عودي ياليالي

Sara_Mousa1`بقلم

  • الأعمال الأصلية

    النوع
  • 2022-08-02ضع على الرف
  • 62.8K

    إكتمل التحديث (كلمات)
تم إنتاج هذا الكتاب وتوزيعه إلكترونياً بواسطة أدب كوكب
حقوق النشر محفوظة، يجب التحقيق من عدم التعدي.

الفصل الأول رحيل مبكر

١-رحيل مبكر

يوم الأحد الموافق الخامس والعشرون من أكتوبر عام 2015- محافظة القاهرة- مدينة الشروق

علت أصوات البكاء والانتحاب في الشقة منذ يوم أمس.. بعد أن فارقهم القلب الطيب، الوجه البشوش، ذو السيرة الحسنة، المهندس "محمود الأسمر" الذي سيفتقده كل الناس.. كل معارفه وأقرابه وجيرانه وأصدقائه...أهل المدينة جميعا سيفتقدونه وسيودعون جثمانه ويدفنونه وكأنهم يقبضون بأصابعهم على النار..

في صالة استقبال الضيوف في الشقة وفي أحد الأركان المنعزلة كانت تجلس "لمياء المصري" أخت زوجة الفقيد وحولها مجموعة من النساء.. كانت تبكي بحرقة فقد كان الراحل بمثابة أخ كبير لها، وصديق داعم منذ أن تزوجته أختها..

في الجهة الأخرى من الصالة "لمار المصري" الأخت الصغرى لزوجة الفقيد كانت تجلس بالقرب من الباب.. حتى تفتح لأي شخص يأتي، وقد ظهر الحزن بوضوح على ملامحها الجميلة وارتوت عينيها بالدموع الغزيرة..
أما عن زوجة الفقيد المدعوة "ليالي المصري" في هذا الوقت تجلس في غرفتها.. فقد أبت أن تخرج لاستقبال الضيوف القادمين لتقديم التعازي والمواساة.. فضّلت أن تبقى في غرفتها هي وابنها ذو الأربعة سنوات المدعو "أدهم محمود الأسمر"..

أخذت أمها تطرق عليها الباب مصرة أن تخرج للناس ولكنها أبت.. كان الباب مغلق بإحكام بالمفتاح.. وكانت هي تجلس في هدوء.. لم تكن تبكي حتى لا يتأثر طفلها، وكلما سألها الطفل عن مكان والده لا تستطيع الاجابة فتسكت تارة وتخبره بأنه سافر تارة.. على كلٍ هي كانت موقنة أنه سيأتي اليوم الذي يفهم فيه الطفل ما حدث لأبيه، وذات يوم ستخبره بأنه ذهب بلا رجعة، وأنه سافر إلى عالم الأموات.. إلى تحت التراب.. إلى حيث يغدو رفاتا...



كانت ليالي تبلغ من العمر خمسة وعشرون عاما.. وقد تزوجت من المهندس محمود منذ مدة خمسة سنوات.. ونتج عن زواجهما هذا الطفل فقط.. تزوجا بعد قصة حب طويلة لمس فيها العشق قلبيهما بأصابع نارية مفعمة بالحياة.. ولكن مع بالغ الأسف.. يشاء القدر أن يرحل عنها وعن ابنه رحيلا مبكرا..

تجاهلت ليالي طرقات أمها على الباب، وتأكدت من أن ابنها قد ذهب في النوم أخيرا، وقامت لتنظر إلى شكلها في المرآة.. أكثر شيء تخاف عليه هو جمالها.. تكاد تكون تخشى أن تفقد جمالها ورونقها أكثر من أن تفقد أحد عزيز عليها.. نظرت إلى نفسها، وأمعنت النظر أكثر..فوجدت أنها شحبت كثيرا خلال الأربعة وعشرين ساعة الماضية.. بعد ان مات زوجها موت مفاجئ.. نظرت إلى وجهها القمحي الشاحب.. وعينيها العسليتين الجميلتين اللذين كستهما حمرة البكاء.. ووجهها النحيف الذي نحف أكثر خلال الساعات القليلة الماضية..نظرت إلى شعرها الأشقر الذي أهملته في الأيام الماضية بالفعل لكثرة متطلبات المنزل، وعدم قدرتها على التوفيق بين العمل والبيت وزوجها... وفي نفس الوقت شعرت بحرقة تأنيب الضمير.. فقد كثرت المشكلات بينها وبين زوجها الراحل في الآونة الأخيرة.. بعد أن كان تفاهمهما وعشقهما يضرب به الأمثال..

علت أصوات طرقات الباب من جديد.. ثم صرخت أمها قائلة:
ليالي! افتحي الباب وإلا سوف أكسره.. أليس لديك أذنين؟ افتحي الباب الآن!

قررت أن تفتح ليالي الباب خيرا.. ولكن ليس طاعة لأمر والدتها، بل خوفا من أن يستيقظ أدهم الذي نام للتو بعد عناء.. فتحت أخيرا الباب وقالت بمنتهى الهدوء والثبات: ماذا تريدين يا أمي.. لا أريد أن أقابل أحدا.. لقد مات زوجي.. وبكيت بما يكفي.. لا أريد أن أرى أحدا يبكي فأتأثر وأبكي مرة أخرى.. ألا يشعر بمعاناتي أحد قط؟ هذه هي طريقتي في الحزن.. أريد الانعزال.. لا أطيق رؤية أي شخص الآن.. أرجوكِ تفهمي هذا..



نظرت إليها والدتها باستنكار.. ولم ترد عليها.. فتركتها ومضت نحو الصالة الخارجية لتجلس مع الناس وتستقبل القادمين منهم.. وهي تعلم في قرارة نفسها ان ابنتها لم تتأثر بالشكل الذي يجعلها لا تريد مقابلة الناس.. كانت متعجبة ومرتابة بشكل كبير من تصرفات ليالي ؛ فهي تعلم أن في الفترة الأخيرة قد خُلقت الكثير من المشاكل التي بدأت منذ أكثر من سنة بين "ليالي" وزوجها، حتى أنها أرادت الطلاق في الكثير من المرات التي شبت بينهما مشاكل كبيرة، وتركت شقتها فترات طويلة وذهبت لتمكث في شقة والدها، ولكن هذا ليس مبررا يجعلها لا تحزن عليه بعد موته بالطبع..



والدة ليالي سيدة تبلغ من العمر ثمانية وأربعين عاما.. اسمها" نجاة الراعي" ممتلئة الجسم قليلا، ووجهها ممتلئ أيضا، بشرتها قمحية وعينيها لونهما أخضر فاتح، شعرها أشقر وملامحها بشوشة.. ولكن ليس اليوم.. فقد اكتست ملامحها بالحزن بحيث يظن الذي يراها أنها أبدا لم تكن سعيدة يوما.. بدا وجهها واجما مغطى بالأسي وكسرة القلب كما يغطي الغبار البيوت القديمة، اما عن زوج نجاة ووالد ليالي فاسمه الأستاذ "ممدوح المصري"، وهو يعمل مدرس تاريخ بإحدى المدارس الحكومية في المدينة، ويبلغ من العمر خمسين عاما.. الأستاذ ممدوح طويل وله بشرة سمراء اللون، شعره أسود وعيناه بنيتين صغيريتين، وله لحية خفيفة وشارب.. كان يجلس في غرفة الضيوف بعيون تأسرها الهموم، وبجانبه صديقيه المقربين، واللذين هما أيضا من معارف المهندس الراحل.



ليالي هي أكبر أخواتها..فلديها أختين.. الثانية التي تليها مباشرة اسمها "لمياء" تبلغ من العمر اثنان وعشرون عاما.. وهي مخطوبة لزميلها الذي كان يدرس معها في نفس الجامعة.. لم تكن تشبهها كثيرا.. فقد ورثت عن والدتها امتلاء الوجه والجسد، وعن أبيها سمار البشرة وسواد الشعر، وأخذت لون العينين البني من والدها.. أما عن الأخت الصغرى فهي "لمار" وكانت تبلغ من العمر ثمانية عشر عاما.. وكانت تشبه ليالي كثيرا.. في الشكل والشخصية.

بعد أن غادرت نجاة غرفة ابنتها العنيدة ليالي.. ذهبت لتعتذر لزملائها وأقاربها الذين أتوا لتقديم الواجب.. وقالت لهم ان حالتها النفسية لا تسمح لها برؤية أحد، وأنها حاولت معها كثيرا فلم تستطع أن تقنعها بمغادرة الغرفة، بالاضافة إلى إسناد بعض من حججها إلى ابنها الصغير النائم، والذي من الواجب عليها أن تبقى بجانبه.






عادت الأم لتجلس مع بنتيها لمياء ولمار في الصالة الخارجية مع الناس.. في وسط جو كئيب مليء بالبكاء والتعازي وكلمات المواساة.
وبينما كانت ليالي في الغرفة.. رن هاتفها المحمول.. فأسرعت للرد عليه.. لقد كان هاتف عمل.. ربما المتصل لا يعلم بعد بالمصيبة التي حدثت لها.. كانت ليالي تعمل كمصممة أزياء في إحدى شركات الملابس الصغيرة، ولكنها منذ فترة قدمت على وظيفة أخرى واجرت مقابلة في شركة كبيرة مقرها محافظة الاسكندرية، والان ذلك المتصل يتصل من الشركة، لم يكن الرقم مسجلا على هاتفها بعد.. ردت "ليالي" بسرعة وكأنها كانت تنتظر المكالمة فعلا، او كانت تتوقعها بمعنى أصح.. التقطت الهاتف غير آبهة بالأحداث الجارية وردت بسرعة:
أهلا.. من على الخط؟

قال المتصل: أنا حازم سعيد من شركة (أنتِ أنيقة).. أحب أن أبشرك بأنك قبلتِ في الوظيفة التي قدمتِ عليها منذ فترة، عندما أتيت وأجريت معنا المقابلة.. تهانينا لكِ.. سنرسل لك كافة التفاصيل على البريد الالكتروني الذي قمت بتزويده لنا من قبل.. نتمنى لكِ كل التوفيق..

انتهت المكالمة وهبت ليالي قافزة من مكانها في فَرٍحة متناسية كل الأحداث الجارية، غير قادرة على تأجيل فرحتها أو حتى إخفائها، في هذه الأحيان استيقظ ابنها مفزوعا.. اقتربت منه ليالي واحتضنه قائلة:
ستحقق أمك أحلامها ياعزيزي..

أجاب الطفل في براءة: ماما.. هل عاد بابا؟

حينها انقلبت ملامح ليالي وتبدلت من فرح إلى ارتياب وقلق وحيرة؛ فهي لا تعرف كيف تجيب على هذا السؤال..
عاود الطفل السؤال مرة أخرى: أمي.. أنت سعيدة لأن أبي أتى من السفر صحيح؟ أين هو؟
أجابت ليالي مرتابة: لا يا عزيزي، ليس بعد.. سيأتي في وقت قريب ولكن عليك ألا تتعجل قدومه.. لأنه أخبرني أنه سيشتري لك ألعاب كثيرة وسيأخذك إلى مدينة الملاهي إذا أحسنت التصرف مع ماما، وإذا تعاملت كطفل جميل مهذب.. وإذا توقفت عن كثرة الأسئلة هذه..
ثم علت نبرة صوتها قليلا وكأنها تهدده: عليك ألا تكثر في طرح الأسئلة حتى يستطيع أبوك أن يوفي بوعده لك.. أفهمت؟
أومأ الطفل برأسه موافقا على كلمات أمه، خاضعا لأسلوبها معه..
ثم عادت إلى مرآتها وحاولت أن تهندم شكلها حتى تظهر بصورة جيدة.. حاولت أن تتأثر من جديد ليعود الحزن لملامحها حتى يتسنى لها الخروج أمام الضيوف، وحتى لا يشك أحد بأنها غير حزينة على زوجها.. فلو رآها أحدهم وهي تبتسم وتقفز فرحا بعد أن عرفت بخبر قبولها بالوظيفة.. لن يصدق أن الذي مات منذ حوالي اربعة وعشرين ساعة فقط.. هو زوجها..
بدأت تمثل أمام المرآة وكأن علامات الحزن تظهر على وجهها من جديد، في قرارة نفسها هي حزينة على فراق زوجها ولكنها موقنة أنها تستطيع التجاوز.. بكل سهولة وبكل سرعة.. ليس جحودا ولكن إيمانا منها بأن هناك العديد من الفرص التي قد يمكن أن تفوتها وهي منهمكة في حزنها وانتحابها..

ثم قررت أخيرا ان تترك الغرفة وتخرج لمقابلة الضيوف..


يتبع.....
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي