الفصل الثالث وهم أم حقيقة؟

٣- وهم أم حقيقة؟

ارتعبت ليالي وأمها بعد سماع ما قاله الطفل، وأسرعا جريا إلى غرفته.. وكان الطفل يمشي بخطوات متباطئة من ورائهما خوفا من ردة فعلهما وعلامات الفزع التي رآها على وجهيهما؛ فهو لا يعلم لماذا يكون من المخيف أن يعود أبوه إلى المنزل ويجلس في غرفته.. هو لا زال لا يعرف حتى معنى الرحيل الأبدي.. الموضوع سيصعب شرحه له بالتأكيد.

وصل ثلاثتهم إلى الغرفة ومن ورائهم أدهم.. نظرت إليه امه واقتربت منه قليلا.. ثم حملته ونظرت إليه في حنان قائلة:

-حبيبي أترى؟ لقد كان حلما.. مجرد حلم سريع، أبوك ليس هنا كيف سيأتي ويدخل الغرفة دون ان نراه أو يراه أحدٌ من الضيوف؟

أجاب الطفل وقد بدأت علامات الامتعاض تظهر على وجهه:
- لم يكن حلما! لقد أتاني أبي هنا وأخبرني ألا أقلق، وأن كل شيء سيكون على ما يرام..

ثم أمعن الطفل النظر ناحية النافذة وقال لوالدته:
-النافذة مفتوحة الآن! لم تكن مفتوحة قبل أن أترك الغرفة ولم أفتحها..
ثم بدأت أنفاس الطفل تتسارع في خوف وهو يتشبث بأمه وقال لها:

-أمي هل يمكن أن يكون أبي قد قفز من النافذة؟ هل يمكن أن يصاب أو يتأذى؟ أرجوك يا أمي هيا ننزل إلى الأسفل ونبحث عنه..
لم تجب ليالي ونظرت إلى والدتها في صمت تام..
بدأ الفتى يبكي ويقول:
-لقد قفز أبي من النافذة صحيح؟ هيا بنا ننزل لنجده ونذهب به إلى المستشفى أرجوك ياماما!
في هذه اللحظة بدأت ليالي تفقد أعصابها وصرخت بوجه الطفل:
- أدهم! كفاك بلاهة! لم يقفز أحدا من النافذة ولم يأتي أبوك أصلا.. كف عن البكاء وإلا لن أشتري لك شيئا، ولن آخذك إلى مدينة الملاهي.
قال الفتى وهو يمسح دموعه متحديا:
-بابا سيشتري لي وسيأخذني.

ثم أنزلته ليالي من بين ذراعيها فأسرع الطفل وتشبث بجدته فحملته وقال لها:
-جدتي.. أريد أن أرى أبي، هل يمكنك أن تأخذيني إليه؟ أرجوك يا جدتي هيا بنا، سأحسن التصرف وسأكون ولدا مهذبا، أنا واثق بأن بابا يشتاق إليّ أيضا! هيا بنا لنذهب..

لم تتمالك الجدة نجاة أعصابها، وخانتها دموعها فانهمرت كالسيل على خديها، ولم تجب الطفل.. وفي نفس الوقت كانت ليالي تبكي أيضا..




في هذه اللحظة قررت ليالي أن تبوح بالحقيقة للطفل الذي يبلغ من العمر فقط أربعة سنوات! وبدون أي مقدمات وجهت كلماتها القاسية إلى ابنها ونظرت في عينيه قائلة:
-لن يعود أبوك يا أدهم.. لن يعود أبدا..
استشاطت والدتها غصبا وقالت صارخة في وجهها:
-اصمتي يا ليالي اصمتي أيتها المجنونة ماذا تقولين؟
نظر الطفل إلى جدته متسائلا ودموعه تسيل دون ارادته: جدتي.. ألن يعود أبي فعلا؟

لم تجب الجدة واخذت الطفل وجلست على سريره ثم أشارت إلى ليالي قائلة:
- اخرجي من هنا اذهبي إلى أحلامك وطموحاتك، واتركي الطفل وشأنه.. هو أفضل بدونك.. وكما قلت لكِ.. ستكونين أنت السبب في هدم العلاقة بينكما.. هيا اذهبي..

لم تعلق ليالي على كلمات والدتها وكانت في هذه الأثناء تنظر إلى طفلها الذي كان يحدق بها بشكل غريب، وكأنه يرى شيئا لا يراه أحد..
ثم فجأة قال الطفل محدثا أمه وهو يؤشر باصبعه ناحيتها:- ماما! إنه هناك..

سرى الرعب في جسد ليالي بالكامل، وقالت مستفسرة:
-من هو ياعزيزي؟ وأين؟

ابتسم الطفل وهو ينظر إلى جانب أمه الأيسر ويلوح بيده:
- إنه بابا، مرحبا بابا لقد اشتقت لك..

صرخت ليالي رعبا وانتفضت ذعرا وابتعدت عن البقعة التي كان ينظر إليها أدهم، بينما ترك الطفل جدته وأسرع نحو المكان الذي كان ينظر إليه، ثم فجأة تبدلت ابتسامته إلى نظرة ملؤها خيبة الأمل وقال لأمه:
-لقد كان هنا أقسم لك، وكان يبتسم لي ويضع يده على كتفك الأيسر ثم قبّلكِ على خدكِ الأيسر واختفى.. ولكن يا أمي لقد كان شكله غريبا، كانت عيناه لونهما أحمر وكأنه كان يبكي..

حينها فقدت ليالي النطق، لم تعرف ماذا تقول، أخذت تتسائل في نفسها هل ياترى الطفل يرى شيئا فعلا؟ أيعقل ان الذي رآه هو شبح زوجها الميت! أم أن الطفل أصبح مضطربا نفسيا مثل أمه، لابد وأنه قد أصيب بهلاوس بصرية!

في نفس الوقت كانت الجدة تنظر إلى الطفل وقد اتسعت عيناها في دهشة ممزوجة بالرعب.. اقتربت منه قليلا قائلة في تودد:
-أدهم حبيبي، مهجة قلب الجدة.. تعال يا حبيبي وأخبرني بالضبط.. عندما كنت نائم بماذا حلمت؟

أجاب الطفل:
- لم أحلم بشيء، لم أكن أحلم عندما رأيت أبي، لقد كان هنا بعدما استيقظت، وكان هنا منذ قليل ولكنه اختفى.. لماذا اختفى يا جدتي؟
لم تستطع الجدة الرد أيضا من فرط الدهشة، وظنت أن هنالك خطب ما في الطفل، ربما بالفعل أصيب بشيء، ربما سوف يكون من لضروري عرضه على طبيب النفسي! تماما مثل أمه التي أصيبت باضطراب نفسي منذ ثلاثة سنوات.. ظنت الجدة أنه قد ورث هذا عن أمه..

كان الرعب يملأ قلب ليالي أيضا.. قلب الأم! ولكنها قررت ان تخفي هذا عن امها حتى لا تعيد الكرة وتتهمها بالجنون مرة ثانية، ثم تتهمها بأنها ورّثت هذا المرض لابنها، هذا هو طبع أمها..من الممكن أن تتهمها بأي شيء حتى ولو لم يكن لها ذنب فيه، وهذه المعاملة بالطبع هي أحد أسباب تمرد ليالي وكونها أنانية ولا تهتم إلا بنفسها.

لم تتكلم نجاة بكلمة واحدة ولم تعلق على ماحدث، ولم تنظر إلى ليالي أصلا.. وقررت ان تساعد أدهم على النوم من جديد.. وبعد قليل نام الطفل بالفعل، وكانت ليالي في هذه الأثناء قد خرجت لتجلس مع الناس.. ولكن في ركن بعيد هادئ لا يوجد فيه أي شخص، حتى لا تسمع أي كلمة تقال عنها فتنفعل وتخلق شجارا، وحتى لا يكلمها أحد..







بعد أن سافر أدهم إلى نوم عميق بمساعدة جدته، قامت الجدة وذهبت إلى ليالي القابعة في ركن مظلم في الصالة، سحبتها من ذراعها دون أن تنطق بكلمة، وأرغمتها على الدخول إلى غرفتها لكي يتحدثا.. كانت ليالي في هذه الأحيان لا تعبر ملامحها عن أي شيء.. لم تكن غاضبة، لم تكن معترضة على إجبار والدتها لها على الخوض في نقاش.. لم تنم تعبيرات وجهها ولم تدل على شيء.. كانت مستسلمة ومنتظرة فقط للاستماع إلى كلمات والدتها..

أغلقت نجاة الباب وبدأت بالكلام قائلة:

-أدهم لا بد أن يُعرض على طبيب نفسي في أسرع وقت.. أنا خائفة عليه.
عقدت ليالي حاجبيها وأظهرت الامتعاض أخيرا فقالت:

أدهم ليس بمجنون، لقد كان يحلم فقط.. أنت تعلمين أن الأطفال يختلقون قصص من أدمغتهم، ولعله كان يدعي بأنه يرى أبيه لأنه أراد ذلك، أو ليجبرنا على أن نأخذه إليه كما كان يطلب.. الولد بخير، لا تبالغي في ردة فعلك.. لا توهمي الطفل أنه مجنون..لا تفعلي معه كما فعلت معي، أنت مصرة على رأيك بأنني مجنونة وأنا لست كذلك، لقد كنت أمر ببعض الاكتئاب والمشاكل النفسية، لم أكن مجنونة أبدا.. ولا في يوم واحد من أيام حياتي.. لو كنتُ مجنونة لما كنت ناجحة في عملي، ولما كنت منتجة ومفكرة ولما أتيت بابتكارات جديدة وبناءة أبدا في حياتي، الكل يشكر في أدائي لعملي و...
لم تكمل كلماتها فقاطعتها والدتها قائلة بنبرة يشوبها الضيق والاستنكار:

توقفي.. الحياة ليست كلها عمل، النجاح يشمل أمورا كثيرة ونواحي عديدة من نواحي الحياة..إذا كنت لا تستطيعين أن تعتني بابنك وتهتمي به فهذا يصنع منك إمرأة مجنونة ومهووسة بالعمل، وأنانية لا تحب أحدا سوى نفسها، وأم عديمة الانسانية ولا تستحق لقب الأم لأنها تفضل نفسها على ولدها..

في هذا الوقت غضبت ليالي وقالت مدافعة عن نفسها:
- انصتي يا أمي، ليس من حقك أن تتحدثي معي بهذه الطريقة وتتهميني بهذه الاتهامات، لقد مات زوجي للتو وهذه هي كلمات المواساة التي تقدمينها لي! كل كلامك عبارة عن أنت مجنونة انت أنانية أنت لا تحبين إلا نفسك! ليس من المفترض أن أستمع إلا هذه الكلمات منك في اليوم التالي لوفاة زوجي، أنت لا تعرفين شيئا عن إحساسي، أنا أحاول إلهاء نفسي بفرصة العمل تلك، ليس لأنني غير حزينة أو متأثرة بموت زوجي، وليس لأنني لا أًصلح ان أحمل لقب أم.. أنا حزينة وقلبي يحترق.. هذا الذي فارقني ليس فقط زوجي.. لقد كان حبيبي وصديقي وكل شيء لي.. حتى لو شبت المشاكل بيننا، حتى لو طلبت منه الطلاق مرارا، فهذا لا يعني أنني لا أحبه.. كل هذه اللحظات كانت وساوس شيطانية وذهبت لحالها.. وأنت تعرفين أنني امرأة حازمة إذا نويت على شيء أفعله في الحال، هذا يعني أنني لو أردت الطلاق بالفعل لفعلنا ذلك منذ زمن.. كفالك اتهامات لم أعد أحتمل!

قالت أمها في هدوء ممزوج بالسخرية:

- هل أنت من أرادت الطلاق أم سالي؟ أرجوك اعترفي أن هنالك خطب ما بك، اعترفي بذلك من أجل أن تلتزمي بالأدوية، إن لم تأخذي الأدوية فستخسرين نفسك وكل شيء..


حاولت ليالي أن تكظم غيظها وتركت والدتها دون أن تعلق على كلامها، وذهبت إلى الغرفة الأخرى وأخذت تلملم الكثير من الأشياء التي تخصها استعدادا لتجهيز حقيبة السفر التي ستأخذها معها إلى بقاع بعيدة.. إلى العمل الجديد.. إلى المكان الذي ستحقق في أحلامها من وجهة نظرها..

وبينما هي تبحث عن بعض الأشياء، أحست بألم قوي في كتفيها وكأن سكاكين حادة تقطع فيهما، أخذت تصرخ وتقول:
-النجدة! ساعدوني لا أتحمل هذا.. ثم سقطت على الأرض مغشيا عليها.




يتبع....
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي