الفصل الثاني

الفصل الثاني

مضى ليل طويل حالك كأرواح كبلها الحزن والألم، ليل جفا به النوم أعين أرقها السهاد، قلوب مُزقت بقسوة الأحباء.
أتم "يامن" أناقته بتلك الحلة السوداء، كذلك قميصها الأسود، ناثرًا عطره الفرنسي ببذخ عله يُنعش روحه ويمدها ببعض السعادة المفقودة، والتي حل محلها تعاسة احتلت جميع خلاياه.
غادر  غرفته قاصدًا غرفة صغيره الذي يحيا بين نياط القلب وثناياه، ليلج إليها بمعالم سكنها الحزن والألم، والتي غلفها الكثير والكثير من الثبات، والجمود، ليميل نحوه دامغًا قبلة جامدة فقدت حنوها للمرة الأولى، أو كانت كواجب يومي يقضيه "يامن" فقط، واستدار مغادرًا  بجموده هذا، كما أنه تجاهل ترحيب "هيلدا" وتحيتها له.
بينما غادر  "يامن" منزله مستقلًا سيارته وقد عقد العزم على أن تكون القسوة والجمود دستوره، فقلبه بات قطعة جليد لن تنصهر لأجل أي منهم يومًا ما، حتى ذلك الطفل الذي بات ذنبًا موصومًا به من أقرب الناس إلى قلبه.
التقط  هاتفه قاصدًا أحد الأرقام المسجلة به وكان رقم "سومية" التي جاوبته بلهفة وقلق :
-"يامن" انت فين؟.. بكلمك من إمبارح مش بترد.
بجبين مجعد، ونظرات ثابتة بالطريق أمامه جاوبها  بصوت خالٍ من أي مشاعر :
-ابعتيلي رقم "ميان".
-طب طمنا عليك، انت كويس؟
  هتفت بها "سومية" قبل أن يتجاهلها "يامن" مُنهيًا الاتصال، ومنطلقًا نحو مقصده.
بينما أدنت "سومية" الهاتف أمام أعينها، لترمقه بنظرات حزن، وألم وأسي مرددة بدمعات هاربة:
-إحنا اللي وصلناك للحالة دي يا "يامن".. ياريت تقدر تسامح أخوك في يوم من الأيام.. بس إزاي وأنا اللي مراته عمري ما هقدر أسامحه.
وأرسلت له رقم "ميان" إلكترونيا، وألقت هاتفها أعلى الأريكة وهي تزفر عدة زفرات حارة متتابعة بعلامات غضب قد كست معالم وجهها، لتحرق وقودها الذي ساقها إلى غرفة نومهما فتجده مازال محتلًا مقعده يحرق لُفافات السجائر بشراهة صانعًا دوامات من الدخان شوشت رؤيتها له .
سعال قوي وهي تباعده عنها بيديها مهرولة نحو شرفة الغرفة  لتفتحها على مصرعيها محررة ذلك الدخان الكثيف، لتستدير نحوه صارخة به بغضب جلي :
-أنا من إمبارح ساكتة ومش راضية اتكلم معاك قولت اسيبك يمكن تيجي منك وتنزل تروح لأخوك اللي جرحته وأهانته في بيتك، تطيب خاطره وتعتذر له.... لكن للأسف معملتش أي  حاجة من دي، وقاعد القاعدة دي من إمبارح.
واقتربت منه بهدوء بعدما انقشع الدخان ووضحت لها كامل معالمه هاتفة بغضب أقوى وهي تشير بسبابتها أرضًا :
-عارف انت قاعد بالهدوء ده ليه رغم إن بنتك مش في البيت، ها.. عارف انت ليه حتى ماكلفتش خاطرك وسألت تاني عنها؟.. مارفعتش سماعة تليفون وعملت اتصال واحد بأي حد يجبلك معلومة واحدة عنها..
كان جالسًا بمقعده واضعًا ساق فوق الأخرى، مستندًا بأحد مرفقيه على متكأ المقعد وهو عاقد جبينه الذي زاده اقتضاب بإنصاته إلى كلماتها التي جافته طوال الليل، لتسترسل هي بحديثها صائحة:
-عارف ليه؟..... عشان "يامن" في حياتنا يا "ياسر"... قلبك مطمن عشان عارف إنه عمره ما هيخلي حد يمس منها شعرة واحدة ... مطمن رغم إنك مشوفتهاش، عشان متأكد إنه هيحافظ على بنتك بعمره، في الوقت اللي انت عايرته فيه بأمله إن ابنه يرجع تاني للحياة... كنت عليه أقسى من "صافي" اللي سابته ومشيت، تخيل إن الضربة تيجي منك انت!.... من البني آدم اللي المفروض يكون سنده ويكون ضهره في الحياة، ورغم كل ده، ورغم وجعك ليه لسه محافظ على بنتنا من أنها تتعرض لأي إهانة مباشرة، هو ده الفرق بينكم يا "ياسر"... ده الفرق.
وركضت نحو إحدى حقائب السفر الموضوعة بجوار خزانتها، لتضعها أعلى تختها وتفتحها بغضبها الذي ازداد تأججًا من جموده وتجاهله هذا، وأتت ببعض ثيابها من الخزانة لتضعها في الحقيبة، بينما نفض هنا "ياسر" ساقه وهب من مقعده هاتفًا باستنكار :
-إيه اللي انتِ بتعمليه ده؟!
تجاهلته هي  تمامًا وأكملت جمع ثيابها، ليخطو نحوها مهرولًا، ويقبض على ذراعها بقوة صائحًا بغضب :
  -لما أكلمك تردي عليا، إيه اللي انتِ بتعمليه ده؟
نفضت يده عنها بقوة أعنف بكثير وهي  تصيح به :
-زي ما انت شايف، بلم هدومي ورايحة بيت بابا.
أخرجت الوحش بداخله، ليقبض على ذراعها ثانية بقوة غضبه الثائر، صارخًا بها صرخة أيقظت "يامن" الصغير الذي لم يستسلم لسلطان نومه إلا مع ساعات الفجر الأولى :
-انتِ اتجننتي ولا إيه، خروج من باب البيت مع هيحصل، معندناش ستات تسيب بيتها غير على قبرها، غير كده مفيش.
ارتجف جسد "سومية" قليلًا من هيئته تلك والتي لم تعرفها من قبل، لتستعيد رباطة جأشها وتحدقه بتحدٍ سافر هاتفة:
-وأنا مش هقعد فيها حتى لو وصلت للطـ....
صرخة "يامن" أخرستها، لتستدير نحوه بكامل جسدها، بينما أفلت "ياسر" ذراعها بعدما رمق الفزع والهلع بأعينه، ليركض الصغير نحوها متشبثًا بيدها باستجداءٍ باكٍ:
-ماتقوليهاش يا ماما ارجوكِ، لو بتحبيني أو بتحبي "چوليا" بلاش تقوليها.
بكاءه اعتصر قلبها بقوة، لتجذبه نحو صدرها وتضمه بحنو مربتة على كتفه وهي ترمق والده بسخط حانق، ليتركها هو ويغادر الشقة مهرولًا، بينها هي قبلت رأس صغيرها مرددة بحنان :
-ماتخافش يا حبيبي، ماتخافش.
**********
بغرفة نوم "ميان"، طرقت بابها المفتوح بهدوء وهي تدفع أمامها عربة طعام صغيرة مرددة بابتسامة واسعة :
-تسمحيلي أدخل.
تنهدت "چوليا" بقوة وهي تزيل بقايا عبراتها المعلقة بأهدابها ووجنتيها، لتعتدل بجلستها بالفراش محررة قيود ساقيها التي كانت تضمهما إلى صدرها بقوة، وتحاصرهما بذراعيها طيلة الليل، لتهمس بحشرجة ترافق كلماتها من أثر البكاء :
-اتفضلي.
ولجت "ميان" إلى الغرفة دافعة العربة أمامها حتى جلست بطرف الفراش أمامها والعربة إلى جوارها، لتربت على ساق "چوليا" برفق ومحبة صادقة، مرددة :
  -مش كنا هدينا، إيه اللي جرى تاني؟
رمقتها "چوليا" بنظرات شجن وأسى مرددة :
-كل ما أفتكر إني عملت في نفسي كده ببقى مش قادرة، هوري وشي للناس إزاي؟.. هوري وشي لأصحابي في المدرسة إزاي؟... هوري وشي لـبابي ومامي، و"يامن" إزاي؟... إزاي هقدر أبص في عين عمو "يامن"؟... إزاي هقدر أواجهه؟
مسدت "ميان" على يدها برفق مرددة بابتسامة خفيفة :
-مش يمكن اللي حصل ده خير.
سكنت الدهشة والاستنكار أحداق "چوليا" وهي تهتف متعجبة :
-خير؟!... إيه الخير في إني اتفضح الفضيحة دي؟!
انفرجت ابتسامة "ميان" وهي تردد بيقين :
-خير طبعًا، مش يمكن ده حصل عشان ربنا بيحبك وعايز يديكي تنبيه وإنذار إن الطريق اللي كنتِ ماشية فيه غلط.... تخيلي معايا كده لو ده ما حصلش أصلًا، وكان جالك حد أوهمك مثلًا انك هتشتغلي مذيعة أو أي حاجة قدام كاميرا، كنتي هتعملي إيه؟
هتفت "چوليا" بتسرع وتهور :
-كنت هوافق طبعًا، ده حلم عمري.
زينت تلك الابتسامة الغامضة ثغر "ميان"، لتستطرد حديثها بجدية بعض الشيء:
-شوفتي، مجرد ما اديتك حاجة عايزاها ركزتي فيها وماشوفتيش أي حاجة تانية... ما أخدتيش بالك وأنا بقولك أوهمك، كل اللي أخدتي بالك منه المذيعة، وده بالظبط اللي كان ممكن يحصل معاكِ، حد يقدمك السم على طبق من دهب، كل تركيزك كان هيبقي في بريق الدهب ولمعانه، مش في أي حاجة تانية.
قطبت "چوليا" جبينها باستنكار وهي تضيق عيناها مرددة :
-يعني إيه؟!.. مش فاهمة.
اصطبغت نبرة "ميان" بالجدية التامة وهي تردد :
-يعني لاقدر الله كان ممكن تروحي مكان مع حد اوهمك إنه بيحبك، أو هيوصلك للشهرة اللي بتلهثي وراها، تفوقي تلاقي نفسك فاقدة أهم حاجة عند البنت، وكمان معمول لك فيلم تتشهري بيه بجد.
شهقة قوية غادرت حلق "چوليا" مدوية بالأنحاء وهي تهتف بمعالم كانت للصدمة برهان :
-Oh My God... الحمد لله إن ربنا عمل كده في الوقت ده، لأني كان عندي استعداد أعمل أي حاجة عن أكون مشهورة.
اتسعت ابتسامة "ميان" وهي تلتقط كوب من اللبن لتناوله إليها مرددة :
-نشرب  الأول اللبن ده كده يسند قلبنا، وبعدين نقوم ناخد شاور ونصلي ركعتين شكر لربنا، ونفطر كلنا سوا.
لتجد من تُلقي بجسدها بين ذراعيها بعناق قوي مرددة بعرفان  وامتنان :
-أنا بحبك أوي يا طنط "ميان"، وبشكرك قوي قوي كمان.
حقًا كانت مفاجأة قوية لـ"ميان" أربكتها للحظات، إلا أنها لم تجد نفسها إلا وهي تُعيد كأس الحليب موضعه، وتشدد من احتضانها بقوة مرددة:
-وأنا بحبك جدًا يا قلب طنط "ميان".. أي نعم أنا مصدومة من لقب طنط ده بس عشان عيونك انتِ هعديها المرة دي.
ابتعدت "چوليا" عنها قليلًا وابتسامتها قد أقسمت على اشتياقها لثغرها، مرددة بمشاكسة :
-طب أقولك إيه طيب يا طنط "ميان"؟!
نهضت "ميان" من مجلسها دافعة عربة الفطور أمامها للخارج مرددة بتذمر مصطنع:
-طب مفيش فطار، وكمان مفيش عمو "يامن"، لما يجي هطرده من على الباب.
ركضت "چوليا" هرولة خلف "ميان" تستوقفها وهي تردد بارتباك وتوتر :
-هو عمو جاي بجد؟
استدارت "ميان" بكامل جسدها نحوها، لتلحظ ارتجافة جسدها الذي لمسته بيدها، فرددت بلهفة حقيقة :
-انتِ بترتعشي ليه يا حبيبتي؟!.. عمو "يامن" مش هيعملك حاجة، هو خلاص طلع كل غضبه منك، ومن الموقف ده... ماتخافيش.
اطمئن قلب "چوليا" قليلًا، وزال قلقها هذا، ليحل محله ذلك الخجل وتأنيب الضمير، لتهمس بخفوت :
-مش هقدر أقابله.
التقطت "ميان" يدي "چوليا" بين يديها بحنو ورفق وهي تردد بمودة:
-إحنا قولنا إيه؟...قولنا الحمد لله، يعني رمينا حمولنا كلها عليه، وقادر يحلها ويصرفها كيفما يشاء، لو الكون كله وقف ضدك وربنا بس معاكِ محدش هيقدر يأذيكي، حتى عمو "يامن" اللي إنتِ مكسوفة تشوفيه ده، ربنا مسخره عشان يساعدك، فما ينفعش  نرفض إيد ربنا بعتهلنا... أنا هروح أجهز الفطار مع ماما، وانتِ خودي الشاور بتاعك وحصليني، أنا حطيتلك هدوم نضيفة في الحمام... تعالي معايا.
وأخذت "ميان" بيدها إلى المرحاض، وانحرفت بطريقها إلى المطبخ، لتجد والدتها قد أتمت إعداد الفطور، لتردف بابتسامة واسعة:
-أهي "چوليا" هتفطر معانا أهي يا ست ماما.
تنهدت "ميرڨت" براحة وهي تردد :
-طب الحمد لله  يا بنتي، البنت مقطعة قلبي من إمبارح، ورفضها للأكل والشرب كان مخوفني عليها.
والتقطت بعض الأطباق المعبأة بالأطعمة المختلفة، مكملة حديثها :
-خودي بقا الأطباق دي طلعيها على السفرة بره.
اتسعت ابتسامة "ميان" وهي تميل نحو والدتها بجذعها  دامغة قبلة قوية على وجنتها مرددة بسعادة:
-أنا بحبك قوي يا ماما، ربنا يخليكي ليا ياست الكل.
انفرجت ابتسامة "ميرڨت" وهي تردد بتضرع :
-ويخليكي ليا يا قلب ماما.
بينما تناولت "ميان" الأطباق، لتضعها على المائدة حتى الطبق الأخيرة مرددة بسعادة :
-كده تمام جدًا، العيش بقا ماما تجيبه معاها وهي جايه.
صدح رنين ناقوس الباب، فتنهدت "ميان" بقوة مرددة قبل أن تتجه نحو باب الشقة :
  -ده أكيد "يامن".
أدارت مقبض الباب برفق، وجذبته نحوها لتجده هو بِطلة جامدة، وملامح جادية، لتهمس بابتسامة مضطربة:
-صباح الخير، اتفضل.
تنحت هي جانبًا، فولج هو للداخل ويده مُحملة ببعض أكياس الثياب، وباقة كبيرة من الزهور، وصندوق راقٍ من الحلوى، ليردد بثبات قوي:
-صباح النور، أنا أسف إني جيت في وقت زي ده، بس كان ضروري أشوف "چوليا" واطمن عليها.
أوصدت "ميان" الباب برفق، وهي تشير إلى الداخل بابتسامة خفيفة علها تخفف جديته تلك:
-بيتك ومطرحك في أي وقت، اتفضل ادخل.. ثواني و"چوليا" تكون عندك.
حمحم "يامن" بتردد نجح في وئده وهو يناولها باقة الزهور مرددًا بثباته الذي لم يتجاوزه بعد:
-الورد ده ليكي ، اعتذار عن عصبيتي وزعيقي معاكِ إمبارح.
انفرجت ابتسامة "ميان" بسعادة وهي تتناوله منه هاتفة بفرحة :
-عرفت منين إني بحب التوليب الأبيض، أقولك على سر، أنا  ماكنتش راضية أبص ناحيته عشان بضعف قدامه، وبحسبك جايبه لـ "چوليا".
تركها "يامن" والجًا إلى الداخل بهدوء دون أن يجاوبها بحرف واحد، لتزفر زفرة حانقة، وهي تردد باستنكار :
-ده ماله ده؟!
إلا أنها مطت فمها بلامبالاة وهي ترفع باقتها المفضلة إلى أنفاسها تستنشقها بقوة هامسة بعشق:
-أهم حاجة إن انتِ بتاعتي.
**********
بشقة "مُهاب"، حل عليهم الليل ليلج إلى المنزل بحالته الدائمة، يترنح يمينًا ويسارًا إلا أنه مازال واعيًا لما يدور حوله، ليجد بيته  نظيفا، منظما، ليتسلل إلى مسامعه صوت غناء عذب قادم من ناحية غرفته، فهتف بصوته الجهوري المتحشرج :
-"أفيا، أنتِ يا فتاة.
كانت "أفيا" بالداخل تجلس أرضًا إلى جوار   "چاد" الذي تحسنت حالته الصحية كثيرًا كانت تلهو معه، وتغني له ، فقد بدأ يشعر بالألفة نحوها، وتشعر هي بالحب نحوه، ليتسلل إلى مسامعها صوت "مُهاب" الجهوري الذي انتفض له جسدها بفزع، إلا أنها لابد أن تلبي ندائه هذا ، قبلت رأس "چاد" بحنو وهي تهب واقفة  مرددة بارتباك حاولت أن تفرض سيطرتها عليه :
-سأتي إليك قريبًا صغيري.
واتجهت إلي الخارج لتجده قد ألقى بجسده المنهك على الأريكة، لتهتف بحنق غلفته بثبات قسماتها:
-نعم سيد "مُهاب".
انتصب مُهاب بجذعه جالسًا وهو يرمقها بلامبالاة مرددًا :
-كيف حال الصغير؟
أجابته "أفيا" بابتسامة باهتة :
-بخير، لقد تحسنت حالته الصحية كثيرًا، الأدوية يتناولها بانتظام، والطعام أطعمه إياه كما هو بوصفة الطبيب.
رفع "مُهاب" يده إلى جيب سترته الداخلي، يلتقط ورقة مطوية، وألقاها نحوها بلامبالاة أقوى:
-هذه وثيقة إقامتك القانونية بالبلد.
اتسعت ابتسامة "أفيا"، ودنت منها بجذعها تلتقطها بسعادة مرددة:
-أشكرك سيد "مُهاب، شكرًا جزيلًا.
ألقى "مُهاب" جذعه للخلف ثانية وهو يردد :
-ليس من أجلك، بل من أجل "چاد".. اعتني به جيدًا وإلا سأزج بك بالسجن.
هتفت "أفيا" بسعادة قبل أن تلج إلى الغرفة :
-سأهتم به بأعيني، فقد صار سبب اطمئناني وسعادتي.
وركضت نحوه تجلس إلى جواره ثانية، مُنهالة عليه بوابل من القُبلات الممتنة وهي تردد :
-أحبك صغيري، أحبك "چاد"، فبسببك بت أنعم بالحرية والأمان، صار لدي الجرأة على التسكع في الطرقات بقوة، وثبات ولامبالاة... اليوم ألقيت بخوفي وترقبي بحاوية النفايات...
  وحملته بين ذراعيها، لتنهض به وتدور حول ذاتها صائحة بسعادة :
-سنتجول معًا بكل الطرقات والمتنزهات، سنأكل المثلجات معًا، سنذهب إلى الشاطئ سويًا، فقد أصبحت تميمة حظي "چاد" أحبك كثيرًا يا من أعدت الروح إلى حياتي البائسة.
*******
استخدمت "ميرڨت" كل حيلها وأساليبها لإقناع "يامن" بتناول الفطور معهم، والذي رضخ أخيرًا لإلحاحها، ومشاكستها له طوال فترة الطعام، وثنائها على صوته، ووسامته التي تفوقت على ما أمام عدسات المصورين بكثير، لينهوا جميعًا طعامهم، فنهض "يامن" مرددًا بابتسامة  مُجاملة :
-تسلم إيد حضرتك، الأكل فعلًا حلو
نهضت "ميرڨت" من مقعدها بسعادة توهج لها وجهها وهي تردد بعتاب :
-إنت أكلت حاجة يا ابني، عمومًا المرة دي مش محسوبة أصلًا، انت لازم تيجي يوم مع "ياسر" أخوك و"سومية" مراته نتغذا كلنا سوا، وتدوق أكلي بقا وتقول رأيك.
تجهمت قسمات وجه "يامن" قليلًا ما إن ذُكر اسم شقيقه أمامه، لتستشعر "ميان" ذلك، إلا أنه سرعان ما استعاد ابتسامته ثانية وهو يردد بود :
-إن شاء الله حضرتك.
وطوف وجوه الجميع مستطردًا بتقدير واحترام :
-بعد إذنكم طبعًا، أنا محتاج أتكلم مع "چوليا" شوية.
هتفت "ميان" بتلقائية وهي تُشير نحو غرفة الصالون بابتسامة واسعة :
-طبعًا، اتفضل في الصالون على ما القهوة تجهز.
حرك "يامن" رأسه بنفي وهو يردد بثبات :
-مالوش لزوم، أنا هتكلم معاها كلمتين وهمشي على طول، وبعتذر تاني إني لخبطت حياتكم بوجود "چوليا"، بس هو يوم كمان بالكتير وهترجع بيتها تاني.
خطت "ميرڨت" نحو "چوليا" بخطى واسعة، لتحاوط كتفيها بذراعها مرددة بابتسامة عاتبة :
-هزعل منك لو قولت كده تاني، ده بيتها وهي في عيوننا العمر كله.
اتسعت ابتسامة "چوليا" سعادة، بينما ردد "يامن" بامتنان وعرفان:
-كلام حضرتك ده على راسي، وربنا يجعل دايمًا بيتك مفتوح للكل.
ورمق "چوليا" مستطردًا :
-يلا يا "چوليا"؟
أومأت له برأسها، لتتبعه إلى الغرفة التي أشارت "ميان" نحوها. ولج "يامن"، وولجت "چوليا" خلفه، ليستدير هو مُغلقًا الباب بهدوء ومن ثم خطى نحو أحد المقاعد ليحتله بهدوء مُشيرًا لها بعينه نحو المقعد المجاور له. خطت "چوليا" نحو المقعد بخطى ثقيلة وهي تطأطأ رأسها بخجل لاهية بأناملها التي تفركها ببعضها البعض، جالسةً  بطرف المقعد خفيضة الرأس بخجل شديد، ليميل "يامن" نحوها بجذعه مرددًا بنبرة حانية رغم صرامتها :
-ارفعي راسك فوق، اوعي يوم تحطي راسك في الأرض.
تجمعت العبرات بمقلتيها سريعًا، لترفع رأسها، وتحدقه بأعين زائغة مرددة بندم شديد:
-أنا أسفة، والله أخدت درس عمري، وعمري ماهعمل كده تاني أبدًا، وهمسح كل الاكونتات بتاعتي من السوشيال ميديا، ومش هكلم حد خالص.. بس حضرتك تسامحني ياعمو.
أزال "يامن" دمعاتها الهاربة بطرف سبابته  بحنو مرددًا :
-أنا عارف إنك اتعلمتي الدرس كويس، وإنك هتفكري مليون مرة قبل ما تعملي الحاجة، وده عشان انتِ كويسة من جوه، ومتربية كويس... "ياسر" و "سومية" عرفوا يربوكي يا "چوليا"... أنا جاي انهاردة عشان اطمنك.
ازدردت ريقها بغصة مريرة لخذلانها لأهلها جميعًا، لتردد بترقب قوي :
-تطمني على إيه حضرتك؟
عاد "يامن" بظهره قليلًا للخلف، وهو يسترسل بجدية سكنته:
-البنت صاحبة الأبلكيشن اتقبض عليها، كانت مشغلة بنات كتير زيك كده، يعني كانت شبكة كبيرة قوي، وممولة كمان، والمحامي بتاعنا فضل ورا الموضوع لحد ما بيتحقق معاها دلوقتي، وانتِ اللي أنقذك إنك طفلة، لو احتاجوكِ هيكون في الشهادة، بس ده احتمال ضعيف قوي... والفيديوهات كلها اتحذفت  من على الإنترنت، وأي فيديو هيترفع هيتحذف تلقائي .
دمعات السعادة هي من أغرقت وجنتيها، لتنهض من مقعدها صائحة بفرحة أطربت قلبه :
-يعني أنا مش هدخل السجن؟.
نهض "يامن" من مقعده هو الآخر وهو يردد بابتسامة لأجلها :
-بعيد الشر عنك يا حبيبتي.
ألقت "چوليا" جسدها بين ذراعي عمها محاوطة خصره بذراعيها بقوة وهي تستند برأسها على صدره مرددة بسعادة:
-أنا بحب حضرتك جدًا يا عمو، ربنا يخليك لينا يارب.
مسد "يامن" على خصلاتها برفق مرددًا :
-ويخليكي لينا يا مغلبانا، بس فيه حاجة كمان .
ابتعدت عنه قليلًا وهي تطوف معالمه بنظراتها المرتبكة، ليهتف هو مطمئنًا إياها:
-ماتخافيش، بس لازم تقعدي هنا يوم أو يومين بالكتير عشان الصحفيين اللي قدام البيت، وكمان لحد ما نشوف هيتعمل إيه مع الست دي.
تنهدت "چوليا" براحة، وهي تردد بسعادة :
-أنا موافقة أقعد هنا طول الحياة ، طنط "ميان" طيبة قوي، وطنط "ميرڨت" كمان.. أنا حبيتهم جدًا، دول ماسابونيش طول الليل، وطنط "ميان" قالت لي إن ده خير ربنا عمله عشان يبعد عني شر كبير قوي.
انفرجت ابتسامة "يامن" لكلماتها، ليتنهد براحة مرددًا :
-طب تمام جدًا، أنا همشي دلوقتي وهطمن عليكي تاني.
وغادر الغرفة تتبعه "چوليا"  بسعادة غامرة تحاوطها بهالة من الضوء، ليجدا "ميرڨت" و "ميان"  بانتظارهما بالخارج، فأردف بابتسامة ودودة :
-انا لازم أستأذن دلوقتي، وبعيد شكري لحضرتك "ميرڨت" هانم.
اتسعت ابتسامة "ميرڨت" حينما وجدت حال "چوليا" هذا، لتعود بأنظارها نحوه ثانية وهي تردد :
-شكرك ده مش هقبله غير ماتيجوا كلكم ونتغدا سوا، غير كده لأ.
اتسعت ابتسامة "يامن"  وهو يردد بوعد لها :
-بإذن الله، بعد إذن حضرتك.
  والتفت بأنظاره نحو "ميان" مرددًا :
-ممكن تساعديني أخرج من هنا.
اومأت له "ميان" برأسها وهي تشير بيدها نحو الباب مرددة بترحيب:
-أه طبعًا، اتفضل.
خطى "يامن" نحو الباب مستبقًا "ميان" بخطوة واحدة، ليتوقف تمامًا أمامها متنحيًا قليلًا حتى أدارت هي المقبض وفتحته، ليخطو خطوة أخرى خارجه متوقفًا وهو يردد بثبات قوي :
-شكرًا، هستناكِ بكرة في المكتب عشان نبتدي شغل.
وخطى نحو المصعد متجاهلًا جوابها الذي لم تفصح عنه بعد.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي