الفصل الثاني

الفصل الثاني
بات الآن يتسائل، ألن يرغب والده برؤية حفيدته!
ألا تلين قطعة الصخر المستقرة يسار جسده؟ إنها تحمل دمه رغم أي شيء، ليس لها ذنب على الإطلاق.
لأن حساباتهما، هو ووالده، كانت مختلفة، نتج الصراع، ولأنه أراد تجنب غضب أباه، أخفى عنه، لكنه لم يقم علاقة محرمة، بل تزوج "هدى" بموافقة والدتها، وجاهد كثيرًا للحصول على مباركتها، ألم يكن غضبها هو الأعظم لأنها لم تقم زفافًا لابنتها الوحيدة، ألا يروا مقدار ما ضحى به من أجلهم مقابل سعادته وزوجته ووالدتها!
يريدون فرض كامل سيطرتهم على حياته طوال الوقت، ألم يكبر بما يكفي، ويطيع أباه رغم خفقان قلبه تجاه هدى؟
فكر في سره محاولًا الحفاظ على ثباته:
_"آه.. كم أود تهشيم تلك المزهرية الأنيقة القابعة على تلك المنضدة، بل الأحرى بي أن أهشم تلك العقول العفنة"
لكنه بدلًا من الإفصاح عما يجوّل بخاطره، حاول التماسك، أو ربما التظاهر بهذا الأمر حتى لا يبدو خاسرًا، وأن لا رابح سوى والده وشريكه، وابنته المدللة. لذا أجابه برزانة مؤقتة، ومصطنعة:
_أجل، توفيت، رحمها الله، لذا لا يهم منذ متى أعرفها ولا أي شيء عنها سوى أنها تركت فتاة صغيرة خلفها!
أخرج بضعة حلقات من لفافة التبغ الفاخر خاصته من فمه، وقال:
_وما الذي يضمن لي أنك لن تخون ابنتي مجددًا؟
تساءل بداخله:
_"هل يجب عليه أن يبدأ بحماه وليجعل الدماء تسيل من دماغه الذي يشبه كثيرًا دماغ والده؟!، أم أن تلك المهزلة ستنتهي الآن!، لا يفهم حتى الآن سر تلك البلبلة التي تُثيرها نادية؛ هي كانت الثانية وليست الأولى!... حتى هدى ورغم أنها الأولى إلا أنها تفهمته ولم تكن تصرفاتها رعناء مثل نادية!
جمع شتات نفسه وشبك كفيه معًا وقال بجدّية محاولًا البحث عن ثغرة تخرجه من براثن حماه الماكر:
_لا أعتقد أني من هواة جمع أطفال من نساء مختلفة، ثم إن أمر الدمج هو ما يشغلني حاليًا.
أخذ نفسًا عميقًا، وأخرج من جوفه الجملة التي كانت تضغط على روحه، كمحاولة لنفي هذه التهمة عنه، وقال:
_لم أخن ابنتك نادية مطلقًا، بل خنت والدة ابنتي، فهي جاءت أولًا قبل ابنتك بكثير من الوقت. لهذا أرى من الأفضل أن نصب جم تركيزنا على الصفقة التجارية.
تململ "أحمد" رافضًا أن ينصاع لوجبة العمل المُحلاة، والمقدمة له على طبق من فضة بل أطفأ لفافته وسأله:
_ماذا تخطط بشأن صغيرتي؟ هي وحيدتي ومنْ يؤذيها لن أوفر له ظرف واحد ليعيش، لذا دعك ممن جاء أولًا، ومن تلاه، وهذا الحديث الفارغ تمامًا.
تراجع "رائد" بظهره قليلًا للوراء وجاراه في الحديث المستمر عن نادية، وقال بدهاء:
_كما ترغب. هذه الفترة حرجة للغاية، ولا أعتقد أن بقاء نادية بمفردها صوابًا، يكفي أقاويل المجتمع ونشر الإشاعات عن انفصال وشيك قد يهدد سعر الأسهم خاصتنا في البورصة!
استمر في تعنته ورفضه أن يظهر كمستسلم أمامه، وقال بوضوح:
_حسنًا، رغم أنه لم يقنعني أي مما قولته، اليوم عليكَ بمصالحتها حتى تعود معكَ إلى بيتكما، فإن فشلت فاعلم إنك المسئول عن الأضرار الناجمة من فعلتك…!
نهض من جلسه وأغلق أزرار بذلته السوداء وأومأ قائلًا:
_حسنًا يا سيد أحمد، سأظهر قدرتي الرائعة على الإقناع الليلة!
لم ينهض لتوديعه، والحق بأنه معه كل الحق، اكتفى بأن طالعه بنظرة استعلاء واضحة وأخبره:
_أنتظرك على العشاء برفقة والدك، فحديثنا الآن لا ينم عن موافقتي على تصرفك ولكن كما يُقال فلكل مقام مقال!
ثم أمسك ذلك الملف الورقي وبدأ في مطالعته بتركيز من جديد، مما دفع التجهم إلى السطوع على ملامح "رائد" وهو يغادر ذلك المكان.
……………
استقلت "عليا" تلك الفتاة السمراء ذات العيون الواسعة والشعر الأسود الحريري الناعم والقامة القصيرة جوار صديقتها "ملك" في سيارة الثانية، منطلقتان إلى أحد المراكز التجارية بميلانو في إيطاليا لشراء النواقص الخاصة بحفل زفاف الأولى..
سألتها وهي تتابع الطريق بانشداه:
_هل تظنين أن هذه الفكرة ستروق لمراد؟
ابتسمت لها صديقتها بسعادة وأجابتها بحماس:
_بالطبع ستروقه، ثقي بي يا عليا!
تنهدت بسعادة وهي تنظر إلى صديقتها ذات الوجه الملائكي الذي يخفى تحته شقاوة كبيرة وقالت:
_بالطبع أثق بكِ يا ملك، لكني أحيانًا لا أفهم كيفية تشغيل دماغ مراد.
استدارت "ملك" إليها برأسها وسألتها وهى تدور بالمقود إلى داخل جراج المول التجاري:
_لا عليكِ، هذا طبيعي، حتى إنهم يظنون الاعتقاد ذاتها بالنسبة لأدمغتنا. إذا هل كتبتِ ما تحتاجين إليه في ورقة حتى لا ننسى شيئًا مثل المرة الماضية؟
_أجل، فعلت، كما أن مراد سيقابلنا في الرابعة كما اتفقنا بالأمس.
أومأت برأسها وهي توقف السيارة:
_جيد.
ترجلت "ملك" من السيارة بينما أعلن هاتف الأخرى عن اتصال من خطيبها الذي يصبح بعد أيام قليلة زوجها، سحبتها "ملك" من ذراعها إلى داخل المركز التجاري لشراء بعض الأشياء قبل مقابلة خطيب "عليا"، مراد الشيخ، وإلا فإنها ستظلّ تحادثه متخشبة مكانها دون أن تلاحظ.
……………
مشاعرها مجهولة مُشتتة، تارة تتأنق أمام المرآة مثل الحمقاء، وتارة أخرى تعنف ذاتها متذكرة خيانته لها!
هل تبرر الأمر بأنها كانت الثانية وليست الأولى كما أخبرها والدها؟ بالعادة الأولى لا تعرف بشأن الثانية… ولكن في حالتها تلك، هل علمت الأولى؟! وإن علمت، كيف كان شعورها؟
ألم تشعر بنيران تحرق أحشائها، أم لم تعلم، وخدعها مثلما خانني!
نظرت للمرآة مطولًا وبيدها فرشاة الشعر تقبض عليها بعنف طاغِ وقالت بإنكار شديد وحنق بالغ تؤكد لنفسها:
_"مؤكد لا تعلم، فإن علمت لا تقبل بالأمر… أي امرأة تقبل بوجود ضرّة لها؟!"
قذفت تلك الفرشاة فوق منضدة الزينة ومشت بخطوات ذابلة يعلو وجهها الوجوم، جلست على مقدمة فراشها وأمسكت بالشرشف المسكين تخنقه كما لو كان كائن حي وليس جماد، مجرد قطعة قماش فاخر!
تذكرت قوله بكل قساوة وضيق مُطرز بالغموض:
_تركتني في منتصف الطريق!
عزاؤها الوحيد هو اختفاؤها من حياة رائد؛ ولكن أيُعنى بهذا أنه عشقها ولا يدري كيف يجدها ثانيًة ليعيدها إليه!
تُرى لماذا تركته يتخبط هكذا؟
صرخت بنفسها كالمجنونة واعترفت:
_" يا إلهي ما زالت حمقاء آبه لشأنه"
نهضت ثانيًة وذهبت لتجلس فوق مقعد أمام المرآة، عاودت مطالعة ذاتها ولكن بعينين خاويتين لا لمحة هناء بهما!
انكمشت في مقعدها تنتحب:
_"ليس ذنبي أن أحببته منذ رأيته. هو مليء بالرجولة؛ لكنه مخادع، وخائن يشبه سارق السعادة بالضبط"
نهضت مرة ثالثًة ذاهبة إلى ضلفة الدولاب تُكمل انتقاء ثيابها لترتديها، وما إن انتهت حتى عادت إلى ذلك المقعد جالسة عليه تراقب هالاتها السوداء في المرآة أمامها، همست بحدة بداخلها:
_"مؤكد سيظن أنه السبب، ولكن هل يبالي بالأمر؟"
أمسكت تلك الإسفنجية الصغيرة واضعة شيء ما عليها لإخفاء تلك الهالات الواضحة وفكرت:
_تُرى لمَ لمْ تسأل والدها أن يجمع معلومات عن تلك المرأة؟
بل ربما من الأدق أن تعترف لنفسها برفضها سماع ما كان يؤكد وجود أخرى اختفت بعد أن شَاركتها رائد.
شعور حارق لا يتركها، كلما فكرت على هذا المنوال، أن تشاركها أخرى به!
يا لحماقتها الغاشمة التي جعلتها لا تلحظ رائحة عطر أنثوي عالقة بثيابه، أو خصلة شعر متشبثة بثيابه؟
بل اللعنة على غبائها، بالطبع سيبدل ثيابه، وسيعمل على محو كل أثر لوجودها، يا له من تعامل لئيم وخبير!
انتهت من مهمة إخفاء الهالات قدر الإمكان، لتبدأ بوضع باقي زينتها متنهدة بين الحين والآخر، لا تعلم بأي نوازع شيطانية فعل بها "رائد" هكذا!
…………………..
_"عشاء عمل ممل! "
لم تتوقع أن يدور الحديث عن العمل والدمج والصفقات، أهي لتلك الدرجة غير مرئية، ألا تستحق الوقت هذه الليلة؟
ألا يحق لها أن يتباحثوا فيما حدث، وما سيؤول إليه شأنها؟
وكأن والدها انتبه أخيرًا لها وهي تشرف على تقديم كؤوس الشاي بعد تناول تلك الوجبة الفاخرة، فصرَّح قائلًا:
_خذ زوجتك يا رائد وتحدثا في الحديقة، بينما أناقش مع والدك في غرفة المكتب آخر التطورات الاقتصادية!
أجابه "حازم أبو الدهب" بإيماءة صغيرة قبل أن يوجه بصره إلى ابنه بنظرة خاصة موضحًا:
_بالفعل، لديهما الكثير ليتحدثا بشأنه.
……………….
جلسا في الهواء البارد متجاورين رغم المسافة بينهما في صمت مملّ قبل أن يسألها:
_كيف حالك نادية؟
_كيف تظن حالي بعدما صُدمَت بكَ؟!
أشعل سيجارته وسحب منها قليلًا قبل أن يردف بلامبالاة فشل في اخفائها:
_أعلم أن بداخلك نار، و لكن ربما يجب أن أتحدث معكِ بصراحة مطلقة…
استدارت إليه باستنكار لبروده الشديد معها ورغمًا عنها تسألت بداخلها:
_"هل كنت باردًا هكذا معها هي الأخرى يا رائد؟ أم أن تلك الحالة تراودك في وجودي دونًا عن الأخريات"
ولكنها همست بعتاب:
_ألا يحق لي أن أسأل لماذا لم تبلغني بوجود أخرى في حياتك؟
أعاد وضع لفافة التبغ بداخل فمه وأجابها بعملية:
_حياة منْ يولد وفي داخل فمه ملعقة من الذهب ليست ملكه، هنا القوانين والمصالح تحتم الكثير من الأمور، وزواجنا كان مشروطًا لنجاح الدمج لشركتين من أهم الكيانات الاقتصادية في الشرق الأوسط، وبنفسكِ ترين رغبتها في زيادة سعر الأسهم، وإتمام الصفقة الحالية، والتي لن تكون الأخيرة نادية.. لن تكون الأخيرة!
طفح كيلُها حقًا، ولم تتمالك نفسها حين صاحت بغيظ:
_هل تظن هذا مبررًا قويًا؟
خشيت أن يحمل كلامه معنى مبطنًا، أن يلمح لأشياء لا تدركها؛ فهو يجعلها تشعر بالغباء، بأنها لا تواكب قوته ولا تضاهي يقظته، إنها بعيدة عنه.. بأكثر مما اعتقدت يومًا مع الآسف!
ألقى عقب التبغ أرضًا وقال بهدوء عكس السئم الذي بدأ يزحف بداخله من أسئلتها، كم يكره أن يشعر أنه داخل استجواب:
_بالنسبة لي هذا مبرر واقعي.
لم تسيطر على انفعالاتها المحمومة وكادت تنهض من جواره لتذهب صارخًة:
_أنت مجرد كاذب حتى لا تظهر بثوب المخطئ والمدنس!
أمسكها من رسغها ليجلسها بقوة إجبارية وحدق بها بعيون تمتلئ بالوعيد؛ عيون لطالما سرحت في سحر غموضهما دون أن يدري صاحبهما…
أخبرها وهو الآخر يحاول الحفاظ على ثباته الانفعالي:
_تعلمين أني لا أحب أن يغادر أحد دون أن أنهي حديثي!
حقيقة أنها دائمًا في وضع المخطئ كرهتها بكل طاقتها، صرخت بانفعال:
_وهل تظن أنه سيكون للحديث بقية؟، كنت على استعداد لمحاولة تخطي الأمر لو اعترفت بجرمك؛ لكنك ما زالت تُكابر، أنا لم أعد أحبّك يا رائد!
نهض ليطلّ عليها بظلّه وما زال ممسكًا برسغها بشيء من القساوة بينما هي ما زالت جالسة أسفل ظله تطالعه كجرو صغير، أخبرها بانفعال ساخرًا:
_لا أظن أني طلبت حبّك يومًا يا نادية! لن يستمر حديثنا كالمراهقين هكذا… الآن نحن في واقع تلك اللحظة وما دونها منسي في جحيم الماضي.
إن لعبة الزواج، أو لأكون صادقًا أكثر، إن قوانين الشراكة تفرض علينا التغاضي عن الكثير؛ حتى لم نتزوج عم قصة حب مجنونة، بل باللحظة التي أعلن الشيخ زواجنا، كانت عقود الدمج بين الشركتين تُوقع بغرفة المكتب، حتى يصبح الاحتفال موثقًا بحدث تاريخي، فلا تدفعيني لتكرار هذا الأمر على مسامعكِ إن أردتِ مستقبلًا!
ثم ترك رسغها فجأة وأخرج علبة التبغ خاصته ليخرج لفافة ثانية وأشعلها مُعطيًا إياها ظهره الذي فضح تشجنه وهو يفرك مؤخرة رأسه بأصابعه، بينما انكمشت على نفسها تدلك رسغها ذو الآثار المطبوعة من أصابعه القوية، رمشت جفونها تبكي بلا صوت، هي لن تحصل عليه حتمًا...!
والحق أنها كانت قفزة صعود للقمة، مثلما كان هو الآخر قفزة غيرت خططه.
هل الآن يخبرها أنه ضحية مثلها وإن كان بشكل غير مباشر!
استدار بغتًة كالملسوع بعد دقيقتين، وقال لها بابتسامة صغيرة متغاضيًا عن بكائها الملحوظ:
_نادية، سأمرّ بالغد لنتعشى خارجًا، وأعدك أن كل شيء سيكون على ما يرام.. هيا إلى الداخل قبل أن تبردي.
نظراتها المصعوقة أكدت له أنها لا تستوعب الأمر جيدًا، وقبل أن تنطق بالرفض أمسك ذراعها بلطف وسحبها جواره إلى الداخل وكأن منْ يراهما من البعيد يظنهما ثنائي متفاهم.
……………..
جلس ثلاثتهم في مطعم يتناولون الطعام بعد إرهاق البحث عن مبتغاهم للإسراع بإتمام النواقص قبل الميعاد المتفق عليه.
قطع "مراد" قطعة البيتزا بسكينة رفيعة، خاصة ثم أدخلها فمه بأصابعه الرفيعة قائلًا:
_إنها حلوة، لا شيء يضاهي البيتزا الإيطالية. إذا بالغد سنقابل صوفي وهي ستنسق جلسة تصوير عربية أوروبية؟
أومأت "ملك" برأسها بحماسة، ثم أضافت بعدما ابتعلت تلك القضمة الصغيرة من البيتزا خاصتها:
_ثم سنذهب إلى المزرعة، لدى ماما هدية صغيرة لكما..!
اتسعت عيني "عليا" وهتفت بحماسة:
_هدايا الخالة جميلة مميزة رغم بساطتها، اشكريها مقدمًا قبل أن نحضر غدًا إليكما.
ابتسمت ابتسامة صغيرة وأكملت مضغها ثم استدارت إلى "مراد" وقالت بجدية شرسة:
_مراد…أنا أعلم أن عمي مدحت يثق بكَ وإلا ما أعطاكَ ابنته؛ لكنها صديقتي الوحيدة هنا، أرجو أن تهتم بها جيدًا حين تعودا إلى القاهرة، وإلا عليك أن تحذر.
ابتسم بعشق لخطيبته قبيل أن يعاود النظر إلى صديقتها:
_تيقني أني إن لم أكن أحبها، فلن أخطو تلك الخطوة أبدًا، سأحميها قدر استطاعتي، وأفضل جّل ما يسعدها قدر استطاعتي، يكفي أنت نتفاهم، وألا تحزن مني دون أن أعالج الأمر.
ابتسمت "عليا" بسعادة وقالت:
_عسى الله أن يحرسكما من العين الحاسدة، والحاقدة، ويبارك لكما فيما هو قادم.
قال الاثنان بحماسة زائدة، وبنفس واحد:
_اللهم أمين.
ثم أكملوا حديثهم الحماسي عن أجواء الزفاف الوشيك، ولا أحد يدري بخوف "ملك" من حياتها فيما بعد، كعادتها تتمكن من إخفاء حزنها قدر المستطاع في تلك الأجواء السعيدة، ضحكت على نفسها حين قالت لها "عليا" بمزاح في يوم سابق:
_أشعر أنكِ ستكونين خير الحماة لمراد أكثر من أمي نفسها يا ملك، لذا رجاءًا ترفقي به لأجلي صديقتي.
ضحكتنا وقتها كثيرًا، وكأن تخزين هذه اللحظات الثمينة هو مهمتها الحالية لتستعين بها في المرحلة القادمة، عندما تبقى وحيدة، ولا تستطيع إخراج مكنون داخلها مع صديقتها الوحيدة.
…………….
كانت تقرأ رواية لأجاثا كريستي في ردهة المنزل، بينما ابنها في غرفته نائم بعد عودته مرهقًا من آخر الامتحانات النهائية لسنته الدراسية الثانوية الأولى بأحد المدارس بمدينة ميلانو.
سرحت بخيالها في أحداث تلك الرواية حتى قطع حبل أفكارها صوت ابنتها العائدة من الخارج بصياحها المحبب، رسمت ابتسامة صادقة على ملامحها وسألتها حين اقتربت منها ابنتها:
_كيف كان التسوق ابنتي؟
ألقت بثقلها على تلك الأريكة و تنهدت بتعب:
_كان اليوم مُتعبًا يا أمي لكنه حماسي للغاية، لا أكاد أصدق أنه يفصلنا أيام قلائل وتتزوج عليا وتتركني!
ابتسمت "جميلة" و همست بحب:
_إنها سُنة الحياة صغيرتي، غدًا أنتِ ستتزوجين وتذهبين ومن بعدكِ أخيكِ مثلما أراد والدك ، ولن تبقى لي سوى الذكريات في تلك المزرعة الصغيرة، هيا إلى غرفتك لأمشط لكِ شعرك!
اقتربت من أمها و عانقتها:
_آه لو تعلمين يا أمي، إنني أحتاج لذلك بشدة.
نهضتا سويًا واستقرا بغرفة الصغيرة، وبدأت "جميلة" بتمشيط شعر ابنتها البنى التي أغمضت عينيها في سكون تام جالسة على كرسيها المفضل، مثلما كانت تفعل وهي صغيرة، حتى إنها كانت تغفو فوق صدرها قبل أن تكمل سماع القصة، يكفي أن تداعب شعرها بحنو ورفق.
حتى عندما كبرت ملك، وتواجهها أي مشكلة، كنت تفرك برأسها، وتطلب من والدتها أن تسرح شعرها بالفرشاة حتى تسترخي، وتستطيع التفكير بعقل وصبر، فتصل لنتيجة ترضيها.
ظنت "جميلة" بأن ابنتها قد غفت بعد إرهاق ذلك النوم، وهمتّ بالنهوض حين أمسكت أصابعها فجأةً وقالت بإصرار:
_لا أظنني أترككِ أبدًا!
ابتسمت "جميلة" بحنو لابنتها وربتت على فقراتها الظهرية، بينما ازدادت الصغيرة تشبثًا بها، حاوطت ابنتها بكل قوتها وقالت بشرود:
_ربما تصبح الأمور أكثر غرابة ويتبدل رأيك صغيرتي، لا أحد يعلم ما القادم.
هزّت ابنتها رأسها نفيًا وأخبرتها بثقة؛ كأنهما في تحدي لإثبات منْ منهما الأكثر تمسكًا بالأخرى:
_ربما كانت تتغير الظروف قبل حين، و لكن ليس الآن يا أمي، أنا لا أعرف في الحياة غيركِ!
_لا تقولي هكذا، هناك أخيكِ مالك، إذا ما حدث يومًا ما أي شيء، ستبقون معًا، يربت على ذراعيكِ، يساعدكِ، لا يترككِ بمفردك، ألا تعرفين هذا صغيرتي؟
تنهد "ملك" تنهيدة عميقة، كأن ما بداخلها بئر مظلم، همست بصوت متحشرج:
_أعرف.
حينها نهضت "جميلة" من مكانها، وقبل أن تتحرك خطوة واحدة، أمسكت ابنتها كفها، قبلته وقالت:
_رغم كل ما أعرفه، فلا أحد يعوض الأم، أريد دعمكِ، طالما حييت، ألا نفترق أبدًا.
عانقتها والدتها بحب بث خلاله أمومتها التي حاولت جاهدة تعلمها طوال السنوات الماضية، وبعد مرور دقيقتين سألتها بنبرة قلقة:
_هل أنتِ على ما يرام عزيزتي؟
ابتسمت "ملك" قليلًا وقالت:
_أنا بخير، لا تقلقي. أحبّكِ كثيرًا، وأرغب بوجودك طوال الوقت، يطمئني وجودكِ، وأخشى أن أفقدكِ، أو أفعل شيئًا يضايقكِ.
_لطالما كانت مشاعركِ جميلة صغيرتي.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي