الفصل الثالث

أجفلت من سؤاله، تنظر له بصمت ،شفيتيها مطبقتان على بعض.

لقد سرى بداخلها بعض من الدفئ بفعل سخونة الشاى المغلى والشطائر الدافئه الشهيه .

لكن سؤاله جعل البرودة تعود لتسرى بجسدها كأنها في صقيع القطب الشمالي.

هل باتت تٌرى كطفله شريده خرجت من دار الرعاية؟

هى ابنة عائله ولديها اب وأم واسره ،لكنها فى لحظة يأس بعد تعذيب والدها المتواصل ونقمته المتواصلة عليها على مدار عشرين عاما ،وصلت لمرحلة ميؤس منها ،لقد تعبت روحها وفاض بها الكيل.

ظنت أن الشارع وارحم ،لكنها لم تكد تكمل اربع وعشرون ساعه فى هذا الشارع حتى فطنت أهم حكمة فى حياتها كلها...نار والدها ولا ساعه واحده فى الشارع.

وضعت رأسها ارضا ،ثم هزتها نافيه.

نظر لها شداد و هو يجعد ما بين حاجبيه باستنكار ثم سأل مترقبا: امال ايه؟

ابتلعت رمقها لا تعرف ماذا تقول ،هل تخترع له قصه أم تقض عليه الحقيقة.

نظرت له وجدته ينتظر مترقبا باهتمام،ابتلعت غصه مسننه بحلقها ثم قالت بخفوت: أنا ليا أهل.

سألها بهدوء لكنه مهتم: أهل ازاى؟اخوال ،اعمام ولا أيه.

حمحمت تغمض عيناها ثم فتحتهم تقول: لأ ،اب وام وإخوات.

اتسعت عيناه بغضب وهو يضرب سطح المكتب الخشبى بيده فانتفضت على إثره تسمع صوته وهو يردد : إيه؟و لما هو كده ليه تباتى فى الشارع.

انتفض جسدها من صرخته الغاضبه ،كانت بمسابه الإشارة كى تنفجر باكيه

تبكى عمرها كله بسنين عذابها ،تبكى ليله مره قضتها على الرصيف كالمشرين بلا مأوى.

تبكى ضعف وذل والدتها وقلة حيلة شقيقيها،تبكى تعنت وظلم والدها.

لو أن لأحد إثم الآن فهو والدها ،هو من وصل بها لهنا،لو ظلت لماتت ذات يوم على يديه.

تمتم بصوت شبه هامس وهو يرى انخراطها فى البكاء يستغفر الله ثم اخذ نفس عميق يحاول الحديث معها وتهدئتها قائلا:طب استهدى بالله،استهدى بالله يابنتى وبطلى عياط.

مد يده لعلبه مزخرفه مصنوعه من الخشب المعشق يخرج منها إحدى المحارم الورقيه ويعطيها لها كى تجفف دموعها وقال:استهدى بالله يابنتى،خدى.

رفعت عيناها تنظر له فلفت نظرها تلك العلبه المزخرفه التى تحوى داخلها المحارم .

نظر لها يرى ماجذب انتباهها وابتسم بعدما عرف أن تلك العلبه قد لاقت استحسانها فابتسم قائلاً:عجبتك .

مسحت أنفها الذى بدأ يسيل منه سائل قريب من الماء يصاحب البكاء دوما ،ثم قالت: حلوه اوي.

اتسعت ابتسامته ينظر للعلبه يقلبها فى أكثر من اتجاه ثم قال:دى عمايل ايد صالح  ،ابنى الكبير ،مش بقولك عندى الى زيك و أكبر منك كمان.

مد يده يضع العلبه على المكتب مجدداً وهو يكمل: أصله غاوى زخرفه وشغل العاشق والمعشوق وأوقات الروقان بقا والمزاج العالى ساعات يعمل خاتم مثلا عقد كده يعني ،بس مش لأى حد ،هو لما المزاج يروق من وقت للتانى كده يقوم عامل عقد لامه اكتر حد بيحبه بقا.

كانت تتابع حديثه بعدم اهتمام ،مالها هى ومال ابنه هذا ولا ما يحبه ،لديها هم يكفى جبال.

صمت شداد عن حديثه ينظر لها متابعا: هديتى؟

هزت رأسه بصمت فقال:ها بقا قوليلى،سبتى بيتك ليه؟

ابتعلت ريقها بصعوبه بسبب جفاف حلقها ثم قالت بغصة بكاء: لو كنت فضلت كنت هموت على أيده .

شداد مستغرباً سأل:هو مين.

تمارا: أبويا.

استعت أعين شداد يعتدل فى جلسته باستقامة بعدما كان يتكئ على ظهر كرسيه وردد: إيه؟!

شملها بنظره متهمه اتهام واضح وقال:ليه يابنتى انتى عملتى ايه؟

طريقه حديثه لا تحمل معنيين ،هو معنى واحد فقط.

جعلها تهز رأسها تنفيه عنها بسرعه وقالت: ماعملتش أى حاجة والله ،هو أنا من يوم ما اتولدت كده،ماكنش عايز يخلف بنات مع انى يعنى اصغر واحده وربنا كرمه بولدين كبار ،بس هو ماكنش حاببنى ،وكل مايبص فى وشى يتعفرت.

كان شداد يستمع لها مزهول وردد مستغربا:ليه يابنتى يتعفرت ده انتى ماشاءالله عليكى وشك الى يتصبح بيه يجيه الخير،بقا حد يكره خلفة البنات ده سيدنا النبى قال عليهم المؤنسات الغاليات.

ضحكت بألم والدمع عالق فى جفناها تردد ساخره:غاليات إيه بس ياعمى ،ده أنا ابويا كان بيستخسر فيا اللبن الى برضعه ،وماكنش بيرضا يشتريلى ،كنت دايما زعيق وشخط ونطر وشتيمه،عمره ماجابلى لعبه ، لبس العيد بمحايله من امى مع أنه مرتاح ماديا حتى الكليه قالى صيدله مصاريفها كتير روحى حقوق احسن... وأخر مره شوف.

مدت يدها تزيح كم الكنزه الصوفيه التى ترتديها ،فأجفل شداد وهو يرى بقعه حمراء مستطيله الجحم على طول معصمها مفقعه .

وضع يده على فمه يسأل بجزع: إيه ده يابنتى ،ده مايه مغليه وقعت عليكى ولا ايه.

هزت رأسها نافيه انه لا وتحدثت بعدها: دى من أبويا،سخن السكينه وحرق أيدى.
بهت وجه شداد يردد: عملتى ايه يا بنتى يخلى ابوكى يعمل كده.

ضحكت مجددا تعلن أن حقا شر الباليه ما يضحك ،فمن يسمع ماتقول يجزم أنها بكل تأكيد ارتبكت شئ منافى للأداب ،فماذا لو وعلم الحقيقة .

رفعت عيناها الحمراء له تقول: عشان اتأخرت عشر دقايق كاملين وانا بشترى له السجاير.

أدمى قلبه إشفاقا على تلك الفتاه وما تعرضت له ،انها نعمه لا يقدرها والدها ،يقسم لو كان لديه إبنه مثلها لدللها دلال لم تراه فتاه من قبل.

واخذ يردد بغضب وزهول:لا حولا ولا قوه الا بالله،لا حول ولا قوه الا بالله،معقول ده.

اطبقت جفناها تنهمر منها بعض العبرات من شدة الألم النفسي والبدنى تردد:مش كده وبس ،الضرب والأهانه وقلت الفلوس والأكل كنت قربت أخد عليهم،بس إلى ماكنتش عارفه اعيش معاه وكان يقتلنى ببطء هو المعامله السيئة ،ممكن ابقى معديه من قدامه يقوم شاتمنى ولا حادفنى بحاجه يطلع عصبيته فيا لو حاجه مضيقاه، سخريه من كل حاجه بعملها او بقولها ،لدرجة أنه طلع عليا إسم المفجوعه عشان شايف أنى باكل كتير ،كان كل ما يشوفنى يقولى خسى ،خسى ،بطلى أكل،لو قاعدين على الغدا ولا حاجة لازم اقوم اول واحده فيهم نص بطن، ببقى نفسى أكمل أكل قوى بس اتعودت أقوم بدل ما يسمم بدنى بكلامه ولا اتأخر مره فيروح حادفنى بطبق  بالاكل الى بيه فى وشى.

صمتت تأخذ نفسها تتنهد بتعب وتكمل:كل الى بقوله ده نقطه في بحر من المعامله السيئة ،لو كنت يتيمه كان هيبقى اكرملى، انا وصل بيا الأمر انى كنت بزعل لما حصص المدرسه تخلص وابقى خلاص راجعه البيت ،كل العيال تبقى عايزه اليوم يخلص ويورحوا إلا انا،كلهم كانوا بيبقوا فرحانين وهما ماشيين فى الشارع وبيهزروا و يضحكوا عشان مروحين وأنا الى أبقى ماشيه زى الى  أخدينها تتعدم.

صمتت تبكى أكثر ثم رفعت وجهها لشداد تقول:عارف أنا عمرى عشرين سنه الحبه الى ضحكت فيهم فى حياتى كلها كانت فى المدرسه، حتى الكليه ماكنتش منتظمه فيها بسببه شايف انها مصاريف على الفاضى اروح على الأمتحانات بس.. ولولا أن المدرسه لازم حضور وانصراف ماكنش سابنى أروح كل يوم وكان ويبقى حرمنى من الحبه الى كنت بحس فيهم انى بنى ادمه وعايشه.

ابتعلت ريقها المر ثم قالت ،كل ده كنت مستحملاه بس من بعد ما سخن السكينه وقرب منى كتفنى وكوى جلدى بيها من غير اى مشاعر ولا رحمه ومن غير ما اصعب عليه أو يرمشله جفن عليا مقدرتش ... خليتهم دخلوا وناموا وأخدت إلى أعرف امشى بيه فى الفجر ومشيت.

لامست كتفها الآخر بيدها المصابه بحركه علامة على تهدئة النفس وبث الأمان .

اخذ شداد نفس عميق يستغفر الله ناقم على ذلك الاب،ثم سألها:طب انتى ناويه على ايه يا بنتى،هتروحى فين ولا تعملى إيه.

اجهشت فى البكاء تقول: ماعرفش،بعد مامشيت وسوفت الويل فى الشارع ندمت،واتمنيت أرجع بس عارفه أبويا لو عطر فيا بعد الى عملته هيقتلنى ..  انت عارف الى بتهرب من بيتها عندنا يتبقى ايه .

صمت شداد متفهما يهز رأسه متفهما ثم قال: فاهم يابنتى فاهم.

استغرق ثوانى فى التفكير ثم قال: بصى يابنتى يمكن ربنا وقعك فى طريقى لحكمه هو يعلمها ،وانا على أد ما اقدر مش هسيبك كده .

فتح أحد أدراج مكتبه يخرج منه مفتاح قديم ثم قال:خدى ده مفتاح مخزن بشيل فيه شوية من شغلى ،هوشقه محندقه كده فى الحاره الى جنب المعرض طوالى ،تانى بيت الدور الارضي.

وقف عن كرسيه يقول: تعالى معايا.

عاد لها الرعب مجددا كشعور طبيعى ملازم لها.

اصبح ينظر لها متفها،الفتاه التى لم ترى الأمان من والدها فكيف لها ان تعرفه يوماً.

بالأساس الأب هو مصدر الأمان والقوى لابنته فكيف لو كان ذلك الأب هو المصدر الخام للرعب والخوف والإهانة.

تحدث بهدوء شديد يردد: ماتخافيش يابنتى انا حاجج بيت الله وملمس على بابه. وزورت قبر نبينا محمد.

سارت معه بجسد منهك لكنها لم تأمنه كثيرا،فقط القليل وهذا أكثر وأكبر درس تعلمته فى الحياه ،الا تعطى والأمان لأحد كثيرا.

وصلت معه لبنايه ليست قديمه وليست جديثه تعتبر ملاصقه للمعرض ،دلف للداخل وهى تتبعه يهبط ثلاث درجات ثم يقف أمام باب عتيق يدس به ذلك المفتاح الذي كان سيعطيه لها.

فتح الباب فبدأت ترى وهى تخطو خلفه للداخل أجهزة كهربائية داخل علب كرتونيه ضخمه واخرى علب تحوى اطباق من الخزف والصيني .

شقه ليست صغيره جدا ولكنها اقل من كونها كبيره لكن وإلى حد ما كانت نظيفه .

نظرت له تقول بتوجس خصوصا وهى ترى طاوله عليها بعض الأحجار الكريمة وكماشات من المعدن وأدوات كثيره بجوارها مريبه  فسألت: هو حد عايش ولا بييجى هنا ،المكام أنضف من أنه يكون مخزن.

أبتسم لها يقول: شايفه الحاجات اللي تحت ايدك دى .......دى بتاعت صالح ابنى الى قولتلك عليه هو كل فتره بييجى هنا لما بيبقى رايق بس ماتخافيش انا هنبه عليه وأعرفه أن بقا عندنا ضيوف.

هزت راسها فقال: أنا همشى دلوقتي وانتى اقفلى على نفسك و لو معاكى لبس غيرى ونامى شويه،لما تصحى عدى عليا فى المعرض،عندك جوا غطا يدفيكى وماتقلقيش،ربك هيسهلها و كل حاجه ممكن تتدبر.

كانت تشعر بالدونيه ،دوما هى هكذا ،انه شعور نماه وعززه والدها ،والان هى تشعر كذلك وهى تتلقى العطف والمساعدة من شخص ما.

لكنها تشعر بهدوء وسماحه في معاملته على عكس والدها الذى كان قبلما يعطيها اى شئ لابد أن برفقه بسيل من الحديث المهين الذى يحرق الأعصاب والدم يجعلها تكره نفسها ،يزيد الكره لذاتها وهى تشعر انها لا تملك اب أو شخص غيره يعيلها دوماً تمنت لو استطاعت العمل كى تنفق على نفسها.

كانت هذه لحظه مضيئه ،تجلت تلك الفكره لرأسها ،يقول المثل الصيني لا تعطينى سمكه ولكن اعطنى شبكه وعلمنى الصيد.

فنادت عليه سريعاً خصوصاً وهى تراه بدأ يلتف بجسده كى يغادر تاركا لها مساحه كبيره كى تأخذ حريتها و راحتها.
فصدح صوتها تناديه بتهذيب و تردد:لو سمحت يا حاج.

توقف عن سيره ونظر لها بترقب يسأل: فى حاجه يا بنتى.

حمحمت بحرج تنكس رأسها أرضا ثم قالت:أحمم.. هو كتر خيرك بس كل ده مش حل... بصراحه أنا عايزة شغل ،عايزه اصون كرمتى واعزز نفسى ،انا لسه بدرس ما أخدتش شهادتى فاضلى سنه واتخرج ،فلو كنت تشوفلى شغل هيبقى جميل عمرى ما انساه لك ابدا.

وضع رأسه ينظر أرضا مفكرا وهو ويردد بحيره:ايوه بس ... بنت زيك ممكن تشتغل إيه؟

تمارا:اى حاجه والله يا حاجه طالما شغله شريفه وبما يرضى الله.

تنهد بقلة حيله يحاول ايجاد حل ثم قال بتردد: ايه قولك لو مؤقتاً تشتغلى عندى فى المعرض ؟

تهلل وجهها تقول بلهفه:موافقه،موافقه طبعا.

لكن هبط عزمها وصمتت ملامحها مفكره تردد: بس هشتغل ايه؟

الحاج شداد: يعنى لو زبونه داخله تشترى حاجه تقفى معاها تعرضى لها الاسعار والأنواع وسعر كل نوع وايه ألوانه ،والحلو ان معظم ولا ممكن كمان كل زباينا ستات وعرايس زيك كده فهيبقى أمان ليكى كمان.

حمدت الله بينها وبين نفسها كثيرا ورددت سريعا:موافقه .

أبتسم لها شداد وقال:عاال..وانا من جهتى هربطلك يوميه حلوه واعتبريه شغل مؤقت كده لحد ما الاقيلك شغلانه حلوه فى مكتب محامى عشان يبقى منك بتشتغلى وتاخدى مرتب وفى نفس الوقت بتتدربى.. إيه قولك؟

وهل الأمر يحتاج للتفكير،لم تتوقع من الأساس ،فلتحمد الله كثيرا و تقبل باطن و ظهر يدها.

تهلل وجهها على الفور وعاد له بعض من إشراقه تقول بلهفه:كتر خيرك،كتر خيرك يا حاج ،جميلك ده انا عمري ما هنساه العمر كله.

أبتسم لها يهز رأسه وقال : ولا جميل ولا حاجة قولتلك انتى زى عيالى .

التف يتحرك ناحية الباب ليخرج ويترك لها مساحه من الحريه قائلا: ربنا يعملك الى فيه الخير يا بنتى،ارتاحى وغيرى هدومك ولما تبقى قادره عدى عليا عشان تستلمى شغلك وآخر اليوم ليكى ماهيه حلوه.

نظر لها بشك يقول: ولا جوعتى ؟

نفت برأسها سريعاً تضع كفيها على معدتها وتردد: لأ ده انا كنت باكل كأنى ماكلتش من سنين ،كتر خيرك يا حاج.

أبتسم لها يردد :الف هنا،همشى أنا بقا خدى راحتك..و زى ما قولت لك لما تبقى قادره عدى عليا ،الميزه هنا أن المعرض لازق فى البيت طوالى.

هزت رأسها تردد: حاضر.

خرج نهائيا من الباب وهى تسير خلفه بينما كان يقول: هاه ..يالا السلام عليكم،اقفلى على نفسك من جوا كويس وماتخافيش المنطقة أمان ،بس بردو الأمر مايسلمش، اقفلى القفل كذا تكه.

كانت تهز رأسها طواعيه تقول: حاضر،حاضر يا حاج.

ذهب الحاج شداد يباشر عمله وخصوصا تلك الحسابات المتروكه منذ فتره.

أما تمارا فقد كانت ماتزال واقفه خلف الباب الذى اغلقته للتو تنظر حولها تقريباً غير مصدقة للان.

أربع جدران.... هى الأم بين أربع جدران ،ظنته حلم بعيد وهى شريدة ليله أمس تفترش الأرض وتتوسد حقيبة ملابسها.

مند خرجت فجر اليوم السابق من بيت اهلها ظناً منها أن هذا هو الخلاص وسترتاح.

صفعت بيد الشارع القاسيه ،تذكرها وتعطيها درس العمر.

نار والدها ولا ساعه واحدة في الشارع.

كانت تعض الأرض ندما وهى تدرك الحقيقة الأمر ،و هى أنه حتى هذه النار والعوده لها لم يعد ممكناً .

هى الأن بعرف عادتنا الشرقيه مهدور دمها ،جلبت العار لأهلها.

فتاه فى العشرين من عمرها تعتبر مراهقه ،لملمت ثيبابها وبدون سابق انذار او حديث تركت منزل أهلها فى ظلام الفجر وقبل شروق النهار فما الظن الذى سيلاحقها.

إما انها خاطيه او زانيه وخلفها فضيحه تخشى كشفها أو لربما هربت مع شاب من اولاد هذه الأيام نجح فى اغوائها او قد تكون قد أخطأت معه والآن هربت إليه.

كل هذا وربما أكثر سوءاً هو ما سيقال عنها وما سيظنه به أهلها.

أهلها فقط.. فما بالها بوالدها غليظ القلب صعب الطباع.

هى أساساً بلا أى شىء ودون إرتكاب أى ذنب كانت تهان وتدرب وتعذب.

عاشت سنوات فى ويلات التعنيف الأسرى،حينما يأتيك الألم من أقرب عزيز لديك.

كانت لسنوات طويلة ،بعمر صغير ...صغير جداً،كانت تتعمق فى التفكير إلى حل ، تسأل أين المفر ،لكنها لم تكن تجد أى أجابه...انه والدها .. المعيل الوحيد لها.

إنها لجريمه ،جريمه وقتها على طفله بسنها بدلا من التفكير باللعب ،او اقتناء عروس لعبه جديده او فستان ،كانت ذات سبع أو ثمان سنوات تجلس تفكر أين المفر لها من والدها.

تتذكر ذلك اليوم الذي حضرت به زفاف ابنة خالتها الكبرى ،تجلس مرتدية ثوب ابيض يضاهى أثواب الزفاف التى ترتديها العرائس.

تصفق بكلتها راحتيها الصغيرتان وسط جمع النساء ووالدتها لجوارها.

لا تفهم ما يحدث لكنها سعيده مهلله وهى بعيده عن بطش وتعنيف والدها ذو المزاج الحاد المتقلب عليها هى ووالدتها تحديدا.

تصفق بسبب وبدون سعيده ترى فى نهاية الأمسية ابنة خالتها تتحرك وخلفها جمع هائل من النساء مصفقين ومهللين يطلقون الزغاريد والأعيره النارية .

والفتاه تتحرك لسياره سوداء يساعدها شاب على مايبدو من نفس عمرها ،يفتح لها باب السيارة كى تصعد وتستقر داخلها بفستانها الضخم.

نظرت لوالدتها تسأل برعب: هى رايحه فين يا ماما فى الوقت المتاخر ده ،أكيد أبوها هيضربها.

حزنت الأم على فتاتها كثيرا ،تنظر لها بقلب تكاد تسمع صوت انكساره.

فتاه صغيره بعمرها ولا يشغل بالها سوى الضرب والتعنيف والعقاب.

حانت منها نظره ساخطة على زوجها الذى يقف وسط جمع من الرجال بكامل فخامته وهيمنته ترتفع ضحكاته مقهقه تملئ الأجواء ،يضحك غير مبالى ولا على درايه بصغيرته التى تذوب رعباً بكل دقيقة تمر عليها ،لقد عاشت وعانت اشياء ماكان عليها أن تعرفها وتعانيها بهذا العمر الصغير.

المصيبه أن زوجها يبدو بين الناس والمجتمع رجل حكيم رزين ذو هيبه،يجلس فى جلسات الصلح والمجالس العرفيه حكماً كلامه يعتد به والكل يراه رجل محترم.

بينما الرجل المحترم يعنف زوجته وابنته ،تقريبا لا يقدر ولم تراه يوماً يعنف رجل.

هو حتى يعامل أولاده الصبيه بطريقه أحسن وألطف.

ويعاملها هو بلين ورفق حين تتحكم به غرائزه فقط ،وان عصت يلجأ للغصب يلبى نداء جسده غير مبالى بها او مهتم.

عاودت النظر لأبنتها تحاول أن تبتسم فى وجه تلك المسكينه التى كتب عليها القدر أن تخلق ابنة لرجل كهذا وقالت بينما تمسح على شعراتها البنيه الجميله: لأ يا حبيبتي ماهو أبوها عارف ،وعارف أنها ماشيه من البيت ومش هترجعله تانى .

زاد الرعب و الهلع على وجه تمارا ،تتسع عينها مردده: يانهار ابيض ده أزاى؟مش هترجع خالص؟!

هزت الأم رأسها وشرحت بهدوء:اه ياحبيبتي علشان هى اتجوزت ،البنت لما بتتجوز بتسيب بيت ابوها وتتنقل بيت جوزها تعيش فيه.

تحطم قلب الأم لشلاء تناثرت وهى تستمع لإبنتها التى رددت:بجد؟!! طب يارب يارب اتجوز .. يارب اتجوز عشان اسيب بيت بابا.

عادت من شرودها تجر قدميها حزينه ذابله ،تتذكر تلك الامنيه  والتى علمت فيما بعد أن أمامها سنوات حتى تستطيع تحقيقها فهناك سن محدد للزواج.

ولكن الحمل تلاشى نهائيا وأصبح كابوس،كابوس لا تريد تحقيقه ابدا بعدما مرت السنون واصبحت شابه جميله يأتيها الخطاب.

تعلم أنه بالأساس كان والدها يرفض الكثير ،بالتاكيييد فهو لن يناسب اى شخص هكذا.

لكنها كانت تحمد الله على رفضه منذ البداية ،لانها أصبحت رافضه ،لا بل مرتعده من فكرة الزواج نهائيا بعدما كبرت عليه من عنف وتعذيب واهانه من المدعو والدها لتلك السيده الضعيفه قليلة الحيله والدتها .

كل الأفكار التي تعرفت عليها فى سن يعد جريمه أن تعرفها بها عادت إليها تذكرها ...والدها قد يأتى يوم وتهرب منه لرجل آخر بييت آخر ومعيل آخر ،لكن ماذا لو ألقاها القدر بين يدى رجل يشبه والدها ولربما اسوء.

ألح على عقلها سؤال مهم جداً وهو هل هناك من هو أسوء من والدها؟

سارت تبحث عن تلك الأريكه التى لمحتها أول ما دلفت للمكان طبقاً للمثل الشعبي القائل"الجائع يحلم بسوق للعيش".

وهى كانت تحتاج للنوم بعد ليله نامت بها كذئب يغمض عين ويفتح أخرى تعلم علم اليقين أنها تنام بالشارع الذي لا أمان له ولا لمن به.

آاااه عاليه من ألم وتكسير جسدها صدرت منها وهى تتمد على تلك الإريكه المريحه الى حد كبير .

عقدها النفسيه وحياتها المره مع والدها جعلوها تخرج بقرار مصيرى مهم .

يجب أن تعول هى نفسها،قرار اتخذته بعمر صغير،صغير جدا وبشكل خارج حدود المنطق.

فليس من المنطق ابدا أن تكون هذه هى افكار طفله بالعاشره ، لكنها المعاناه يا صديقى.

إنها المعاناه ،فصدق حكيم قال "تأتى الخبره من رحم المعاناه"
وأجمل ما فى الحزن أن كل الحكمه تأتى منه.

لذا وضعت كل همها وكبتها حتى عقدها الشخصيه والنفسيه فى الدراسه.

هى حتى كانت تتهرب من بطش او رؤية وجه والدها بأن تغلق على نفسها بالساعات متحججه بالمذاكره.

لربما كانت خائفه من رد فعله العنيف القاسى لو كانت درجاتها ضعيفه.

اوووو...لربما ظنت... ظنت او تمنت أن يفتخر بها. يسعد كثيرا حين تجلب مجموع كبير بالثانوية.

فيغير معاملته تلك ...نعم بالتأكيد فبوقتها ستصبح طبيبه او مهندسه أكيد ستوجب عليه معاملتها جيدا .

وبعدما حققت حلمها وجمعت مجموع عالى ، وقفت تنتظر صراخ من والدها وحضن كبير دافئ مع دموع عزيزه يهنئها ويتمنى لها مستقبل باهر.

لكنه قتل بذرة حلمها التى أوشكت على الإنبات أخيرا وهو ينظر لها بلا أدنى أدنى اهتمام ،ولا حتى تعبير بسيط على وجهه بل قال إنه جيد هائل لكن لم يكن هناك ضرورة لكل هذا فهو لن يستطيع الانفاق على اخيها بكلية الطب التى تحتاج لمصاريف عاليه بالإضافة إلى سكنه المغترب فى أسيوط بجوار جامعته ،معللا بكل بساطة أن الصبى أهم فهو من سيعول بيته لكن هى فمسيرها الزواج .

بالفعل حدث ما قاله بكل بساطة وارغمها على دخول كلية الحقوق دون أن يرف له رمش واحد.

دون وعى منها سقطتت فى هوة من النوم العميق لا تدرى بالعالم من حولها نهائيا.

______________________

بينما عاد صالح إلى المعرض عند والده مباشرة حينما انهى استخراج بطاقته.

يحلس أمام والده بتعب فيلاحظ عليه شداد كل ذلك وقال:مالك يابنى،وايه إلى اخرك كده ده الضهر وجب.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي