الفصل الرابع

الفصل الرابع


صدح ناقوس الباب بشقة "ميرڨت" والتي هتفت بصوت مرتفع نسبيًا وهي تضع اللمسات النهائية لرسمتها التي انغمست في وضع خطوطها وتلوينها أكثر من ثلاثة ساعات:
-شوفي مين يا "چوچو".
ولجت "چوليا" إليها حاملة صينية صغيرة بها فنجان من القهوة وهي تردد باهتمام وتركيز قوي في الصورة النهائية :
-اشربي القهوة دي الأول بس عشان تكملي إبداعك القمر  ده، وأنا هشوف مين وأجيلك هوا.
تناولت "ميرڨت" منها فنجان القهوة وهي تردد بسعادة غامرة :
-جه في وقته بالظبط.
ليصدح الناقوس ثانية، وتهتف "چوليا" بحنق خفيف وهي تركض نحو الباب :
-جاية أهو.
وأدارت مقبضه جاذبة الباب نحوها بسخط، لتجد شقيقها يدفع بكامل جسده إليها مشددًا من احتضانها بصدمة ألجمتها، ليهتف الأول باشتياق باكٍ :
-وحشتيني يا  "چولي".
كانت تلك هي المواجهة الأولى لها مع شقيقها ووالدتها التي كانت تراقب المشهد بثبات قوي، فلم تُبد أية ردة فعل حتى الآن، لتشدد "چوليا" من احتضان شقيقها وأحداقها مُعلقة بأعين والدتها التي ولجت إلى الداخل حينما رمقت "ميرڨت" قادمة إليهم مرددة بحفاوة وترحاب :
-"سومية"!.. أهلًا بيكِ يا حبيبتي، اتفضلي.
لم تشعر "سومية" بجسدها إلا وهو يشدد من احتضان "ميرڨت" وتلك العبرات اللعينة قد آن أوان تمردها بسيل جارف اخترق أنسجة كنزة "ميرڨت" التي ربتت على ظهر "سومية" بحنو مرددة بيقين :
-كله هيعدي على خير يا بنتي.. أكتر من كده وعدى.. ربك خالق الوجود ومسيره برحمته وفضله، وعمره ما هيضرك في بنتك أبدًا.
تنهدت "سومية" بقوة مرددة بحشرجة من أثر البكاء :
-يارب يا طنط "ميرڨت".. يارب.
وسيطرت على كامل خلاياها  كما سيطرتها على عبراتها تلك بزفرة قوية وهي تبتعد عن "ميرڨت" قليلًا مرددة بشكر وعرفان :
-مهما قولت مش هقدر أشكرك ولا أوفيكِ حقك ، وجميلك ده فوق راسي طول العمر ، حضرتك ماتعرفيش اتصالك إمبارح ردلي روحي إزاي.
حاوطت "ميرڨت" وجه "سومية" بكفيها بودٍ حانٍ مرددة :
-ربنا يعلم بمقدار حبك اللي اتزرع في قلبي من أول ما شوفتك. إنتِ  خلاص بقيتي عندي زي "ميان" بالظبط، و"چوليا" دي حفيدتي.
وحادت بأنظارها عنها رامقة "يامن" الذي يرمقهما بخجل وهو يتشبث بيد شقيقته، مستطردة بابتسامة واسعة :
- وكمان "يامن"  حفيدي زيه زي "چاد" بالظبط.
وأشارت له بيدها أن يأتيها، ليرمق والدته بتردد والتي أومأت له بأن نعم، ليخطو نحوها بخجل مصافحًا إياها وهو يردد بخفوت :
-إزي حضرتك يا تيتة.
داعبت "ميرڨت" خصلات "يامن" بمشاكسة مرددة
-إزيك يا قلب تيتة..
ورفعت أنظارها نحو "چوليا" المرتبكة مرددة بابتسامة خفيفة :
-اقفلي الباب يا "چوچو"، واعملي قهوة لـماما زي ما علمتك.
أومأت "چوليا" برأسها مرددة بخفوت :
-حاضر.
وأوصدت الباب بهدوء، ومن ثم ركضت نحو المطبخ وتبعها "يامن" بتسلل مستغلًا ولوج "ميرڨت" و "سومية" إلى غرفة الصالون.
********
بمكتب "يامن"، أنهت "ميان" تدوين آخر ملحوظاتها لتتنهد براحة وهي تستدير بمقعدها قليلًا حتى أصبحت في مواجهة مع "يامن" الذي ظل يراقب جديتها ومهارتها في عملها بإعجاب شديد نجح في إخفائه خلف نظراته الجامدة والذي ردد بثبات قوي :
-خلصتي؟
أومأت "ميان" برأسها قليلًا وهي تردد بابتسامة إعجاب واضحة :
-خلصت.. وحقيقي شغلك رائع، ومختلف.
وده بقا هيخليني أشتغل على الخطة البديلة.
ضيق "يامن" عيناه بدهشة وهو يردد متسائلًا:
-وإيه هي  الخطة البديلة؟
استرخت "ميان" بمقعدها قليلًا وهي تردد باسترسال موضحة خطة عملها القادمة :
-حضرتك لما بلغتني برغبتك في الشغل معايا عشان نصور ڨيديو كليب شوفت شغلك اللي فات كله، ما أقدرش أنكر إنه شغل احترافي ونجح جدًا كمان، بس دايمًا كنت بحس فيه حاجة ناقصة.. عشان كده حطيت plan B  ودي اللي هنشتغل عليها دلوقتي، ده طبعًا لو اديتني التمام لأنها هتحتاج إنتاج ضخم.
تابع "يامن" حديثها باهتمام قوي، وإعجاب أقوى بطريقة استعدادها للعمل، ليردد بهدوء :
-اتفضلي اشرحي خطتك، لو عجبتني نشتغل عليها حتى لو هدفع فيها نص ثروتي.
تنهدت "ميان" براحة أكبر وهي تلتقط هاتفها مستعرضة أهم النقاط التي دونتها مرددة بجدية:
-المميز في الألبوم ده إنه منفصل متصل ومترابط.
اعتدل  "يامن" بجلسته عاقدًا ساعديه أعلى صدره بتركيز قوي، لتسترسل هي بحديثها بإيضاح :
-عادي جدًا إن يتصور منه كل أغنية  على حده على طريقة الفيديو كليب ، لكن الإبداع والتميز  إننا نعمله مسلسل متصل عبارة عن  عشر حلقات،  بس ده هيحتاج  مننا شوية ترتيب للأغاني، وده أنا عملته فعلًا، وفعلًا  كملت بعضها بشكل بديع، الأغاني الموجودة بتمثل حياتنا وتقلباتها ما بين فرح وحزن، حب وكره، نجاح وفشل، يعني حياة إنسان كاملة بكل أحداثها.. وده بالظبط اللي هنشتغل عليه، بس بطريقة تخليك ملك كل العصور.
حديثها هذا لاقى كامل إعجاب "يامن" الذي عقد جبينه مرددًا بتساؤل مندهش :
-ملك كل العصور؟!
أومأت له برأسها مرددة بتأكيد :
-بالظبط كده.. اديني يوم واحد بس  وتكون الفكرة كاملة عندك.
استدار "يامن" بمقعده نحو شاشة الحاسوب، وهو يضغط زر إعادة تشغيل أغنياته ثانية مرددًا بثبات :
-ميعادنا بكرا زي دلوقتي.
أومأت له "ميان" بموافقة وهي تجمع متعلقاتها الخاصة ناهضة من مقعدها بحماس وعزيمة لما هو آت، واتجهت مغادرة المكتب لتصطدم بتلك السيدة التي قد نجهل  معالمها للوهلة الأولى فانكسارها وضعفها وشحوب وجهها الذي تلون بتلك الهالات السوداء التي تحاوط عيناها الذابلة أبدل معالمها أخفاها، لتردد بوهن شديد بعدما كادت أن تسقط أرضًا :
-أسفة.
تشبثت "ميان" بذراعيها بقوة في محاولة للحيل بينها وبين سقوطها الحتمي وهي تردد بأسي نادم لأجلها:
-انا اللي أسفة، كنت خارجة مندفعة.
استدار "يامن" بمقعده لاستكشاف تلك الهمهمات خلفه، لتشتعل نيران غضبه وتندلع ثورتها حينما صفع سطح الطاولة أمامه بيده وهو يهب من مقعده صارخًا بها بقوة:
-انتِ إيه اللي جابك هنا تاني
ارتجف جسد "صافي" بقوة بين يدي "ميان" وانهمرت عبراتها أنهارًا متدفقة وهي تغمغم بفزع جلي:
-أسفة، بس والله هموت وأشوف ابني
أشهر "يامن" سبابته في وجهها بغضب جامح وهو يأكل المسافة الفاصلة بينهما بخطوات قليلة هاتفًا بها بتحذير صارم:
-وقلتلك مليون مرة مالكيش ابن.
ألقت بجسدها أرضًا تحت أقدامه، وانهالت على حذائه بقبلات متوسلة وهي تردد بتذلل منكسر:
-أبوس رجلك تخليني أشوف ابني، أبوس رجلك.
كانت "ميان" تراقب  هذا المشهد بأسى وألم نخر روحها المشتاقة، فقد باتت ترى نفسها بهذا الموضع تحت أقدام "مُهاب" لتنهمر دمعاتها بغزارة وتتعالى شهقاتها تدريجيًا حتى انتفض جسدها بقوة من إثر تلك الركلة التي ركلها "يامن" لـ "صافي" ليبعدها عنه صارخًا بلامبالاة:
-دموع التماسيح دي معدتش بتأثر فيّا.
اصطدم جسد "صافي" بأقدام "ميان" التي اندلعت ثورتها إليه، لتخطو نحوه دافعة إياه للخلف بكلا يدها صارخة به :
-انت كده شايف نفسك راجل؟.. إنك تستقوى على ست ضعيفة تبقى كده راجل؟.. إنك تحرمها من أبسط حقوقها إنها تضم ابنها لحضنها وتشم ريحته تبقى كده راجل؟..
دفعات متتالية من يدها لصدره بقوة تحت نظراته الذاهلة والتي كانت تضج بصرخات عجز جوفه عن تحريرها، بينما هي أكملت اتهاماتها المستنكرة بصراخ قوي ونحيب أقوى أصابه بالدهشة والاستنكار:
-ليه بتستقووا علينا؟!  ها.. ليه ايدكم دايمًا سابقة لسانكوا ؟!.. ليه دايمًا  مُطالبين إننا نرضى بالذل والإهانة دي؟.. ليه بعد ما نديكم قلبنا ونخلص في حبنا تخونوا، وتكسروا، وتذلوا... ها.. ليه؟... ليه نتحرم من أغلى حاجة في حياتنا والسبب غروركوا وقذارتكوا... رد عليا.
نظرات نارية تطاير لهيبها من أحداقه، صرخات قلبه المدوية أسفل يدها تدفعها بعيدًا، أنفاسه المحتقنة بنيران الصدمة تُصهر خلاياه، لينفث أخيرًا كل هذا وهو يقبض على معصميها بيده بقوة، معتصرًا إياهما بلاوعي قبل أن يدفعها نحو "صافي" بكامل قوته ويهرول مغادرًا غير مكترث بصرختها المتألمة.
*******
بأحد المقاهي العامة بولاية نيوچيرسي، كان "مُهاب" يجلس أمامها بارتباك جاهد كثيرًا لوئد معالمه وهو يتجرع زجاجة من الجعة الباردة والتي ضاعفت من رجفته فأصبحت واضحة للعيان، لتسترخي هي بمقعدها واضعة ساق فوق الأخرى كاشفة عن خنجرها الذهبي المغمد حول فخذها النحيف كنحافة باقي جسدها، لتتسع  أحداقه صدمة وهو يسعل بقوة طاردًا رذاذ ذلك المشروب الذي اقتحم حنجرته. ناولته تلك الحسناء ذات الشعر البني الطويل، والبشرة الحنطية المزينة بقليل من النمش حول أعينها البنية، وأنفها المدبب، منشفة ورقية وهي تردد مستنكرة :
-هدئ من روعك عزيزي.
تناول "مُهاب" منها المنشفة وبدأ يجفف بقايا المشروب من حول فمه مرددًا بتلعثم واضح؛
-شـ.. شكرًا جزيلًا سيدة "ميشيل".
مالت بجذعها نحو الطاولة وهي ترفع يدها نحو فمه ممسدة شفته السفلية بطرف إبهامها بأنوثة مفعمة، ليرتجف كامل جسده ويهب من مقعده ساكبًا ما تبقى من مشروب على بنطاله، لتتعالي ضحكاتها الساخرة وهي تردد مستنكرة :
-ما بك يارجل؟!. فأنا اُزيل بقايا المشروب العالقة بفمك.
بدأ "مُهاب" ينفض بقايا المشروب عن  بنطاله بارتباك جلي وهو يردد بارتجافة قوية:
-لاعليكِ سيدتي، أنا بخير، ائذني لي بالرحيل.
هبت "ميشيل" بشكل فجائي وعلامات السخط قد تملكت منها، لتقبض على تلابيب قميصه بيدها وتجذبه نحوها هاتفة به باستنكار :
-ارتباكك هذا يُثير شكوكِ التي وإن تأكدت سأدق عنقك حينها.
ازدرد "مُهاب" ريقه بتوتر قوي وهو يحمحم محاولًا فرض سيطرته على زمام الأمور حتى وإن كان بالكذب:
-أنتِ سيدة مثيرة للحد الأقصى يصعب معك السيطرة على النفس، كما أنك تمتلكين زوجًا لو لمح مني مجرد نظرة إعجاب نحوك لدفنني بأرضي، فأي ثبات هذا الذي يجب أن أتحلى به؟!
ضيقت "ميشيل" عيناها قليلًا بتفكير سريع، لتمط فمها بلامبالاة محررة تلابيبه وهي تربت على كتفه برقة مرددة بسخرية فظة:
-يبدو أنك صيت فقط  يا رجل، وحكايا النسوة عنك كلمات تذهب أدراج الرياح بأروقة نيوچيرسي، أو أنك تختار فتيات حديثة العهد.
ألقت جملتها الأخيرة وهي تغلق إحدى عيناها بمكر شديد، ليهتف هو بهدوء جاهد لتحلى به :
-أفضلهن غير متمرسات.
وزفر زفرة حارة أتبعها بكلمات جادية قبل أن يرحل :
-أوراق القضية اكتملت، والجلسة على وشك تحديد موعد عاجل لها، أراكِ غدًا بمكتبي ومعك كل المستندات والأوراق الخاصة بملكيتك لنصف ثروة زوجك.. سلام.
شردت "ميشيل" قليلًا بالفضاء أمامها، لتتنهد بقوة ملتقطة حقيبة يدها قاصدة سيارتها المدججة برجالها الأشداء.
********
بمكتب "يامن"، كانت "ميان" تحاوط كتفي "صافي" بذراعها، ممسدة على يدها المرتجفة بيدها الأخرى في محاولة منها لتهدئة روعها، وبث بعض الأمان والاطمئنان لقلبها المعذب لفراق صغيرها وهي تردد بود حانٍ:
-اهدي لو سمحتي، إن شاء الله هتشوفي ابنك وتتطمني عليه.. أنا حاسة بيكِ، وحاسة بوجعك ده لأني عيشته ولسه بعيشه.
رمقتها "صافي" بنظرات متوسلة وهي تُزيل بقايا عبراتها المتشبعة بها وجنتيها مرددة باستجداء:
-أرجوكِ تساعديني، أنا لو مشفتش ابني هموت، ساعديني.
حركت "ميان" رأسها باستفهام فضحته عيناها وهي تردد :
-طب أنا بإيدي إيه اعمله، وأنا مش هتأخر.
ازدرت "صافي"  ريقها بتوتر قوي وهي تردد بضعف شديد:
-تساعديني  أقابل "يامن" تاني بس يكون أهدا من كده ، انتِ متعرفيش إحنا كنا بنحب بعض إزاي، وإزاي ماكناش بنقدر نبعد عن بعض، بس هو من بعد اللي حصل لـ "آدم"  اتغير، بقا إنسان عصبي، سريع الغضب، وبقا بيمد ايده عليا زي ما شوفتي كده..
كانت تراقب انفعالات وجهه "ميان" المتألمة بانتصار دفين، لتستطرد بنبرة أكثر تأثر وألم :
-أنا عارفه إنه بيعمل كل ده عشان مايضعفش قدامي، ومتأكدة إننا لو اتكلمنا بهدوء مع بعض هيرجعلي "يامن" اللي حبيته، "يامن" اللي كان كل همه في الحياة إزاي يسعدني ويعبر لي عن حبه، "يامن" اللي كنت انا وابنه كل حياته، بمساعدتك دي هترحمي قلب أم، وهتنقذي طفل من حرمانه من حضن أمه.
تمردت عبرات "ميان" بغزارة أقسمت على ألمها لأجل تلك الـ"صافي"، لتردد بكلمات أغرقتها عبراتها في بحر من الأسى :
-قوليلي أقدر أعمل  إيه.  
انفرجت ابتسامة خفيفة بثغر "صافي" التي  أردفت بمكر شديد :
-هقولك.
مضى يومان هادئان نسبيًا ما بين تجهيزات "ميان" وعملها على خطتها لإخراج العمل بشكل إبداعي محترف، وتواصل "صافي" المتكرر معها لتهيئة عقلها وزرع بذور خطتها الشيطانية به، وبين عودة "چوليا" إلى منزلها وإخلاء طرفها تمامًا من القضية دون الحاجة إلى الوصول إلى أقسام الشرطة من الأساس فهي مازالت طفلة صغيرة تلهو بتلك التطبيقات الإلكترونية، كذلك عودة "ياسر" الصامت أغلب الوقت، والمُقيم بغرفته إلا من تلك المرة الوحيدة التي غادر بها المنزل، ورفضه التام لمواجهة "يامن" بتلك المرحلة، كذلك مواجهة "سومية" التي تتلاشى التواجد معه بذات  الغرفة أو الاقتراب من محيط وجوده ، وبين غضب "يامن" من تلك الحمقاء التي انقادت خلف ممثلة بارعة تلهو بأوتار ضعفها وسذاجتها، وبين مرافقته لصغيره أغلب الوقت والتي قد استقرت حالته الصحية نسبيًا.
*******
بغرفة "آدم"، كان "يامن" يتأمل معالم وجهه التي التهمها قناع الأكسجين بأعين ترقرق بها دمع الاشتياق والأسى لحال هذا الصغير الذي بات يلتهمه الفراش يومًا فيومًا، فقد أصبح وزنه لا يتراوح العشر كيلوجرامات وبات أكثر شحوبًا وذبولًا، ورغم كل هذا فلديه قوة تشبث بالحياة تتخطى حسابات العقل والمنطق، ليتنهد "يامن" بقوة مُحكمًا سيطرته على دمعاته تلك وهو يردد بانكسار مُوجع :
-أنا عارف إني ممكن أكون أناني في حبي ليك، بس ده غصب عني والله يا ابني، مش متخيل حياتي من غيرك، ولا هقدر أخد نفسي من غيرك.. أنا لما رجعت لشغلي كان عشانك، وعشان أقدر أوفرلك كل حاجة تحتاجها في المرحلة دي... مش متخيل إني أدخل الأوضة دي وألاقيها فاضية .. طب وقتها أحكي همومي ومشاكلي لمين؟.. أقول لمين إني قد إيه زعلان من "ياسر" اللي قِسي عليا قوي، اللي كنت دايمًا بجري عليه وأسامح في حقي عشان أصالحه، لكن المرة دي غير، ده حقك انت وده اللي مش هسامح فيه طول عمري.. طب ليه هو   ما اتنازلش مرة واحدة في حياته وجه يعتذرلي ويصالحني، وقتها والله كنت هصفى وأكلمه.... بس هو الظاهر عشان اتعود مني إني دايمًا باجي على نفسي وأصالحه حتى لو غلطان، إن ده بقا حق مكتسب ليه.. بُعده عني وجعني قوي رغم أي حاجة عملها أوبيعملها.
وزفر "يامن" زفرات حارة متواصلة حاول بها إجلاء تلك الغصة التي استوطنت حلقه، إلا أن الفشل كان حليفه وتضاعفت مرارة هذه الغصة فتمردت لأجلها دمعاته المتحجرة وهو يردد بوجع يدمي القلب :
-تفتكر هما صح يا "آدم"؟.. تفتكر أنا متعلق بأمل كداب وإنك ميـ...
وأطبق أجفانه بقوة رافضًا لفظ تلك الكلمة التي تنخر روحه وتُحرقها، ليستطرد مُكملًا ومازال مطبق العينين :
-أنا لو أناني في طلبي من ربنا إنه يشفيك و يحفظك ليا وتفضل جنبي... أنا والله هبطل أدعيها.. وهدعي ربنا انه يريحك من وجعك ده بأي شكل كان، حتى لو كان فيه وجعي وكسرتي..
ورفع أعينه نحو السماء تضرعًا بالدعاء :
-ربي دبرلي فأنا لا أحسن التدبير.
ونهض من مقعده، مائلًا بجذعه نحو صغيره، دامغًا قبلة حانية مودعة على جبينه وهو يردد بيقين :
-استودعتك الله الذي لا تضيع ودائعه... أنا هسافر كام يوم  يا حبيبي، لأول مرة هبعد عنك فترة متواصلة زي دي ، مش عارف هشوفك تاني ولا لأ، بس بحاول أأقلم  نفسي على الفراق اللي أنا والله ما هقدر اتحمله.
وانتصب بوقفته متنهدًا بقوة وهو يُزيل عبراته الحارقة، ليضغط الزر الجانبي للتخت مستدعيًا " هيلدا" التي أتته على الفور مرددًا بهدوء :
-نعم سيدي.
تنهد "يامن" بهدوء متجلدًا بقناع الثبات والقوة وهو يستدير نحوها مرددًا :
-أنا هسافر كام يوم ، هكون على  اتصال  بيكِ دايمًا لو فيه أي حاجة تبلغيني على طول وهكون  عندك مسافة الطريق.
أومأت "هيلدا" برأسها وهو تردد بابتسامة خفيفة :
-صاحبتك السلامة سيدي.
**********
بغرفة "ميان"، كان تُغلق حقيبة سفرها بحماس شديد نضح على وجهها فأشعله سعادة ، لتهبطها من أعلى الفراش أرضًا جاذبة مقبضها جارة إياها خلفها وهي تلتقط حقيبة يدها وهاتفها الذي تأكدت من إتمام شحنه، لتلج والدتها إلى الغرفة بسعادة غامرة وهي تحمل بين يديها صندوق بلاستيكي متوسط الحجم ومعبأ ببعض المأكولات والمشروبات هاتفة بحماسة قوية:
-دي سندوتشات وعصاير تكفيكم طول الطريق، ولما توصلوا هناك بقا ابقوا كلوا في الفندق بقا.
انفرجت ابتسامة "ميان" وهي تشير نحو الصندوق مرددة بدهشة حقيقية :
سندوتشات إيه دي يا ماما اللي عايزانى أخدها معايا!
بتباهٍ اتسعت ابتسامة "ميرڨت"، وبفخر هتفت وهي تحصي الأنواع على أصابع يدها:
-مربى مشمش، مربى جزر، جبنة رومي، جبنه فلامنك، لانشون...
قاطعتها "ميان" بصدمة وهي تتعلق بيدها لتنكسها أسفل مرددة :
-إيه ده كله يا ماما؟!.. إحنا لو طالعين رحلة مش هتدينا كل ده!..وبعدين الطيارة فيها أكل ، والموضوع كله نص ساعة أو أكتر حاجة بسيطة يعني.
رفعت "ميرڨت" يد "ميان"  لأعلى ووضعت الصندوق براحتها مرددة بحدة مصطنعة :
-الأكل ده كله يخلص قبل ماتوصلوا سيوة، كمان الشغل بتاعك عايزاه ياخد جوايز زي الفيلم، يعني لازم تركزي وتطلعي حاجة محترمة تليق باسم "ميان العشري".. فاهمة.
حركت "ميان" رأسها لأسفل بجدية وأعادته موضعه بنفس الجدية مرددة بثبات عسكري:
-أوامر سيادتك يافندم.
ولانت قسماتها لتقترب من رأس والدتها مُقبلة إياه بود كبير مرددة :
-ادعيلي ياماما.
حاوطت "ميرڨت" وجه ابنتها براحتيها بحنو ضج بأحداقها وهي تردد بعطف وتضرع:
-ربنا يجعلك في كل خطوة سلامة  يا بنتي، ويعلي شأنك، ويجبر خاطرك، ويرضيكي ويرضى عنك قادر كريم.
احتضنت "ميان" والدتها بقوة مستنشقة عبقها الآمن وهي تردد بسعادة :
-ربنا يخليكِ ليا ياست الكل، ويخليلي دعواتك الحلوة دي.
وابتعدت عنها قليلًا مرددة بابتسامة واسعة :
-لازم امشي دلوقتي "يامن" هيعدي ياخدني بالعربية عشان نكمل ترتيبات الشغل مع بعض.
وضمت صندوق الطعام إلى صدرها جاذبة حقيبة سفرها وغادرت المنزل وسط تلويحات يد "ميرڨت" ودعواتها التي دائمًا ما تُغدقها بها.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي