الفصل الثاني مواجهة واتهام

٢- مواجهة واتهام

خرجت ليالي بالفعل إلى حيث يتواجد الناس، ولكنها لم تنظر إلى أي شخص موجود مباشرة في عينه، ولم ترد على أي كلمة من كلمات المواساة التي سمعتها وهي في طريقها لإيجاد كرسي لتجلس عليه.. وأخيرا وجدت البقعة المناسبة للجلوس وجلست.. بلا أي تعبيرات على وجهها، وكلما أتت واحدة من النساء أو البنات الموجودات بالقرب منها لتسلم عليها تظاهرت بانها لا تسمعها ولا تراها.. حينها ظن الموجودين أنها بالفعل حزينة جدا ومرهقة نفسيا، ولا تحتاج إلى الحديث مع أي شخص.. وعذرها معظم الموجودين بل وأشفقوا عليها.. ولكن ليس كلهم؛ فقد استرقت ليالي السمع فسمعت واحدة من النساء الكبار اللاتي جلسن خلفها تقول لأخرى:

-هذه الفتاة أنا لا أحبها، إنها متعجرفة ولا تحب أحد، هل لاحظتِ كيف لم تعطي وجها مهتما للناس الذين قدموا لها المواساة؟ هل رأيت انها لم تعطيهم وجها أصلا وكأنهم غير موجودين؟ هذا ليس حزنا.. هذه الفتاة دائما على هذا الحال، غليظة التعامل مع الناس، وليس لديها ذوق جيد في الكلام معهم..

استشاطت ليالي غضبا وقررت أن تقوم لتلقن هذه المرأة درسا لا تنساه، وتحرجها أمام جميع المشاهدين والسامعين فهبت واقفة والتفتت لها قائلة بنبرة صوت عالية ممزوجة بالاستهزاء وهي تشير بإصبعها لها:

-أنتِ.. أيتها المرأة، نعم أنتِ.. التي لقبتني للتو بالغليظة التي لا تحب أحد، وليس لديها ذوق في التعامل مع الخلق، قبل أن تتهمي غيرك باتهمات بشعة انظري إلى بشاعتك، عالجي لسانك السليط، واتركي الناس وشأنهم أيتها الـ....

لم تكمل ليالي كلماتها لأن والدتها سحبتها فجأة من ذراعها ونظرت إليها نظرة تحذيرية وهمست في أذنها قائلة بصوت خافت:

عيب عليكِ يا ليالي أرجوكِ لا تحرجيني وتصغيريني أمام كل هؤلاء الناس..

ثم نظرت والدتها تجاه المرأة التي كانت ليالي توجه لها الكلام، والتي كان لا يبدو عليها سوى نظرات الاشمئزاز والاستنكار، والتي أيضا لم تنطق بكلمة ولم تعلق على أسلوب "ليالي" عندما رأت "نجاة" وهي تحاول معالجة الموقف..









هدأت ليالي قليلا، فأخذتها أمها إلى إحدى غرف الشقة لتتحدث معها بهدوء، وكانت "ليالي" قد بدأت بالبكاء بالفعل، وبمجرد أن دخلت الاثنتان الغرفة قالت "ليالي" معاتبة أمها:

-قلت لكِ لا أريد أن أقابل أحدا، هذا ما سيحدث إذا تحدث أي شخص معي، سواء بطريقة منفرة أو بطريقة ودودة.. لا أريد أن أرى أحدا لا أطيق أحدا.. أنا أكرهكم جميعا!

قالت ليالي هذه الكلمات وهي تصرخ وتبكي، فسحبتها أمها إلى أحضانها وأخذت تربت على كتفيها في حنان، وحينها زاد بكاء "ليالي" وعلا صوتها وانهمرت دموعها كالسيل..

بعد عدة دقائق جلست "ليالي" وظلت والدتها معها حتى تطمئن أنها بخير، ثم تسائلت في اهتمام:
هل ما زال أدهم نائما؟

أجابت "ليالي" وهي تمسح دموعها:

-كان قد استيقظ ونام مرة أخرى، لا أدري كيف أوصل له فكرة أن أبيه لن يعود مرة أخرى.. ليس بيدي حيلة يا أمي!

بدأت والدتها تهدئ من روعها ونظرت إلى عينيها قائلة:

-كفاكِ قلقا يا بنيتي الجميلة، لا ترهقي نفسك بالتفكير، ولا تحملي نفسك فوق طاقتها، هذا قدر ومكتوب، وهذا ليس أول طفل في العالم يصبح يتيما.. أنا أعلم أن أدهم ذكي وصبور مثلك وسوف يتفهم الأمر، لطالما اعتقدت دائما أن هذا الطفل يكبر سنه بكثير، فهو ذكي وفطن وخفيف الظل ويحبه الجميع.. لا تقلقي عليه..
هدأت "ليالي" قليلا، ثم أمسكت رأسها بشكل مفاجئ وبدأت تتألم، نظرت إليها أمها في أسى وقالت:

-ألم تتناولي دوائك بعد؟

لم تجب على السؤال وعاودت البكاء قائلة:

-لست أنا! لست أنا يا أمي.. إنها سالي.. سالي هي الفاعلة، أرجوك يا أمي ساعديني سينفجر رأسي!

نظرت الأم إليها نظرة ارتياب مملوءة بالأسى وقالت:
- يلزمك الدواء يا ابنتي، أرجوك اقتنعي، لا وجود لسالي.. أنت فقط متعبة قليلا ومرهقة ومصدومة من الأحداث الأخيرة، بالإضافة لإهمالك للدواء.. يجب عليك أن تتناوليه الآن حتى يخفف من هذه الأعراض.

نظرت ليالي إلى والدتها نظرة غضب وقالت:

-هل تتهميني بالجنون ثانية؟ كم مرة قلتُ لك أن هذه حقيقة، سالي سيئة وهي سبب كل الحزن والأسى الذي خيّم علينا، أرجوكِ صدقيني.. أنا لست مجنونة.
قالت الأم:
- لست مجنونة يا قطعة من قلبي، ولكنك فقط مرهقة ومتعبة، لا بد أن تتبعي تعليمات الطبيب وتتناولي الدواء، وبعض من الفيتامينات ستقويك وتخفف عنك الأعراض الجانبية للدواء، أرجوك لا تكوني عنيدة.
قالت "ليالي" في حزم:

-لا أريد أن أتناول هذه الأدوية، هذه الأدوية ترهقني وتتعب جسدي، وفي الفترة القادمة أود أن أكون في كامل صحتي حتى أستطيع أن أعمل وأثبت نفسي بجدارة في وظيفتي الجديدة.

- وظيفتك الجديدة؟ هل قبلت بالوظيفة؟ ومتى حدث هذا أصلا!
قالت ليالي بابتسامة متسعة لا تتناسب مع الموقف إطلاقا:
-نعم يا أمي! لقد قُبلتُ بالوظيفة، اتصل بي موظف من الشركة منذ قليل وبلغني بأنني قُبلت بالوظيفة وسوف أستلمها في القريب العاجل!

قالت الأم في اهتمام:
-الوظيفة التي هنا في القاهرة.. صحيح؟ لا بد وأنك صرفت النظر عن وظيفة الاسكندرية مثلما أقنعتك من قبل.. أليس كذلك؟
ضمت ليالي شفتيها وهي لا تدري ما تقول ثم زفرت في امتعاض قائلة:

-أمي، استمعي إلىّ يا حبيبتي.. الحياة فرص، وعندما سافرت إلى الاسكندريه للتسوق مع صديقاتي منذ أسابيع، ذهبت إلى شركة "أنتِ أنيقة" وقمت بعمل مقابلة، واليوم قبلت بها، هذه فرصة لا تكرر، ولا تأتي بسهولة لأي شخص.. أرجوك تفهمي هذا!

بعد أن نطقت ليالي بتلك الكلمات عقدت أمها حاجبيها في غضب وقالت بنبرة صوت مرتفعة غاضبة:

-معنى ذلك أنك كسرت كلامي وكلام زوجك الراحل، ألم تكن هذه الشركة سببا من أسباب الخلافات بينكما! ألم يكن دائما يرفض أن تعملي في مكان بعيد، كيف ستعتني بابنك ها؟ أنت أصلا لا تعتني به حق العناية وأنت قريبة منه، كيف ستعتني به وهو معك هناك وحدكما! كيف سيحدث هذا يا عديمة المسئولية.. أجيبني أيتها الطائشة!

أجابتها ليالي بهدوء مستفز:

أمي.. لن آخذ أدهم معي، سأتركه لكِ؛ لأنني بالفعل لن أستطيع الاعتناء به وحدي.. هذا مستحيل، أما عن أمر فرصة العمل، فقد قُضي الأمر.. أي شخص يحصل على فرصة ذهبية كهذه ويتركها هو شخص غبي ويرفض النعمة، هذه فرصة حياتي وبداية نجاحي.. اتركيني وشأني أرجوكِ..
تملك اليأس قلب والدتها؛ فهي تعرف كم أن ابنتها عنيدة ومصرة على قراراتها، ثم نظرت إليها نظرة استحقار قائلة:

-ستظلين طوال حياتك أنانية، لن تهتمي أبدا إلا بنفسك، حتى ابنك سيكرهك.. ابنك الذي أصبح يتيم الأب للتو وهو حتى لا يعرف، ولا يفهم شيئا عما حدث ، ويجهل معنى الموت.. هو يحتاج لحضن حنون يحتويه ويد رحيمة تربت عليه وتعتني به.. أنت عديمة الانسانية..أما عن اتهامي لك بالمجنونة، الكلمة التي لم أنطق بها أصلا وقمتِ أنتِ بتفسيرها من داخل رأسك، فسأقرها الآن.. أنت بالفعل مجنونة.. عودي إلى أدويتك حتى تخفي حقيقتك عن الناس، او حتى تخفي جزءا منها.. وتذكري هذه الكلمة جيدا.. ابنك سيكرهك، كلما كبر وكبر عقله وعرف بأنك تفضلين نفسك عليه ولا تهتمين به سيكرهك ويكره وجودك.. وعندما تعودين له لن يفتح لك ذراعيه ولن يعتبرك أمه من الأساس!


صعقت ليالي من كلمات أمها ولم تستطع الرد بكلمة واحدة، كان رد فعلها الطبيعي والذي تلجأ إليه دائما هو البكاء وتقمص دور الضحية.. وبينما كانت امها متجهة لباب الغرفة تاركة إياها فيها أحست بيد صغيرة تطرق الباب، ففتحت بسرعة لأنها تعلم أنه الصغير أدهم.. حملته الجدة بين ذراعيها وقبلت جبينه قائلة في حنان :
-حبيبي.. هل نمت جيدا؟

نظر إليها الطفل بعينيه الجميلتين العسليتين وبوجهه الجميل الذي هو طبق الأصل من وجه أمه وقال في هدوء:
- أريد ماما
زفرت أم ليالي في ضيق وأنزلته من بين يديها حتى يرى أمه القابعة في الغرفة من ورائها.. هرول إليها الطفل وقال:
- ماما.. لماذا لم تقولي لي أن بابا سيعود اليوم! أخبرتني أنه لن يعود في وقت قريب! ولكنه عاد.. إن أبي الان في غرفتي.. هيا بنا تعالي لنستقبله سويا!

يتبع....
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي