الفصل الثالث

الفصل الثالث

مع تسلل أول خيوط الضوء إلى غرفتها بدأت "ميان" تتململ في فراشها براحة كثيرًا ما افتقدها بأيامها السابقة، لتدفع عنها دثارها بنشاط دب بجميع أوصالها، مغادرة الفراش إلى المرحاض وهي تتناول منشفتها الخاصة، بينما كانت والدتها بالمطبخ تُعد طعام الفطور بمساعدة "چوليا" التي تسللت من جوار "ميان" فجرًا مرافقة "ميرڨت" في صلاتها، ومن ثم تجاذبا أطراف الحديث وبعض النوادر من حكايا "ميرڨت" الممتعة.
أنهت "ميان" اغتسالها، واتجهت إلى المطبخ مرددة بابتسامة واسعة أنارت وجهها وأضاءته:
-صباح الجمال يا حلويات.
هتفت "چوليا" بمشاكسة وهي تقطع بعض الخضروات:
-صباح الخير يا طنط "ميان".
ضيقت "ميان" عيناها بسخط وهي تصك أسنانها مرددة من بينهم باستنكار :
-طنط؟ ماشي يا "چوليا، ماشي.
بينما التفتت "ميرڨت" نحوها بابتسامة واسعة وهي تردد :
  -صباح الفل يا حبيبتي، ناموسيتك كحلي يعني.
  - هتفت "ميان" بصدمة وفاهٍ فاغر :
  -كحلي!... والله صحيت أول ما الضوء دخل أوضتي.
وضعت "ميرڨت" ما بيدها، ونهضت من مقعدها متجهة صوب الموقد لتطفئه أسفل  البيض وهي تردد بسخرية خفيفة:
-نور ربنا بيدخل أوضتك الساعة تمانية يا "ميان".
لتهتف "چوليا"  بسعادة بعدما نهضت من مقعدها بحركة مسرحية استعراضية :
-إحنا ناس صاحين من الفجر حضرتك.
حدقتها "ميان" شزرًا بسخط، وهي تهمهم بتذمر واضح :
-ده إيه البنت اللي جايه تاخد "ميرڨت" مني دي؟!
واستطردت بصوت مرتفع نسبيًا وهي ترسم ابتسامة خفيفة بثغرها:
-إنتِ شطورة يا "چولي"، يلا بقا جهزي الفطار على ما أصلي وأجهز وآجي يا قمر.
ركضت "چوليا" نحوها لتحاوط خصرها بذراعيها بقوة محتضنة إياها وهي تردد بسعادة :
-أنا بحبك قوي "ميان".
كم هي فتاة صادقة، عفوية بمشاعرها، تقتحم القلب بلا استئذان أو سابق إنذار، ربما لم تجد من يتفهم مشاعرها هذه يومًا، أو ربما عجزت هي  عن التعبير عنها والبوح بمكنونات صدرها، أو ربما خجلها أعاق بينها وبين هذا البوح، فبعض الأبناء تخجل من التعبير عن حبها لوالديها، وبعضهم يكون عنده بذخ في هذه المشاعر.
شعور لم تشعره "ميان" سوى قرب صغيرها، لتنفرج تلك الابتسامة الصادقة، وتحاوطها أيضًا بذراعيها بقوة ممسدة على ظهرها بحنو أموي هامسةً :
-وأنا بحبك قوي يا "چوليا".. ربنا يحميكِ من كل شر يا قلبي يارب.
لتتمرد تلك العبرات الفرحة من عينا "ميرڨت" وهي تخطو نحوهن بخطاها الواسعة، وتحتضنهن بقوة مرددة بتضرع ورجاء :
-ربنا يحفظكم من كل شر يارب يا بنات.
********
كانت "سومية" تحاول جاهدة مع صغيرها أن  يتناول فطوره رغم ألمها الذي اعتصر قلبها وأدماه، إلا أنه تشبث برفضه وامتناعه عن الطعام حتى يطمئن قلبه على شقيقته، لتردد برجاء :
-طب عشان خاطر "چوليا" يا حبيبي، خُد ساندويش بس، أو حتى كوباية لبن.
حرك "يامن" رأسه بنفي وهو يولي وجهه عنها مرددًا :
-مش هاكل حاجة غير لما اطمن على أختي.
وأعاد وجهه نحوها ثانية يرمقها بنظراته المستجدية ككلماته:
-"چوليا" فين يا ماما؟... والله واحشتني، وعايز أشوفها.
جذبت "سومية" "يامن" إلى أحضانها وهي تمسد على خصلات شعره بحنو مرددة بأسي واشتياق:
-واحشتنا كلنا يا حبيبي، بس متقلقش هي أكيد بخير، عمك عمره ما هيخلي أي مكروه يصيبها... اطمن يا "يامن"... اطمن.
كان عائدًا لتوه من الخارج قاصدًا غرفته المجاورة إلى غرفة صغيره، لتتسلل تلك الكلمات إلى مسامعه، كلمات أشعلت غضبه ومقته، كيف يكون شقيقه هو الحامي والسند لابنته وهو مازال حيًا يرزق؟!.. زفر زفرات نارية، واستدار مغادرًا الشقة، صافعًا الباب خلفه بقوة غاشمة لينتفض جسد "يامن"  بينما تيقنت "سومية" من أنه  تسمع إلي حديثها هذا، فتنهدت بأسى لأجله فهو استسلم بخضوع  لشيطانه الذي يجذبه إلى بحر الظلمات، وربتت على كتف صغيرها مرددة بمرارة سكنت جوفها:
-قوم البس يا "يامن".
ابتعد عنها "يامن" قليلًا  محدقًا إياها بنظرات متسائلة، لتُجيبه مرددة وهي تنهض من مجلسها :
-هنروح نشوف أختك.
هبّ "يامن"  متقافزًا بمكانه وهو يصيح بسعادة غامرة :
-قولي والله.
داعبت "سومية" خصلاته بمشاكسة مرددة بابتسامة رغم بُهتانها إلا أنها بثت الأمل بقلبه :
-والله، على ما أجهز تكون جهزت.
وغادرت نحو غرفتها بخطوات واسعة، بينما ركض "يامن" نحو خزانته.
*********
بأحد النوادي الليلية بولاية نيوچيرسي، كان "مُهاب" يحاوط خصر تلك الفتاة بيده بجرأة وقحة، ليجذبها إلى صدره بقوة، ملتهمًا شفاهها بجموح عنيف، بينما هي تركته يفعل ما يشاء، فخبرته تتجاوز خبرتها بمراحل طويلة، فهي لم تتجاوز التاسعة عشر بعد. ابتعد عنها قليلًا لحاجة رئتيه لبعض الهواء، وهي كذلك، ليُقدم ثانية على استكمال عمله، فيجد يد قوية تجذبها من بين ذراعيه بقوة، وصرخة أقوى بها :
-اذهبي إلى الجحيم يا فتاة.
التقطها رجال ذلك الرجل الذي يشبه إلى حد كبير رجال العصابات الدولية بمعطفه الأسود الجلدي اللامع، وبنيانه الضخم، ومعالمه الحادة بأنفه المعقوف، وحاجبيه الكثيفين، وشاربه الكثيف أيضًا، واستطرد محدقًا بـ "مُهاب":
-أخبروني أنك الأفضل في مجالك، أتمنى ذلك وإلا سأقتلع عنقك، واُلقيها لـ"زاكس" يلهو بها كما يشاء.
ازدرد "مُهاب" ريقه بارتباك وهو يحك عنقه بهلع سكن أحداقه، مغمغمًا بتوتر :
-من "زاكس" هذا؟
أشار الرجل بسبابته لرجاله التي أطاعته على الفور وبدأت بإخلاء النادي تمامًا، ليسحب هو أحد المقاعد ويحتله بكبرياء وشموخ مرددًا بتعالٍ :
-صديقي الوفي، والذي لم أجد بين البشر واحدًا بخصاله، فالكلاب أوفى بكثير من أمثالكم.
التفت "مُهاب" بأنظار زائغة نحو رجال هذا الرجل، لتنفرج ابتسامة جانبية متهكمة منه بعدما علم مقصده، وردد بسخرية كبيرة :
-يعلمون مصيرهم جيدًا، فلا يتجرأ  أحدهم على مجرد التفكير بخيانتي.
وأماء له برأسه نحو المقعد المقابل له  مطبقًا شفتيه بقوة، ليجلس "مُهاب" مسرعًا خشية أن ينال عقابه وهو يحمحم بتلعثم اخرسه هذا الرجل الذي تفوه صارمًا :
-"كيڨين سميث" رجل مافيا أمريكي، متزوج بـ "ميشيل سميث" مساعدتي وشريكتي بالأعمال على الأقل حتى الآن فهي تود الانفصال عني كليا، وعلمت أنك من يتولى قضيتها.
ازدرد "مُهاب" لعابه بهلع شديد، ليهتف  بلا تردد :
-سأرفض القضية سيدي، وأُحيلها إلى محام آخر.
صفع "كيڨين" سطح الطاولة بيده بقوة صارخًا بجميع معالمه التي تجعدت بوحشية قبل لسانه:
-غبي، سأُعيد الكرة ثانية.
انتفض جسد "مُهاب" بقوة وهو يتمسك بطرف مقعده، مغمغمًا بذعر :
-اوامرك سيدي.
استرخى "كيڨين" بمقعده، ليركض إليه أحد رجاله واضعًا سيجاره الكوبي المشتعل بين سبابته ووسطاه بخنوع شديد، وتقهقر إلى الخلف مصطفًا إلى جوار زملائه، بينما وضع "كيڨين" سيجاره بين شفتيه الغليظة ساحبًا منه نفسًا عميقًا، ليخرجه دوامات من الأدخنة بوجه "مُهاب" الذي جاهد السعال كثيرًا، إلا أنه تمرد عليه أخيرًا وبدأ يتعالى بالأنحاء. حدقه بغموض حتى هدأ سعاله، وردد بصوت رخيم ثابت:
-ستبقى كما أنت محاميها الخاص، تتسلم منها جميع الأوراق القانونية التي تثبت شراكتها لي.. توهمها أنك معها للرمق الأخير، وبيوم المحكمة....
وأشار "كيڨين" بيده إلى أعلى صعودًا كحركة صعود الطائرة، ليهتف "مُهاب" مستنكرًا :
-هذه خيانة للقسم.
تعالت ضحكات "كيڨين" الساخرة وهو يلتفت نحو رجاله مشيرًا بيده المحتضنة للسيجار نحو "مُهاب" هاتفًا بتقطع من إثر ضحكاته:
-خيانة  للقسم..
واستدار نحوه بغتته، ليصيح به بحدة صارمة:
أي قسم هذا يا رجل؟!... الرجل سكير مثلك قسم؟!... أم لرجل يضاجع البغايا مثلك كل ليلة  قسم! .. أنا أعلم عنك الكثير، فلا تتحاذق معي، وجهتك خاطئة.
وهب من مقعده مستطردًا بتحذير صاحب سبابته المُشهرة نحوه :
-ستفعل كل ما أمرتك به، وهذا لا أكترث له، فأنفاسك معدودة من رجالي.
وغادر "كيڨين" النادي مُحاطًا برجاله، بينما تنفس "مُهاب" الصعداء وهو يلتقط كأس من الخمر تجرعه دفعة واحدة، ومن ثم أنزله أرضًا وهو يغمغم بغضب قد آن أوانه:
-أنا يتعمل فيا كده؟
وألقى كأسه بطول ذراعه ليصطدم بالحائط، وتطاير متناثرًا بأنحاء المكان.
*******
الثالثة مساءًا بمكتب "يامن"، كان يتابع آخر تطورات قضية "چوليا"  هاتفيًا مع المحامي، لتتعالى دقات هادئة ببابه، تبعها ولوج أحد مساعديه والذي أخبره بابتسامة خفيفة :
-أستاذة "ميان العشري" عايزة تقابل حضرتك.
أشار له "يامن" بيده أن يسمح لها بالولوج، بينما هو ردد بجدية محادثًا المحامي :
-تمام، أنا هكلمك بعد ما تخلص، ولو فيه أي جديد ياريت تبلغني على طول.
وأنهى "يامن" اتصاله بينما ولجت "ميان" بجدية احتلت قسماتها وهي تردد :
-مساء الخير، أتمنى ما كونش اتأخرت.
نهض  "يامن" من مجلسه برقى في معاملة الأنثى مرددًا بتهذيب  :
-مساء النور، هو فعلا حضرتك اتأخرتِ، بس أنا كمان كنت مشغول جدًا..
وأشار نحو أحد المقاعد الأمامية لشاشة حاسوب كبيرة نوعًا ما أعلى طاولة كبيرة أيضًا وهو يستدير حول مكتبه منضمًا إليها مرددًا  بعملية:
-اتفضلي.. اتأخرنا كتير على الشغل.
أومأت له "ميان" برأسها وهي تتجه نحو المقعد جاذبة إياه للخلف تحتله بعملية جادة مرددة بجدية  :
-أوك.. أولًا محتاجة اسمع الأغاني كلها وبعدين نقرر خطة العمل إيه.
جذب "يامن" هو الآخر مقعده محتلًا إياه بهدوء وهو يضغط زر تشغيل الحاسوب مرددًا بعملية جادة هو الآخر :
-أتمنى تكون أفكارك برة الصندوق، لأني ما بحبش التكرار ولا التقليد.
صبت "ميان" كامل اهتمامها على الشاشة أمامها وهي تُجيبه بثناء مبطن :
-ده أنا لاحظته فعلًا لما راجعت كل ألبوماتك السابقة، دايمًا فيه ابتكار في نوع المزيكا اللي بتعملها، وكمان لاحظت إنك بتدعم كاتب شاب أو اتنين في كل ألبوم ليك.
التفت "يامن" نحوها بنظرات إعجاب لم يفلح في إخفائه، لترمقه هي بطرف عينها مرددة بزهو :
-معنى نظرتك دي إني قدرت أحلل طريقة شغلك كويس؟
استدار "يامن" بمقعده الدوار حتى أصبح مواجهًا لها، ليتكئ بذقنه على يده التي تكأها هي مخدع المقعد مرددًا بثبات قوي شابه بعض الزهو والتعالي:
- أثبتيلي إني كنت صح يوم ما اختارتك عشان نشتغل سوا.
-ماتصدرش أحكام مسبقة، استني شوف شغلي وبعدين اتباهى باختيارك.
  قالتها وهي تلتقط هاتفها بجدية فاتحة مفكرته تدون بعض الملحوظات على هذه الأغنية التي بدأت تصدح بأنحاء الغرفة.
بينما استدار "يامن" بمقعده بضيق دفين نجح في إخماده، ليراقب الشاشة هو الآخر مردفًا بتعالٍ رافق كلماته :
-دايمًا أحكامي المسبقة دي بتكون صح مليون في المية.
وأزاح بعض الوريقات بأطراف أنامله أعلى الطاولة حتى توقف أمامها مرددًا بجدية :
-دي Story Board للكليب اللي عايز أصوره.
أبعدتها "ميان"  عنها وهي تُزيحها نحوه ثانية دون الالتفات إليه مرددة بحزم صارم :
-حضرتك عملت شغلك وخلصته، اللي جاي ده كله شغلي.. ياريت تساعدني إني انجزه بأفضل شكل.
اشتعل فتيل الغضب بأحشاء "يامن" وهبت نيرانه على معالم وجهه التي امتعضت جميعها حتى أنه كاد أن يهب من مقعده صائحًا بها، لتوقفه كلماتها العملية التي أثنت على ذكائه في الاختيار :
-مختار تراكات موسيقية مميزة، ولازم يتشغل عليها صح.. الألبوم ده هيكون خطوة مهمة جدًا في مسيرتك الفنية.
استقر "يامن" بمقعده وهو يتنهد بهدوء متمتمًا :
-اهدى، ده شغلها وهي شاطرة فيه فعلًا ، اهدى.
قطبت "ميان" جبينها باستنكار مرددة بدهشة:
-أفندم.
انفرجت بثغر "يامن" ابتسامة مزيفة وهو يحرك رأسه بلامبالاة مرددًا :
-أبدًا، ياريت نكمل شغلنا.
أومأت له "ميان" برأسها وهي تدون آخر ملحوظة لها بتلك الأغنية مرددة بلامبالاة :
-أوك.
*******
بمطعم أحد الفنادق النيلية، جلس "ياسر" ينفث نيران غضبه مع أدخنة سيجارته التي  تناغمت مع أدخنة باقي العملاء بهذا القسم الخاص بالمدخنين وهو يرتشف قهوته السادسة حتى ولجت "صافي"  بهيئتها المنمقة دائمًا وهي ترسم على وجهها ابتسامة ظفر مرددة بسعادة:
-مصدقتش نفسي لما اتصلت بيا.
أشار "ياسر" نحو المقعد المقابل له مرددًا بحدة :
-اقعدي خليني أقول الكلمتين اللي جاي عشانهم.
جذبت "صافي" مقعدها واحتلته مستنكرة  حالته هذه وهي تضع حقيبة يدها الصغيرة على الطاولة أمامها مرددة بجدية :
-خير.
أشار "ياسر" بيده إلى النادل الذي أتاه مسرعًا، ليردد الأول بجدية:
-اتنين قهوة مظبوط.
أومأ النادل برأسه وغادر، بينما زفر "ياسر"
عدة زفرات حارة ارتبك لها جسد "صافي"، ليردد هو بثبات:
-هقولك  اللي تعمليه بالظبط عشان ترجعي لـ "يامن".
اتسعت ابتسامة "صافي" والتي سرعان ما تلاشت تدريجيًا حينما رمقت نظرات "ياسر" الغامضة والتي فكت طلاسمها سريعًا، لتهتف بترقب حذر :
-والمقابل؟
-نص ثروته.
هتف بها "ياسر" بحقد نجح في غزل خيوطه بقسمات وجهه.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي