الفصل الثالت

(المتسولة الشقراء 3)



لأن في هذا الوقت من الزمن، الذي عرف فيه الناس الرعب و الخوف من الحروب ، كان الجيش مصدر أمن و أمان.

بمجرد ان يراه الناس يتلاشى خوفهم و يتبخر؛ خاصة لو كان جيشا كجيوش العمداء زيوس، الذي لم يخسروا حرباً طوال عقود.


إنطلق الموكب في نفس الطريق، بنفس القوة و الهيبة و الهالة المرعبة المحيطة به ، ليخترق طرقات المدينة كالعادة وتتوقف المدينة بأسرها عن الحركة.

فشرطة الطرقية تمنع مرور السيارات الكلاسيكة، والسكنة اصحاب اللباس العصري، يقفون احتراما لسيدهم الحامي زيوس الخامس.

كان مرور الموكب كالعادة، في نفس المكان و الزمان، يمر عبر شارع الاثرياء الضخم، شارع المحلات التجارية الفخمة، و الماركات العالمية شانيل، لويس فيتون (channel , Louis Vuitton).

حيث تمر النساء بالمعاطف ذات الفراء الأصلية للحيوانات و القبعات الكلاسيكية، بينما رجال الاغنياء يمشون بمعاطف فخمة و قبعات مستديرة برفقة عكاز في ايديهم.

فهو عصر الحروب والازياء والجمال والرجولة، ومع مرور الموكب، توقف الجميع الرجال ينزعون قبعاتهم ينحنون باحترام له والنساء يقفن ينظرن، بينما العازبات ينظرن باحتشام واعجاب لقادة الموكب.

وصل العميد في نفس الوقت ونفس المكان الى إشارة المرور (feu rouge) حيث يتأهب سائقه للوقوف فهو رجل قانون والقانون لا يعلى عليه شيء.

في المقابل وفي أحد جدران هذا الشارع العتييق، وبالضبط في مكان قريب من إشارة المرور، و لأول مرة كانت تتواجد به متسولة، فمن المحظور أنذاك الخلط بين الاثرياء و المتسوليين.

فكانت هي المتسولة الوحيدة هناك جالسة على كرسي متحرك، كانت المسكينة مقعدة وترتجف من شدة برودة المكان، و تلبس قطعاً بالية مرقعة وممزقة، و بياض جسدها به بعض الفحم الاسود، و شعره الاشقر الذهبي مزين بضفائر بسيطة مبعثرة دالة على أنها لم توضب شعرها لأسابيع، وربما ما لأشهر.

كان رأسها مطئطئا من التعب والذل والقهر، فقد كسره الفقر من سنين، و يدها مرفوعة للتسول،

وكن المارات من النساء ينظرن اليها باحتقار، ما الذي تفعله متسولة مثلها هنا.

رفعت عيناها كالبحر الأزرق الصافي الى المارة و فمها مبيض من شدة الجوع، كان يظهر على انها لم تأكل لأيام.

مكتفية بريق فمها لتبلله باستمرار، و السواد تحت عينيها يحكي انعدام نومها وتعبها الشديد، لكن كل هذه الاشياء لم تنقص إنشاً من جمالها الاشقر، كأنها فتاة هاربة من لوحة إغريقية.

كانت تنظر بإستعطاف وخوف أن يكشف امرها هنا او يبلغ عنها أحد، فإما سيلقون بها خارجا او سيقبضون عليها.

لكنها كانت مضطرة للمجيء هنا ففي شوارع الفقراء لم تحصل على قرش واحد طوال الايام الماضية، وكيف ستأكل وتشرب حتى ان معها روحاً أخرى تعيلها.

فها قد خاطرت بالمجيء هنا لتكسب بعض القروش، كانت تحرك عينيها المتعبتين باستمرار في المارة وتكاد تنطق بطلب العون بأنين لطيف.

حتى توقف كل شيء أمامها، كأن الزمن أوقف روحها، وأطلقت صفارة شرطي المرور، فزعت الطفلة الشقراء ضانة انها المقصودة.

لكن لم يكن كذلك فقد كان شرطي بعيدا يتوسط الشارع الضخم ويقدم التحية، حركت عينيها مرة اخرى موسعة إياهم على إثر سماع صوت محرك غريب، محرك مرعب، محرك سيارة، سيارة تعرفها جيدا هي و كل سكان المدينة، سيارة كلاسيكية ضخمة بعلامة النسر الذهبية موضوعة في الأمام.




ماري المقعدة المتسولة تنظر أمامها للسيارة الضخمة التي بطول اربعة أقدام، إنه موكب العميد، تعرف هذا جيداً.

فمنذ مجيئها لهذه المدينة وهي ترى هذا المنظر كل يوم في ارجاء المدينة، لكنها مرتها الأولى التي ترى فيها السيارة أمامها مباشرة، كيف لا وهي في أحياء الفقراء لا يرون إلا مرور الموكب.

بدأت ترمق السيارة بعينيها الجميلتان الزرقاوتان، فرصة من ذهب فرصة النجاة أو الموت، هيا يا ماري لم تضعي لقمة منذ أيام في فمك، لا الفقراء رحموك ولا الاثرياء، إنها فرصتك الذهبية أطلبي من الدولة المساعدة ببضع قروش فقط.

بلعت ماري ريقها و هي تنظر للأمام ولصغر سنها وقلة خبرتها، لم تدرك أن الموكب حتفها وانها لن تصل حتى بمتر واحد قرب السيارة حتى تكون في عداد الاموات.

كل هذا لم تفكر به ماري ، تفكر فقط في معدتها المعتصرة من الجوع، فاندفعت من طيشها بكرسيها المقعد نحو الرصيف، اندفعت بسرعة دون تفكير.


هنا كان توقف الزمن من نوع آخر، فبمجرد اندفاعها للوهلة الأولى، كانت أعينه كالنسر في الظلام خلف قبعته العسكرية، ينظر للدخيل في حضرة محكمته.

فلا أحد يتجرأ على الاقتراب من الموكب و لو بمتر واحد، و لم يكن الوحيد الذي استشعر إقترابها، فالجنود في الخلف بالشاحنات أهبو بندقياتهم الحربية موجهينها نحوها.

و بمجرد أن نزلت من على الرصيف، ينتظرون فقط الأوامر لإرداءها قتيلة، امام أعين المدينة، فبدأو بالحديث في اجهزتهم الاسلكية " ما هي أوامرك يا سيدي العميد بالاطلاق؟"

ولا ننسى دور القادة الذين اخرستهم جرأتها، فما فتئت العقيدة سديم ان حملت مسدساً بسرعة في يدها، متأهبة لحماية سيدها العميد بروحها إهداءها وفداءاً له.

الرائد دانتي في الخلف يحمل الجهاز: سيدي العميد، سيدي؟

ضوضاء، شوشرة، صراخ، كل هذا قابله السيد العميد زيوس بالصمت، لا جواب و لا رد، كان جهازه العسكري الخاص ينبض بصراخهم، لكنه لا يجيب.

كان هادئاً كما الجبال الجليدية، يجلس بعرض اكتافه في السيارة ونصف جسده مظلم، لا يرى إلا شكله الضخم، و هو ينظر للصغيرة المقعدة، التي تتسارع للوصول الى إطار واحد من إطارات سيارته الضخمة.

لم يحرك ساكنا، فبخبرته الطوييلة أدرك أن المقعدة القادمة، لا تقوى على قتل حشرة، و لن تفكر حتى في بطن والدتها على اغتيال موكب العميد.

فعلى الاغلب هي محض متسولة تتجه لحتفها من أجل بضعة قروش فقط.

وصلت ماري الى السائق العسكري ، الذي كان متأهب لها بينما يخفي المسدس، ينتظر إشارة فقط للإطلاق.

كانت السيارة عالية على ماري ، فلا يكاد يرى إلا وجهها المتسول وهي تنظر الى السائق بحواجب الرأفة ويداها الصغيرتان تلمسان السيارة برفق.

ماري: ارجوك سيدي ، انا جائعة جداً و عطشة جداً لم آكل منذ أيام، و لدي نفس أخرى لا تتحرك، و تتنتظر مني الطعام و الدواء ، سنموت جوعاً يا سيدي، ارجوك يا سيدي، إرحم ضعفي يا سيدي، ارجوك .

لم يجب السائق، كان فقط ينظر اليها، ثم استدار منصفا للسيد العميد: سيدي العميد، ما هي أوامرك؟


اتسعت عينا ماري وهي تنظر الى السائق و هو ينظر للوراء، اذاً هي ادركت أن السيد ليس السائق، بل الشخص الذي يجلس في الخلف.

تركت السائق بسرعة وتوجهت للخلف، تركض بكرسيها الوضيع ، حتى وصلت الى نافدته العالية.

لم ترى منه فقط القبعة، ذات شارة النسر الذهبية، والنصف الجاحض من فمه، لا تكترثي ماري بمن هو! وإسرعي بالتسول له، فبدأت تضرب بخطفات قليلة بيديها اللطيفتا على زجاج نافذة السيارة، التي لا يجرؤ احد على الإقتراب منها.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي