الفصل الرابع وساوس مهلكة

٤-وساوس مهلكة

بعدما أحست ليالي بألم عنيف في كتفيها وسقطت من شدة الألم، رأت كابوسا مروعا.. كانت لا تزال وحدها في الغرفة.. فلم يعلم أحد أنها سقطت، ولم يستمع أحد لنجدتها وصراخها وهي تتألم قبل أن تسقط..
في الكابوس أتاها زوجها.. الذي مات منذ يوم.. المهندس محمود الأسمر، في البداية لم يكن الوضع يوحي بأن هذا الحلم ينم عن كابوس، فقط أتاها زوجها وهو يرتدي بدلة أنيقة وكأنه يستعد لحفل زفاف، ثم اقترب منها أكثر وعندما أمعنت النظر وجدت أنه بنفس الشكل الذي كان عليه يوم زفافهما.. نفس البدلة ، ونفس تسريحة الشعر، ونفس الابتسامة.. وكان يحمل في يديه باقة ورد.. تلك الباقة التي اهداها إياها يوم زفافهما، وكأن اليوم يُعاد من جديد..
عندما رأته في هذه الصورة فرحت لأول وهلة وأقبلت عليه.. رأت نفسها أيضا في هذا المنام أنها ترتدي فستان زفاف.. نفس الفستان الذي ارتدته قبل خمسة اعوام، ونفس تسريحة الشعر الرائعة التي جعلت شعرها الذهبي ينسدل على كتفيها العاريين لتضفي جمالا إضافيا على الفستان الرقيق المكشوف من ناحية الكتفين، مع المكياج الرقيق الذي يتناسب مع ملامحها ولون بشرتها... عندما أقبلت عليه أهداها باقة الورد، ثم اختفت ابتسامته وأشار إلى كتفيها قائلا:
- هذا الألم أسقطك أرضًا أليس كذلك؟ لا عليكِ سيكون كل شيء على ما يرام..
(كان يقول كلمات مبشرة لا تليق مع تعبيرات وجهه؛ فقد تبدلت ابتسامته إلى نظرة حادة محذرة فجأة ودون سابق إنذار)
تراجعت ليالي بضعة خطوات إلى خلف وأعادت إليه باقة الورد وقالت:
نعم هذا الألم أسقطني أرضا، من المسئول عنه؟ لماذا شعرتُ وكأن هنالك سكينا تقطع في كتفيّ؟ أرجوك يا حبيبي دلني على سبيل تسكين هذا الألم، فأنا لا أستطيع تحمله..
أجاب في هدوء:
-بلى، تستطيعين تحمله.. بل إنك مجبرة على ذلك، يمكن أن يخف الألم قليلا ولكنه لن يختفي أبدا، لن يختفي إلا إذا نفذتي أوامري، هنالك الكثير من الأشياء التي يجب أن تفعلينها.. يجب أن تطيعي أوامري.
قالت ليالي متسائلة بنبرة تعجب ممزوجة بالاستنكار:
- أي أوامر يا عزيزي؟ أنا لا أفهمك!
قال زوجها:
-اقتليها..
ثم تغير لون عينيه فأصبحت باللون الأحمر.. احمرت عيناه في كابوس ليالي كنفس الوصف الذي وصفه له ابنها، عندما زعم أنه رأى والده في غرفته.. والده الذي من المفترض أنه ميت!
ارتعبت من منظره وتراجعت بضعة خطوات أخرى إلى الخلف وقالت:
-ما الذي يحدث لك يا محمود؟ ما خطب عينيك؟ وما الذي تطلبه مني؟ أتريدني أن أقتل شخص ما؟!
ضحك محمود ضحكات عالية مليئة بنبرة السخرية بعد سماع هذه التساؤلات من زوجته ثم قال:
-هل ترين أن قتل شخص ما سيكون صعب عليكِ؟
إنه أسهل من تصميم فستان من فساتينك بالنسبة لك أيتها الفنانة؛ فأنت لست فقط فنانة في الموضة والذوق العام، أنت فنانة أيضا في سلب الأرواح!

في هذه اللحظة بكت ليالي خوفا من كلماته وقالت محاولة الدفاع عن نفسها أمام تلك الاتهامات:
-ما الذي ترمي إليه؟ لست أنا الفاعلة.. إنها سالي.. أرجوك صدقني، لم أكن لأقتلك أبدا.. لم أفعلها، أنت حبيبي وروحي وأماني ومسكني.. كيف لي أن أقتل روحي؟ أتدري؟ أنا الآن أعيش في الدنيا كجسد بلا روح، اشتقت لك كثيرا.. أعلم أنه لم يمض الكثير.. إنه فقط يوم واحد، ولكن اليوم في بعدك يا مهجة فؤادي يقدّر بعام، لا أعلم كيف سأستأنف حياتي من دونك.. سأحاول المضي فقط حتى لا أقتل نفسي، لأنني كلما تركت نفسي لأفكاري سوّلت إلىّ بقتل نفسي، فأنا وحيدة في هذه الدنيا..وحيدة بدونك.. أنا لا شيء بدونك.. اشتقت إليك حبيبي.
.
لم يتمالك زوجها نفسه ودخل في نوبة ضحك أخرى أعلى من السابقة وكأنه يكذبّها ويسخر من مشاعرها، أو كأنه يتهمها بأن أحاسيسها كاذبة.. ثم قال:
-ستحاولين المضي؟ أنت بالفعل تجاوزتِ موتي قبل مرور أربعة وعشرين ساعة.. رقص قلبك فرحا بفرصة عمل جديدة ونسيت تماما ما يحدث من حولك، القريب والغريب يملأون المنزل وينتحبون لرحيلي وأنت تهللين فرحا وابتهاجا بفرصة عمل جديدة، أنت لم تحبيني يوما كفاك كذبا..
اقترب منها قليلا في هدوء ثم قال:
-آسف يا ليالي، آسف يامن ظننتها حب حياتي.. أنت مضطرة لتنفيذ أوامري.. اقتليها! عليك أن تقتليها..
أخذت ليالي تتراجع للوراء كلما اقترب منها زوجها خوفا منه، ثم قالت متسائلة بصوت خائف متقطع:
-من عليّ أن أقتل؟ من الذي تطلب مني أن أسلب روحه؟
أجاب بتعجب وسخرية:
- ألا تعلمين من؟ ألم تلاحظي بعد كل هذا أنني أريد سلب روح من سلبت روحي؟ أريد القصاص ياحبيبتي ..اقتليها يا "ليالي"، اقتليها كما قتلتني.. اقتلي سالي.
اتسعت عيون ليالي في خوف في نفس الوقت الذي استمر فيه زوجها في ترديد الكلمة: اقتلي سالي!
ثم نظرت ليالي إلى رسغها الأيمن فوجدت أن الدماء تنهمر منه وكأن سكينا أصابتها..
وفجأة استيقظت من هذا الكابوس و كتفيها يؤلمانها ولكن قد خف الألم قليلا.. وجدت أنها لاتزال وحيدة، حزن قلبها بشدة عندما أدركت ان لا أحد أتى لنجدتها عندما صرخت، ولم يسمعها أحد.. شعرت أنها تريد أن تترك المنزل الآن أكثر من أي وقت مضى، وخصوصا أنها ستجد مكانا يستقبلها بكل ترحاب فاتحا ذراعيه لها بكل حب، وهو العمل الجديد بالطبع...
حاولت ان تتناسى ما رأت في الكابوس ولكن فشلت محاولاتها، فأصبح يتردد في ذهنها صوت زوجها وهو يأمرها بقتل سالي.. التي لا وجود لها أصلا.. إلا في مخيلة ليالي، وكلما حاولت أن تشغل نفسها بأي فكرة أخرى أحست بوخز في كتفيها وكأن شبح زوجها يحذرها من النسيان أو حتى التناسي..
مرت حوالي نصف ساعة ثم قام أحدهم بطرق باب غرفة ليالي، كانت الطريقة خفيفة وبطيئة فأيقنت أنه ابنها.. أسرعت ليالي لتفتح له وغمرته بين احضانها حاملة إياه، ثم أدخلته معها إلى الغرفة وجلست.. ساد الصمت بينهما لدقائق، فقد كانت ليالي مرتابة من غرابة أدهم منذ قليل.. خافت ان تفتح معه الموضوع مرة أخرى فيخيفها أكثر بمعلومات جديدة عن أبيه الميت الذي يزوره ويقول له أن كل شيء سيكون على ما يرام.. كانت مرتعبة من كلمات ابنها وخصوصا بعد الكابوس الذي رأته..
ثم تذكرت انها سمعت نفس الجملة التي تقول :
-كل شيء سيكون على مايرام.. تلك الجملة التي ادّعى الطفل ان والده قالها له وهو في الغرفة.. لقد قال لها نفس الكلام أيضا من خلال الكابوس..
أخذت تتسائل بينها وبين نفسها:
-هل يُعقل أن ما يحدث لي ولابني هو بسبب شبح زوجي الذي أصبح يتردد علينا؟ هل يحدث هذا أصلا بشكل طبيعي عندما يموت أحدهم؟ أنا لا أصدق في أمور الأشباح على الرغم من أن مثل هذه القصص يخيفني، ولكنني لا أصدق بوجود هذا في الحقيقة.. وحتى وإن كانت لها وجود بالفعل، هل ستترك الأشباح كل البيوت الغريبة المهجورة، والمنازل المريبة ،وكل الأناس غريبي الأطوار وكل المشعوذين وتأتي لتسكن في بيتي أنا؟
أخذت التساؤلات تدور وتطوف داخل رأسها وفجأة قطع أدهم حبل أفكارها متسائلا:

-ماما.. من هي سالي؟

عندما سمعت ليالي ابنها ينطق بهذا الاسم غضبت ولكنها حاولت أن تكظم غيظها حتى تستخرج معلومات ضرورية بكل هدوء من ابنها، فقالت بهدوء مُتصنع:
من هي سالي؟ من نطق بهذا الاسم أمامك يا عزيزي؟ هل هي جدتك؟
أجاب الطفل بثقة:
-لا ياماما، ليست جدتي.. أبي أتاني في الغرفة مرة ثانية منذ قليل وأخبرني عنها..
وضعت ليالي يدها على فمها من فرط الذهول والدهشة والرعب ثم حاولت ان تتماسك وتتمالك نفسها بعد أن تيقنت أن هنالك خطب ما، أو شيء خطأ يحدث.. أو شيء خطير على وشك الحدوث.. استجمعت قواها وسألته:
-ماذا أخبرك عنها يا عزيزي؟ هل يمكن أن تعرفني عليها؟ فأنا لا أعرفها.
بدأت تعبيرات وجه الطفل تتغير، وتأخذ منعطف التأثر فأصبحت ملامحه تعبر عن الحزن الممزوج ببعض الغضب وقال:
-قال أنها امرأة سيئة، ويجب أن نتخلص منها.. قال أنها أذته كثيرا وسلبت منه أعز ما يملك.. انا لم أفهمه يا ماما.. ولا أعرف كيف يكون شكل تلك التي اسمها سالي. . أرجوك أخبريني لأنني عندما أحاول الاستفسار من بابا يختفى فجأة.. لا أعلم كيف، ولكنني لا أستطيع التحدث معه كثيرا.. وأنت أيضا أصبحت غريبة الأطوار.. لماذا تقولين لي أنه ليس هنا على الرغم من أنني أراه بين الحين والآخر؟ ولماذا يبكي النساء الجالسات بالصالة الخارجية يا أمي؟ أنا لا أفهم شيئا..
تملك الرعب قلب ليالي ولم تدر بما تجيب على ابنها، هي لاتفهم ما يحدث ولكنه أمر خطير.. تجاهلت تساؤلاته وأخذت تفكر فيما ستفعل.. وفجأة عاد ألم كتفيها بشكل عنيف ومبالغ فيه مرة أخرى.. فأخذت تصرخ بقوة.. وخرج الطفل من الغرفة مسرعا لينادي أحدا من أجل نجدتها..

يتبع...
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي