الفصل الرابع

جلس يعود بظهره للخلف يحاول إسناد رأسه أو حتى جزء من رقبته على ظهر كرسيه يمدد قدميه  وينظر لولالده قائلا بإرهاق: اااه..المصالح الحكومية يا حاج،بقت حاجه مقرفه و كله فوق بعضه .

هز شداد رأسه بتفهم وقال: أى و الله عندك حق يا ابنى .

صمت متنهدا وقال: القصد...قوم اطلع غير هدومك و ريح شويه و ابقى تعالى .

هز صالح رأسه قائلا بإرهاق: لأ لأ يا حاج، انا هفضل هنا شويه اشوف الشغل عشان عندى مشوار مهم على المغرب كده.

زوى شداد ما بين حاجبيه يسأل: مشورا؟! مشوار إيه تانى؟!

مسح صالح على وجهه بتعب يردد بلا إهتمام: خطوبة واحد صاحبى.

زم شداد شفتيه يقول بضيق: شايف الشباب الى زى الورد الى مفرحه أهاليها ،مش زيى ،واحد مضرب عن الجواز ،والتانى صايع يلف على البنات و فاكرنى مش دارى بحاجه.

صمت يضرب سطح المكتب بيده قائلا بحسم و حده: بس انا بقا عارف كل حاجه، و ساكت بمزاجى.

تنهد صالح يمسحه وجهه وعينيه ثم قال : والله يا حاج انا حاولت انصحه كتير.

صمت مفكراً لثوانى ثم ابتسم بخبث وردد: طب ما تجوزو يا حاج اهو حتى الجواز يهده و يأدبه.

رفع شداد حاجبه يبستم بدهاء وقال بثقه وتحدى: عايزينى اجوزو عشان تبقى من ناحية ارتحت منه و من ناحيه تانيه أبقى رجعت فى كلمتى و مافضلش موقف جوازو قصاد جوازك و بالمره تخلص من زنى مش كده؟

ضحك صالح بدون صوت ينظر لوالده مبتسماً وجده يناظره بضحكه ساخره و قال: فاهمك يابن شداد فاهمك..بس ريح نفسك أنا مش هجوز الصغير قبل الكبير ابدا.

زم صالح شفتيه ينظر لوالده ثم تنهد بعمق و قال: طيب يا حاج شكلك كده مش عايز تفرح بحسين .

وقف عن كرسيه يقول بعزم: هقوم أنا أتابع الشغل عشان أخلص و اطلع أريح و اتغدى و ألحق اروح مشوارى. 

هم كى يتحرك فعلياً لكن شداد نادى عليه قائلا: أنت يا واد ،يا واد طب فكر حتى.

هز صالح رأسه بيأس ،والده لا يكل و لا يمل على مايبدو وأخذ يردد لوالده: صلى على النبي فى قلبك يا حاج.

تنهد شداد بيأس ،اصبح خالى اليدين و فاض به الكيل ، لا يعرف كيفية التصرف مع إبنه هذا.

______________________

فى مكان أخر بإحدى البنايات السكنية المجاوره للمعرض.

خرجت سيده فى بداية الخمسين من عمرها تحمل صينيه عليها أكواب من الشاى ترحب بحفاوه بشقيقتها مردده : والله و ليكى وحشه يا قدريه.

وضعت صينية التقديم أمامهما على طاوله متوسطة الحجم و اكملت: بقا يعدى شهر و التانى و لا تقوليش مره أما اروح اتطمن على اختى بنت امى و أبويا.

مدت يدها تحمل إحدى كؤس الشاى تقدمها لشقيقتها مرحبه من جديد: وشك و لا القمر، بقا يفوت شهر فى التانى و لا حدش يشوفك يا قدريه؟

تناولت منها قدريه الشاى مردده: أعمل ايه الدنيا تلاهى، و النبى يا ختى و ما ليكى عليا حلفان مابلحق اقعد و لا اخد نفسى.

صمتت ترتشف بعض القطرات من المشروب الساخن ثم تضعه أمامها مردده تقول بتنهيده متعبه تزم شفتيها: أهو ربك بقا ما أرادش يكونى خلفة بنت .

هزت رأسها بتعب و إرهاق تردد: خلفة الصبيان صعبه اوى ،الا ما بلاقى مره حد يناولنى حاجه ، غيرش هو صالح ساعات لو موجود بيحاول يساعدنى بس هو يا حبيبي مش بيعرف أى حاجة فى شغل البيت و لا الستات.

زمت شفتيها ترفع كوب الشاى ترتشف منه القليل ثم أكملت: مش مصبرنى غير انهم يكبروا و كل واحد فيهم يتجوز و يبقى له واحده مسؤوله عن اكله و شربه و بيته و أنا و الله ما عايزه من مرات و لا واحد فيهم حاجه ،هى بس تشيل عنى بيتها بجوزها ، يتفضل بس انا و شداد و ربنا يعنى بقا.

مالت بضيق تضع كوب الشاى من يدها تكمل : أعمل بس يا فوقيه يا ختى ، ده ولا واحد فيهم راضى ياخد الخطوه، الواد حسين عنده النيه و ممكن يلين ، لكن أقول بقا على شداد الى راسه و ميت يمين ما يجوز الصغير قبل الكبير أبدا.

رفعت فوقيه حاجبها الأيمن تردد باستغراب: حقا ياختى أنا مش عارفه جوزك مصمم على رأيه ده ليه؟ هما بنات ولا بنات.

قدريه : ياختى ده حتى البنات مابقاش حد يعمل معاهم كده.

صمتت بتعب ثم قالت: أنا بس لو الاقى له بت حلوه كده و مدوره تملى دماغه و تميل تفكيره.

فوقيه: صالح طيب و جدع و ابن حلال ،ده غير انه كسيب وقرشه صاحى يعنى يعجب الباشا ، أكيد ربنا شايله بت عسل ،و بكره تقولى فوقيه قالت.

نظرت قدريه لاعلى تبتهل: يارب ياختى يارب.

التفت على صوت مقبض باب إحدى الغرف يفتح بجوارها و تخرج منه فتاه متوسطة الطول و الوزن أيضاً.

بشعر اسود قصير يظهر روعة جيدها الطويل يأخد شكل بيضاوى على وجهها المستدير فيزيد من إبراز استدارته وجماله ، عيونها لوزيه سوداء وجنتيها متسديره ، شفتيها صغيره منتفخه و قوامها مكتنز ممشوق .

تتقدم منهما و هى تتثائب مردده: صباح الخير يا جماعه .

نظرت لقدريه مبتسمه و اكملت: صباح الخير يا خالتو، عاش من شافك ،ده ولا كأننا عايشين فى نفس المنطقة وبينا شارعين بس يا خالتو.

فتحت قدريه ذراعيها و أحضانها لها بحفاوة تدعوها لاحتضانها.
وعلى الفور لبت الفتاه الجميله دعوتها تندس فى احضانها مبتسمه تسمع قدريه و هى تقول: زوزو يا زوزو ،حبيبة خالتو ، كبرنا و اتدورنا و احلوينا على الآخر.

خرجت من أحضانها تضحك مردده: حبيبتى يا خالتو و الله ، بحس انك قريبتى اكتر من امى ،دايما كده رافعه معنوياتى .

نظرت على والدتها تكمل بنزق: مش زى اختك إلى كل شويه تسمعني.

نظرت قدريه لشقيقتها تسأل بلوم : بقا حد يزعل القمر ده يا فوقيه؟!

رفعت فوقيه شفتها العليا بنزق ثم قالت بعدما أصدرت صوت ناتج عن امتصاص شفتيها و رددت بعدما وضعت سبابتها اسفل ذقنها : أمر بالستر يا ختى.

صرخت ابنتها تقول لخالتها و هى تشير على والدتها: شايفه يا خالتو ، ولا كأنى بنت جوزها.

ابتسمت قدريه تشير لها مرحبه بجوارها تقول: لا ماتزعليش يا عزة يا حبيبتى .

التفت لفوقيه تتحدث لها بعتاب : جرى إيه يا فوقيه مضايقه البت ليه؟

تحدثت فوقيه بصوت عالى به بعض العصبيه: مانتى شايفه اهو ،الهانم صاحيه من النوم العصر ، و لسه بتقول يا هادى و تفتح عينها .

أطالت برأسها تنظر على ابنتها بغضب ثم صرخت بها: ده بدل ما تقوم و تصحى تنزل تجيب فطار و تحضره و بعدها تشوف بيتها عايز يتعمل فيه إيه؟ بدل ما تقول اما أقوم أساعد امى الغلبانه دى ولا أشوفها محتاجه مساعده ولا لأ.

زمت عزة شفتيها على جانب واحد تنظر أرضا بحرج ،بينما فوقيه أشاحت النظر عن ابنتها و حولته لشقيقتها تكمل لها بغضب : ده غير العرسان الى زى الفل إلى عماله ترفض فيهم .

مدت يدها فعلى سيرة الزواج و العرسان احتد غضبها أكثر و مالت على شقيقتها التى تحجبها عن ابنتيها تحاول الوصول لها وضربها من شدة الغيظ و هى تقول بصوت عالى : مفكره ايه ،هتتجوز عمر الشريف ياخى.

فلحت محاولاتها فى الوصول لابتها ولكزتها أكثر من مرة من شدة غيظها و عزة تصرخ بها :اااه ااه براحه فى ايه ،هو الجواز بالعافيه ،عايزين تخلصوا منى بأى طريقه ،ااه قولو بقا انكوا مش قادرين على لقمتى ومصاريفى .

رفعت رأسها تقول بعزة نفس واباء زائف : لو كده انا أصلا بدور على شغل مش مستنيه شفقه من حد.

اتسعت أعين قدريه تود الضحك صارخة خصوصاً و هى تجد شقيقتهل تخرج عن شعورها وتقفز من مكانها منتفضه تود نهش لحم ابنتها .

و قدريه تحاول جاهدة الحول بينهما تكتب ضحكاتها و هى تسمع عزة تصرخ بها مستنجده تتعلق بملابسها من ظهرها : امسكيها كويس يا خالتو .

بينما فوقيه تصرخ: شغل ايه يا ام شغل يا فاشله ،يا فاشله، ده انتى مخلصه كليتك بالعافيه بتقدير مقبول ،الا ما فى حاجه فالحه فيها .

كانت قدريه تحاول تهدئتها مردده: خلاص يا فوقيه طيب احسن استهدى بالله ،استهدى بالله.

اقتربت من أذن شقيقتها تردد صارخه فى أذنها : الله أكبر،الله اكبر.

لكن فوقيه كانت ماتزال على موقفها تحاول ضرب عزة ، و عزة تزيد من تشبثها بملابس خالتها : حوشيها عنى يا خالتو، امسكيها كويس.

تقدمت قدريه من شقيقتها تمسح على كتفيها و قالت: خلاص بقا صلى على النبي يا فوقيه .

توقفت فوقيه بعدما نال منها التعب ، و أخذت تتنفس بصعوبه ،صدرها يعلو و يهبط باضطراب ،تقف قليلاً تلتقط أنفاسها ثم تقول و مازال الغضب جلى على ملامحها: اللهم صل عليك يا نبى.

جلست بجوار شقيقتها تحاول الاعتدال في جلستها وتنظيم انفاسها .

بينما قدريه تنظر لابنة شقيقتها و قالت بعتاب: بقا كده؟! كده تزعلوا اختى و تجيبو لها الضغط و السكر.

زمت عزة شفتيها تنظر على والدتها بترقب ثم قالت: و النبى ما حد هيجيلو الضغط و السكر غيرى فى البيت ده.

هدأت الأمور قليلاً و أستطاعت فوقيه أخذ أنفاسها بهدوء و أعادة تنظيمها من جديد .
فتحدثت قدريه: فى ايه فوقيه يا اختى ،كل ده ليه ،هى البت كانت عملت إيه عشان تقومى عليها القومه دى؟

تحدثت فوقيه من بين انفاسها الاهثه التى للان تحاول تنظيمها: مافيش ،سيبك منها

نظرت هلى على ابنتها تقول: انتى يا بت ، قومى اعملى الغدا.

امتعضت ملامح عزة تقول: لأ غدا إيه واكل ايه ،هو انا وش ذلك؟

برقت أعين فوقيه محذره تردد: بتت.

مدت قدريه يدها تقرص عزة من جانبها و تقول من بين اسنانها محذره: يابت بقا لايمى أمورك وقومى شوفى الغدا.

وقفت عزة تدب الأرض بغيظ بينما تتبعها فوقيه بصوتها الحاد: و كمان مش عاجبك يا حلوه يا شملوله ،احمدى ربنا انى هديت ، ده انا عفاريت الدنيا بتتنطط قدام وشى منك .

و على صوت صراخ فوقيه هرولت عزة بكل قوتها للمطبخ تختفى عن انظار والدتها الصارخه.


بعدما اختفت عزة بالداخل و بدأت فوقيه تهدأ شيئا فشيئا تحدثت قدريه بهدوء تسال : جرى إيه فوقيه ،كل الصياح ده ليه ولا عشان إيه ،ايه الى جد لكل ده؟

تنهدت فوقيه تقول: بنت الحماره لسه رافضه أول امبارح زى الفل ، يشرح القلب الحزين ،و لما سألتها رافضه ليه ،قال ايه تقولى ده شورة أمه .

صرخت بصوتها الغاضب تخرج عن شعورها مردده : عرفت هى منين أنه شورة أمه ،كانت بتقرا الغيب و لا بتنجم؟!

جعدت قدريه مابين حاجبيها تسأل: ده حصل امتى ده؟! اخس عليكى ولا تقوليش لأختك؟

التوى ثغر فوقيه تقول بتحسر :اقولك إيه يا حسره ،ده يادوب كان كله كلام فى كلام و انتى ماكنتيش باينه و لا بتيجى ، خالته كلمتنى و قالت نيجى زياره يشوفوا بعض ، و عليها ، عديكى على الحصل .

زمت شفتيها تخبر شقيتها بضيق: هو شافها عجبته ،و كان باين عليه ،الا هى بقا ،تقولك ده ابن أمه ،ده قاعد على الكنبه جنب أمه ،ده ما مدش أيده يشرب العصير إلا لما أمه قالت و خدى بقا من ده كتير.

صمتت قدريه تفكر لثوانى ثم قالت: طب ما البت عندها حق بردو يا ختى .

على صوت فوقيه بغضب و عصبيه تردد: عندها حق فى إيه ،حكمت عليه من موقف و لا مره شافته فيها ،هو إحنا كنا لسه عاشيرناه.

تحدثت قدريه بهدوء و تروى : مانتى عارفه ،احنا ولاد بلد و لينا عادتنا ، بيعدوا الخطوبات على البنات ، و زى ما المثل بيقول ، الجواب بيبان من عنوانه ، إحنا لسه بقا هنقول يا خطوبه و يدخل و يخرج لحد ما نتأكد ؟! طب ما بلاها من الأول الموضوع كله ، هى بنتك بايره ولا وحشه ،ده بسم الله ماشاءالله وشها بدر منور ،الى يتصبح بيه يجيه الخير.

هدأت ملامح فوقيه قليلا بعد حديث شقيقتها فأكملت قدريه تربط على كتفها: استهدى بالله و صلى على النبي ،بكره ربنا هيبعتلها عدلها و هيبقى زينة الشباب و هتقولى اختى قدريه قالت .

تنهدت فوقيه تردد : و نعم بالله يا اختى.

صمتت كل منها ومدت كل واحده يدها تشرب كوب الشاى خاصتها تفكر بصمت دون البوح بما يجول بخاطرهما.

قدريه تفكر انه و لما عريس آخر ما صالح موجود ، وفوقيه تفكر بصمت كأنها تعلم مايدور بخلد شقيقتها عقلها يردد وهل تقدم صالح ورفضته أنا او ابنتى؟

نظرا لبعض و تلاقت اعينهم ، و سريعاً ما تهربت كل واحده من أعين شقيقتها كانهما فهمها على بعض دون حديث.

____________________________

فتحت عيناها بتشوش تنظر حولها ما لبث ان شهقت عاليا برعب تنتصب على تلك الأريكة التى نامت فوقها.

اخذت تقبض على ملابسها والغطاء الذى كانت تتدثر به تنظر حولها بأنفاس لاهسه من شدة الرعب تتطلع على كل ركن .

اليوم الذي قضته كاملاً بالشارع ترك تأثيراً بالغا عليها ، و على ما يبدو أنها لن تستطيع تجاوزه بسهوله على الأقل حاليا.

ابتلعت رمقها بصعوبه تحاول تهدئة جسدها المرتجف تمد يدها تزيح خصله انحدرت على على وجهها تضعها خلف أذنها لتجد انها مازالت تنام بحجابها.

الليله الماضيه كانت صعبه ،افقدتها الامان بكل شيء حولها لا تستطيع الوثوق كثيرا بأحد.

هى ممتنه لذلك الرجل الكبير لما فعله معها من كرم و نبل ،لقد اطعمها و أمن روعها.
كذلك أعطاها بيتا لتعيش به ، و فوق هذا و ذاك أمن لها مكان ،اربعة حوائط تستتر بهم.

لكن المعروف الأكبر و الأقوى ،انه صدقها ،صدقها و لم يشكك بها أو بأخلاقها ،إطلاقا ، لقد فعل ما تمنت ورؤيته و لو لمره واحده من والده.

فقد صدقها غريب لم يراها سوى مره ، و والدها الذى انجبها و تربت أمام عينيه لم يصدق يوما ، بل أيضاً كان يعنفها و يذيقها العذاب ألوان.

وقفت تهندم ثيابها تفكر ماذا ستفعل الآن
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي