكالمه و نظر إليها بتحفز وقال: المحامي جاي، هتمضي علي تنازل عن حضانة زياد و نور بالذوق لإما هلبّسك قضيه و أرميكي في السجن مع اللي شبهك!

هنا إنفجرت في بكاءٍ و عويل أذهب صوتها وهي ترجوه دون أن يرف جفنه أو ينصت إليها.

_عشان خاطري يا يحيـي، ورحمة أمك تسمعني

أشار لها واضعاً سبابته علي فمه وقال: هششش..إخرسي مش عايز أغلط فيكي أكتر من كده..سيرة أمي متجيش علي لسانك نهائي..و وفري دموع التماسيح دي للي جاي بعدين.

إرتفع رنين جرس الباب معلناً عن قدوم المحامي ففتح له يحيـي وقال بإقتضاب: بسرعة يا متر، جهز أوراق التنازل عن حضانة زياد و نور وخليها تمضي عليهم.

نظرت إليه تحاول ثنيه عن قراره بأعين باكيه ليقول بحدة: إمضي و إنفدي بجلدك بدل ما أخلي عيشتك سواد إنتي واللي جايبينك..و إنتي عارفه أنا ممكن أعمل إيه.

بقلبٍ مشتعل و أعين غاضبه مستنكرة،كان يقف يتطلّع نحوها وهي تقوم بتوقيع الأوراق حتي فرغت ليأخذ المستند من المحامي و ينظر إليها بإمتعاض و نفور ويقول: مش عايز أشوف وشك تاني ولو صدفه حتي! و إنسي إن ليكي عيال عندي.

ألقي بكلماته الصارمه الصادمه ثم غادر مسرعاً و تركها تبكي و تنوح وهي تلعن غبائها الذي أودي بحياتها.

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

مـع رنين جرس الباب إرتفعت دقات قلبها بضجيج و فوضي و إزداد توترها فنظرت إلي صافيه وقالت: ده أكيد يحيـي يا عمتي.

تركت صافيه ذلك الكتاب الذي كانت تقرأهُ و نهضت من مقعدها متسائلة بتعجب: يحيـي؟! و يحيـي إيه اللي هيجيبه هنا؟

_قاللي إنه هييجي يستأذن بابا إني أرجع الشغل تاني.

زفرت صافيه بتوتر وقالت: طيب خليكي هنا و انا هخرج أشوف إيه الأخبار.

خرجت صافيه لتجد إبراهيم قد فتح الباب ليتفاجأ بـ يحيـي الذي يقف أمامه يبتسم بهدوء و ترقب إستوعبه هو فقال بإقتضاب: أهلاً و سهلاً.

_أهلاً بيك يا عمي، ممكن أدخل؟

أفسح له المجال قائلاً بترحيب مصطنع: إتفضل.

دلف يحيـي ليتفاجأ بـ صافيه التي ركضت نحوه تحتضنه بإشتياقٍ كبير ليضمها هو بتقديرٍ و إحترام ثم قبّل رأسها و نظر إليها مبتسماً فقال: عاملـه إيه يا صافيه؟

نظرت إليه صافيه بحزنٍ و شفقة و لمعت عيناها فقالت: الحمدلله يا حبيبي إنت عامل إيه؟ و نور و زياد عاملين إيه؟ مجيبتهومش معاك أشوفهم ليه؟!

إبتسم بهدوء وقال: كويـسين الحمدلله، مرة تانيه أبقا أجيبهم.

_إتفضل يا باشمهندس!

برز بها صوت إبراهيم مقتضباً و لكنه جلس علي كل حال ثم نظر إلي إبراهيم ليجده يقول لصافيه: إعمليلي شاي يا صافيه و شوفي الباشمهندس يشرب إيه؟

_يشرب قهوة مظبوط، مش كده يا يحيي؟

قالتها صافيه لتحصل علي إبتسامه هادئه مرفقة بإيماءه مؤكده من يحيـي فذهبت علي الفور إلي المطبخ.

_ إتفضل يا أستاذ يحيي، خير؟!

نظر إليه يحـيي منتبهاً ثم قال: أولاً يا عمي إبراهيم، إسمحلي أعتذر عن الزياره من غير ميعاد سابق.

أومأ إبراهيم ببساطة وقال: ولا يهمك، حصل خير.

حمحم يحيى و إستطرد حديثه قائلاً: ثانياً..ممكن أعرف إيه سبب موقفك الحاد ناحيتي؟! حضرتك مكانش ده أسلوبك معايا أبداً قبل كده! و يهمني أعرف إيه السبب، جايز أكون أخطأت بدون علمي لا سمح الله.

تجاهل إبراهيم حديثه وقال بإستهجان مبطن: و ثالثاً؟!

=إتفضلوا أدي الشاي، و القهوة بتاعتك أهي يا يحيى، يا رب أكون لسه بعملها حلو زي زمان.

قاطعهم دخول صافيه تحمل آنية المشروبات فنظر إليها يحيي مبتسماً وقال: تسـلم إيديكي.

أومأت بإبتسامه و إنصرفت ليعود و ينظر بإتجاه إبراهيم الذي كان يُسِفَّ و يحد النظر إليه ثم قال: لو سمحت يا عمي إبراهيم أنا حاسس إن وجودي مش مرحّب بيه، لو ده صحيح ممكن حضرتك تقوللي أنصرف بهدوء.

تنهد إبراهيم بضيق و تمتم مستغفراً ثم قال: لا يبني العفو، إتفضل كمل كلامك أنا سامعك.

أومأ يحيي بإرتياح بعض الشئ ثم إستكمل حديثه فقال: كنت بسأل حضرتك إيه سبب معاملتك الحادة معايا؟!

إرتشف إبراهيم أول رشفةٍ من كوب الشاي خاصّته ثم قال: بص يا يحيـي، إنت عارف إني راجل دوغري و ماليش في الكلام المزوق ولا المجاملات.

أومأ يحيى موافقاً ليكمل الآخر كلامه قائلاً: بصراحه أنا بقيت بخاف من أي إحتكاك أو تعامل يربط بيني أو بين حد من عيلتي و بينكوا إنتوا عامةً كعيلة.

إبتسم يحـيي و أومأ بتفهم ليستطرد إبراهيم حديثه ويقول: أنا اللي شوفته من عيلتك مش قليل، كفيـل يقطع كل حبال الود اللي كانت بيننا، معلش أنا يمكن دقة قديمه أو عقليه رجعيه علي رأي شباب اليومين دول بس أنا دماغي كده و سواء بنتي ولا أختي مجبرين يمشوا زي ما دماغي ماشيه.

لم يتحدث يحيي و أعطاه فرصته كامله للإسهاب في كل ما يجول بخاطره فأكمل قائلاً: أخوك أذي أختي أذية لا تحتمل و أخطأ في حقها خطأ لا يغتفر و أظن إنت عارف التفاصيل فـ ملوش داعي نقلّب في الماضي، و بناءً عليه أنا ليا كل الحق أخد موقف من أي طرف يقربلكوا من قريب أو من بعيد.. خصوصاً إن محدش وقف جمب أختي ولا رد الظلم عنها..و متهيألي حقي إني أخاف علي بنتي من الإختلاط بيكوا من تاني، عشان كده منعتها إنها تيجي للولاد تاني،منا مش لاقيهم في الشارع.. ولا إيه؟!

سحب يحيي شهيقاً طويلاً ملأ به رأتيه و زفره ببطء ثم أردف قائلاً: حضرتك كل كلامك صحيح ميه في الميه، أنا مش معارضك في ولا حرف، بس عندي استفسار صغير.

هز إبراهيم رأسه متسائلاً وقال: إيه هو؟

تحامل يحيي علي آلامه وقال مستفهماً: هل مهما كان حجم الظلم اللي إتظلمته صافيه من عيلتي، يساوي الظلم اللي إتظلمته أنا؟

نظر إليه إبراهيم بعين الشفقة و العطف ليكمل يحيي حديثه قائلاً: أنا اللي خسرت كل حاجه بين يوم و ليله، مهما أحكيلك عمرك ما هتتخيل ذرة من العذاب اللي أنا شوفته و اللي ما زلت بشوفه، أنا شوفت الموت بعينيا أكتر من مرة، أول مرة ساعة الحادثه و بعدها لما وقعت في إيدين تجار أعضاء و كانوا بالفعل هيفضوني لولا إرادة ربنا اللي كانت أقوي من كل شئ و بعدها لما وقع علي راسي كوريك وأنا شغال عتّال في مخزن قطع غيار، تخيّل! كوريك ميتسببش في موتي، بالعكس إتسبب إن الذاكرة ترجعلي و أعرف أنا مين و أهلي فين بعد سنه بحالها كنت عايش مجهول الهوية، نفس داخل و خارج مش أكتر! شوفت كل موته أصعب من اللي قبلها و عمري ما تمنيت او قولت يا ريتني مت، ما عدا اليوم اللي رجعت فيه و لقيت مرااتي حامل من أخويا و أبويا مبارك الجوازة و عايشين حياتهم ولا كإن مر عليهم واحد إسمه يحيـي!! يومها بس قولت يا ريتني مت قبل كل ده.. لو كنت مت فعلاً من ساعتها كانت كل حاجه هتبقا كويسه و طبيعيه، كانوا هيزعلوا يوم،شهر،سنه و قي الآخر هينسوني و سيرتي هتدفن معايا تحت التراب.

شعر إبراهيم بوخزاتٍ في صدره من فرط التأثر و الشفقه اللذان شعر بهما تجاه يحيي و الذي أضاف بنبرة منكسره فقال: تفتكر بعد ده كله مين اكتر حد إتظلم منهم؟! مين أكتر حد كرههم و مبقاش طايق يسمع عنهم؟! مين أكتر حد بيتجنب إنه يشوفهم أو يختلط بيهم؟!

ثم إتكأ علي ساعده و أضاف بهدوء مقهور: مين أكتر حد بقا يخاف يظلم لإنه داق مرارة الظلم؟!!

تنهد إبراهيم بقلة حيلة لا يدري بما يجيبه فإلتزم الصمت و لم يتفوه بكلمه ليقول يحيي: متقلقش يا عمي إبراهيم أنا لا عايز يكون ليا صله بيهم من قريب ولا من بعيد، و بالنسبه لـ غزل تأكد إنها عمرها ما هتتمس بسوء أبدآ.

أنهي كلماته ليرفع فنجال قهوتهٍ عن الطبق و يحتسيه بهدوء قبل أن ينظر إليه إبراهيم قائلاً: والله يا يحيي يبني منا عارف أقوللك إيه، طيب قوللي طلباتك إيه؟!

وضع يحيي فنجال القهوة من يده و نظر إليه بتركيز و ثبات ثم قال: أنا طالب إيد غزل!.

حملق بهِ إبراهيم بدهشه ليعود يحيي ويقول: أنا عارف إن طلبي مفاجأه بالنسبه لحضرتك و أكيد بالنسبه لـ غزل كمان، بس أتمني حضرتك تفهمني، أنا محتاج غزل في حياتي جداً و مش هكذب عليك ولا هداري، نور و زياد متعلقين بيها جدآ جدآ و يعتبر هي اللي مقضيه معاهم أغلب اليوم و عارفه كل حاجه عنهم، أنا بحاول أأسس نفسي و ضاغط على نفسي في الشغل عشان أكبر و يبقالي وزن في السوق و للأسف كل ده علي حساب علاقتي بيهم، هما محتاجين غزل يمكن أكتر مني كمان الفترة دي و بالنسبه لأمهم فهي إتنازلت عن حضانتهم و الوضع بقا أصعب كمان.. أنا صارحتك بحقيقة الأمر و أتمني حضرتك تتفهم موقفي و صراحتي دي تشفع لي عندك، و في الأول و في الآخر أنا مستني رأي غزل لإن ده الأهم من كل شئ.

تجهم وجه إبراهيم و تدفقت الدماء به بغزارة و آثر الصمت فقال يحيـي وهو ينهض عن الأريكه: أنا مش مستعجل علي الرد، خدوا وقتكوا خالص و بلغوني بقراركوا و إن شاء الله أنا واثق إن حضرتك هتحكّم عقلك و هتحسن التصرف..عن إذنك.

صافحه يحيي و إنصرف بينما جلس إبراهيم يفكر مليّاً بما أخبره به يحيـي للتو و عقله يرفض الإستيعاب.

و علـي الجانب الآخر كانت غزل تقف خلف باب الغرفه تستمع لما يدور بالخارج و دموعها قد إنهمرت بكثرة علي خديها من فرط الصدمه و الفرحه و راحت تنظر إلي صافيه بعدم تصديق وهي تقول: إنتي سمعتي اللي أنا سمعته يا عمتو؟! يحيـي عايز يتجوزني؟!!! أنا مش مصدقه نفسي، هو قال أنا طالب إيد غزل بجد؟! يعني أنا سمعت صح؟!

_أيوة سمعتي صح يا غزل، بس أعتقد إنك كمان سمعتي بقية كلامه، قال عشان العيال متعلقين بيها و أمهم إتنازلت عن حضانتهم..يعني عايز يتجوزك عشان العيال مش أكتر!

هكذا ألقي والدها بكلماته اللاذعه التي أخرجتها من حالة السعاده التي سيطرت عليها لتنظر إليه بترقب وقالت: أيوة يا بابا سمعت، يحيـي صريح و المفروض نحترم صراحته، و أظن لو قال غير كده حضرتك مكنتش هتصدقه.

نظر إليها والدها مستنكراً ثم قال: يعني إيه؟! أفهم من كده إنك موافقه؟

دون تردد و لا لحظة تفكير واحده ..أومأت بموافقه لينظر إليها أبيها متعجباً وقال: موافقه تتجوزيه عشان تكوني دادة لعياله اللي متعلقين بيكي مش أكتر؟! تقبلي علي نفسك كده؟

أومأت بتأكيد لتتفاقم دهشته لينظر إليها متسع العينين يطالعها بذهول و قال: إنتي واعيه للي بيتقال؟! أنا مش مصدقك بجد.

إهتز قلبها بشدة وإقتربت من أبيها و أمسكت بيده وقالت: لو سمحت يا بابا متصعبش عليا الأمور أكتر من كده، حضرتك عارف اللي في قلبي إيه، أنا عيشت عمري كله بستني لحظه زي دي و مكنتش عمري أتخيل إنها تتحقق، فـ لما تحصل أكيد مش هيفرق معايا السبب أو المبرر إيه، أنا راضيه بأي تفسير طالما هكون جمب يحيي.

راح يقلّب كفيه مذهولاً من حديثها الهزلي بالنسبة له لتستطرد حديثها وتقول: لو سمحت يا بابا، أنا طول عمري بسمع كلام حضرتك، إتخطبت لـ إسلام إرضاءً لرغبة حضرتك و إتجوزت أكرم الله يرحمه إرضاءً لرغبة حضرتك بردو، بلاش تستكتر عليا فرصه زي دي و تحرمني من السعاده اللي طول عمري بتمناها.

_سعـادة؟! إنتي بتوهمي نفسك إنك هتكوني سعيده.. بس الحب عامي عينك عن الحقيقه و مش عايزة تشوفيها.. فوقي يا غزل، ده مش طالب إيدك حباً فيكي ده طالب إيدك عشان عياله!..يعني متستنيش منه حب ولا يحزنون، هو مش شايفك زوجه أصلاً عشان يعاملك كزوجه.

=هحـاول..هحاول أحببه فيا و أقرب منه و أقربه مني..مش عيب ولا حرام..أكيد من كتر حبي ليه هيحبني.

أردفت بالأخيرة بأمل ليقول: هتقدري؟! هتستحملي بعده عنك و إنتوا متجوزين؟! هتستحملي يعاملك زي أخته زي ماهو بيعتبرك و إنتي شيفاه حبيبك و جوزك و حلالك؟!

أومأت بتأكيد وقالت: هستحمل كل حاجه طول منا بحبه، طول عمري مستحمله وأنا بعيد عنه، و يوم لما أبقا مراته مس هستحمل؟؟!!

_يوم ما تبقي مراته الأمر هيختلف..متطلباتك هتختلف..هتبقي خلاص ملكتيه و شايفه انه من حقك انه يكون معاكي بجسده و روحه و عقله و كل ذرة في كيانه.. مش هتقبلي بأقل من كده وقتها.

=إنت ليه بتسبق الأحداث يا بابا؟!

نطقتها بيأس و أضافت: هو انا للدرجه دي متحبش؟!

أحاط وجهها بكفيه وقال بنبرة حنونه: تتحبي..و تتحبي أكتر من أي حد في الدنيا كمان.. بس القلوب دي يبنتي بين إيدين ربنا، مش بإيدينا عشان نتحكم فيها، متقدريش تجبريه يحبك،عمرك ما هتزرعي حبك في قلبه غصب.

_ و عشان القلوب بين إيدين ربنا أنا عندي أمل إنه يحس بيا و يحبني، و حتي لو محبنيش كفايه إني بحبه،كتير جدآ متجوزين و حب من طرف واحد بس عايشين في منتهي السعاده، مش شرط عشان أكون مبسوطه معاه يكون هو كمان بيحبني.

زفر بقلة حيلة و يأس من إصرارها و الذي يبدو أنها لن تتراجع عنه تلك المرة ليجدها وقد تشبثت بقميصه تستجديه وقالت: وحياتي عندك يا بابا، لو بتحبني و عايزني أكون مبسوطه توافق.

رنّق النظر إليها ثم تمتم مستغفراً وقال: لله الأمر من قبل ومن بعد، اللي يريحك إعمليه يا غزل.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي