الفصل الرابع

كعادتها تهتم بأصغر التفاصيل في ثيابها حتى لو كانت هناك كارثة، تلك عادة محببة إليها اكتسبتها من وحدتها العميقة، أن تهتم بنفسها كما لو كانت على شفير الاضمحلال!
هيأت نفسها لسماع ما سيقوله رائد، أي شيء سيقوله ستسمعه وتقرر الحكم في النهاية.
فالكرة اليوم في ملعبه إما أن يجعلها تعود معه ويبدأ كل شيء من جديد، أو تبتعد عن حياته وإن كانت ستؤدي بروحها إلى الجحيم!
………..
قاد سيارته على طريق الساحل الطويل مُتمهلًا، يتذكر كلماته المُنقاة والتي حفظها جيدًا؛ وحدد القواعد نصب عينيه.
ممنوع الشعور بالانهزام أمامها؛ فالكلمة الأخيرة ستكون له، ولا عودة للبيت دونها.

لن يفقد أعصابه كليًا أمامها، فقط القليل لترهبيها وإن كان ذلك النوع ليس بجديد في تعامله معها.

ابتسم بسخرية شديدة وقال:

_"وكأن العلاقة بين اثنين مجرد قواعد مشروطة لأجل الاستمرارية"

هو مجبور عليها الآن أكثر مما كان مجبورًا يوم عقد القرآن!

أيُقال بأن قرآنهما كان باطلًا لأنه أُجبر، أم أن الإجبار وأحقية الفسخ حكرًا على النساء؟!

لم ينس مقابلة والده في اليوم التالي من مغادرة "نادية" المنزل.

يومها وجد والده أمامه في منزله يصفعه في غرفة المكتب صارخًا بعنف:

_ماذا فعلت لنادية أيها القذر؟ ألا تعلم أن بفعلتك الدنسة هذه سنكون على المحك!

كانت مشاعر الحزن تلتهمه ببطء جاعلة إياه فاقد للحركة، مستسلمًا ، لا يمتلك شيء سوى البكاء على أطلال الحبيبة.

ارتفع صوت صراخ الصغيرة مثل كل ليلة لا يكون والدها بجوارها في ذلك الوقت، وبدلًا من أن يتفتت صخر القلب، قال بقساوة:

_هل هي ابنة تلك المرأة التي تزوجتها سرًا، أم إنها ابنتك من ساقطة أخرى أيها الحقير؟

فتح باب المكتب واتجه صوب الغرفة التي ينبعث منها الصوت، وحينها تيقظت حواس "رائد" تبعه بقلب ملتاع ملهوف، طالعها أبوه باشمئزاز جليّ وزعق:

_اتصل بأمها لتأخذها وأعطيها حفنة من الأموال، أو ضعها بأحد الملاجئ، المهم أن تتخلص من قمامتك في الحال!

وما أوشكت قدم والده على أن تطأ خارج الغرفة حتى قال:

_أمها توفت، ولن أضع صلبي في ملجأ للأيتام!

استدار إليه أبيه جاحظ العينين، ورآه يتمسك بصغيرته بين ذراعيه، وصغيرته بدأت في الاستكانة وقد خفض صوت بكائها.

استعاد أبيه رابطة جأشه وهدده صراحةً:

_إذًا أعد نادية لذلك المنزل حتى لا أضعك أنا خارج الشركة، وأضع تلك القمامة في الملجأ بيدي!

وخرج صافعًا الباب خلفه لا يُلوى على شيء؛ فكفة الصفقة أطاحت بوزن كفة المشاعر و صلة الدم.

يوميًا كان يسمع تقريعًا يزيده بغضًا لتلك الزوجة المغفلة، آه كم يمقت علاقتهما..

لم يدفعه لمقابلة حماه سوى مكالمة والدته المريضة والتي أخبرته برغبتها في عودة نادية إلى المنزل لأجل الصغيرة حاليًا وحتى يهدأ والده؛ أقنعته بقوة أخمدت شيطان نفسه ولو قليلًا… والآن هو في طريقه إليها وكأنها جلسة عُرف لإصلاح كل شيء من وجهة نظر الكبار.

……………….

أجلسها على المقعد في ذلك الموقع الساحر بلياقة تليق به، وسألها بلطف مصطنع عما تشرب، ثم أخبر النادل بابتسامة:

_كوبان من عصير الفراولة الطازج.

أومأ النادل بتهذيب مغادرًا، بينما "رائد" لم يفته أناقتها الزائدة لاسيما كحل عيونها، ابتسم بسخرية مفكرًا:

_"وكأنه بسحرها الغامض لن أتمكن من سبر أغوارها مثلًا!"

وحين أوشك على الحديث باغتته بسؤالها:

_ما اسم ابنتك يا رائد؟

لحظات قصيرة استغرقها للمحافظة على هدوئه المُغتال وقال:

_حياء.

مطت شفتيها كأنها تحاول استساغ نطقه مرددة:

_حياء؟ جيد!

لم تكفْ بل وكأنها بدأت لعبتها البسيطة في استجوابه وأردفت:

_ألن تأخذها والدتها منك يومًا؟

أجفل لثوانٍ ورمش قليلًا مخفيًا جحوظ مقلتيه الدامعة قبل أن يخبرها بهدوء:

_توقعت أن والدك أخبرك.. أنها توفت.

سألت نفسها داخليًا:

_"أحقًا توفت؟!
ألهذا علمت بأمر زواجه ولولا ذلك لظللتٌ مخدوعة بأني الوحيدة؛ ولهذا أراكَ الآن هادئًا معي قدر استطاعتك، حقًا خُدعت! "

ابتلعت ريقها وسألته بمناورة:

_ماذا لديكَ اليوم لتخبرني إياه رائد؟

ثبت بصره على ملامحها وأجابها باختصار:

_أن تعودي إلى المنزل، ونبدأ من جديد!

نهضت والنادل يضع الأكواب على الطاولة قائلةً:

_سأفكر وأبلغك بقراري قريبًا، لكن نصيحة مني لكَ لا تتأمل خيرًا من انتظاري!

تركته بمفرده مع العصير، وفكر ساخرًا:

_"وكأن القواعد انكمشت لتختفي؛ فلم تكنْ الكلمة الأخيرة لي تلك المرة!"

تجرع الكوبان كأنهما مشروب كحولي بحسرة، ثم غادر يجر أذيال الخيبة الذكورية بعد السطوة النسائية الساحقة.
……
لم تكن سيطرته على غضبه بالأمر الهين!
غادرته والأنظار صُوبت إليه؛ امرأة لم تفتعل شيئًا سوى النهوض بمفردها فجأةً تاركة الرجل الذي جاء معها جالسًا بمفرده كالأبله…
و هو الآخر تيبس مكانه وتغطيًة على شعوره بالحسرة تجرع الكأسين واحدًا تلو الآخر بعدما انصرفت الأنظار عنه تدريجيًا قبل أن ينهض من مجلسه، لا يعرف هل كان رواد المطعم حينها يطالعونه حقًا، أم خُيل إليه ذلك؟
صدقًا، لم يتوقع ذلك العرض منها وعلى الملأ هكذا!
قاد سيارته بسرعة متهورة بعض الشيء إلى مقر الشركة، استقل المصعد إلى مكتبه الخاص القاطن بالدور الثامن من المبنى ولفافة التبغ رفيقته الساكنة بين أصابع يده اليسرى حيث يسكن خاتمه ببنصره، طالع الخاتم بسخرية وهو ينزعه ويضعه داخل جيب سترته، بداخله يدرك أن فعله هذا مؤقتًا ولو تحسبًا لأجل المظاهر حاليًا!
طالع الشارع أسفله من نافذته الزجاجية الكاتمة لأصوات الخارج حيث يوجد صخب؛ صخب يُعادل الطبول التي تقرع بعقله الآن، ولا تهدأ أبدً!
توعدها بداخله بأغلظ الأيمان أن يجعلها تندم على فعلتها تلك معه، وردد كلماتها بسخرية فجة:
_"ولكن لا تأمل خيرًا من انتظاري! "
استدار صوب المكتب الخشبي مُعطيًا ظهره لتلك النافذة؛ لكنه لم يتوقف بل ظلّ يتحرك كحيوان ضاريّ مجروح، أخذ نفسًا عميقًا من لفافته ، ثم أخرجه بعنف صارخًا بهياج:
_اللعنة عليكِ يا نادية، اللعنة!
سأقصص لسانك جيدًا مثل الورق لدرجة أن تستسمحينني مستقبلًا قبل أن تحدثي أبيكِ الذي أفسدك بدلاله المقزز.
ثم ألقى بثقله على الأريكة خلفه يلهث بشدة من انفعاله، ما كاد يستكين حتى جاءه اتصال من بيته أجابه بنفاذ صبر ليعلم أن ابنته مريضة.
كان قد نسى إخبار تلك المربية التي أحضرها منذ أيام بأنه سيتأخر، ومؤكد غادرت في العاشرة منذ عادتها كل يوم.
طالع ساعته وأيقن أن الوقت تجاوز العاشرة بكثير؛ فالآن تشير العقارب إلى الواحدة بعد منتصف الليل.
غادر ركضًا إلى صغيرته المريضة ليذهب بها لأقرب مشفى خاص.
………………..
تذكرت بشرود أمام حاسوبها المضيء حديثهما على الهاتف منذ ساعتين.
كانت نزقة في حديثها معه، رغم أنه كان مضطرًا، ولكنها تكره تغيير الخطط المفاجئ هكذا، بالأصل كان غضبها لأنه لم يعير أسفها اهتمامًا!
_ماذا يعني أنك ستعود في الصباح الباكر إلى مصر؟
مرر أنامله على خصلات شعره السوداء وقال بصوت أجش:
_هناك أزمة بسيطة في الشركة، سأعمل على إصلاحها وسآتي قبل الزفاف بيومين.
تأففت بشدة ، ثم قالت بنزق في طياته يحمل بصمة تملكها:
_طالما أنها بسيطة، فإن الأمر لا يستدعي وجودك!
حاول أن يبدو لطيفًا هادئاً قدر المستطاع، شرح بوضوح:
_الأزمة تخص المشروع الذي كنت أعمل به قبل بدء التحضيرات للزفاف، هناك مشكلة في موقع العمل وبالتالي وجودي ضروري بلا نقاش.
زفرّت بضيق، وأخبرته باستسلام:
_هل ستسافر حقًا وتتركني؟
ما زالتُ تعزف على أوتار الانتماء إليه، رغم ما تفعله في كثير من الأحيان من تصرفات محبطة؛ لكنه يعلم أنها تحاول الاستئثار عليه بحواسها كليًا، فاق على صوتها المتحشرج المضطرب تسأله بأمل:
_أما زالتُ معي على الهاتف؟
أتاها الرد مُغلف بتنهيدة قصيرة، قال بصوت هامس:
_نعم…. ولكني حقًا مضطر.
شعرت بالضيق يزحف إلى داخلها، وتشبثت بأمل صغير داعبها، ثم قالت:
_حسنًا، سأوصلك في الغد إلى المطار حتى يتسنى لي توديعك.
وصلتها تنهيدته الخافتة حين قال بحزم لا يقبل النقاش:
_لا.
رددت كلمته اليتيمة بغيظ وسألته بعصبية طفيفة ظهرت في حدة صوتها:
_لا!
ماذا تقصد بقولك "لا"؟
أخذ نفسًا عميقًا ليحافظ على هدوء أعصابه، وألا يُفجر توتره عقب المحادثة القصيرة التي تخبره بوجوب عودته في الحال إلى مصر:
_في الواقع سأسافر خلال أربع ساعات، ولن أسمح لكِ بالقيادة في منتصف الليل والعودة بمفردك.
أنهت المكالمة الهاتفية بغضب مكتوم بكلمة واحدة فقط:
_حسنًا!
ثم أغلقت هاتفها بتبرم حتى لا تسمع صوته الهادر يقرعها لما فعلته الآن، هي لم تعد لها القدرة باحتمال الكثير من الأشياء، كلما اقترب موعد الزفاف، هي تزداد توترًا وحدةً كأي عروس، وبدلًا من تواجده جوارها كما اعتادت منه تشعر بتسربه من بين أصابعها كحبات رمل متمردة!
حاولت النوم لكنه جفاها، فأشعلت حاسوبها لتشاهد فيلمًا علها تجد الإلهاء فتخفف حدة ما يعصف بها…
لكن الأمر فشل بعد نصف ساعة من المشاهدة السطحية حين سألت نفسها:
_"هل سأكون يومًا من ضمن أولوياته كعمله؟"
هي لا تنكر حبه أو حنانه الذي جذبها له منذ عامين.. حين كانت في إحدى الحفلات الصاخبة برفقة" ملك" الطائشة، ما زالت تتذكر كيف كان وسيمًا بحق عندما هبط الدرجات القصيرة المؤدية للحديقة الخاصة بفتاة إيطالية زميلة صديقتها في الثانوية، ابتسمت رغم عنها متذكرة رعب الخالة "جميلة" من اختلاط ابنتها مع أقرانها في ذلك البلد، لا لشيء سوى أن ابنتها طائشة مدللّة، وكان عليها أن ترافقها لأنها الفتاة الهادئة العاقلة التي تكبرها بعامين.
يومها كان مرتديًا سروال من الجينز الأزرق وسترة قطنية من اللون الأسود المماثل للون شعره الناعم وبدا مسترخيًا تمامًا.
كان الجو صاخبًا بشدة، أرادت الوصول إلى "ملك" وسط الحشود المتمايلة لتخبرها بأن يعودا، فالوقت تأخر كثيرًا؛ لكنها لم تجدها، فاستدارت حول المسبح الطويل تبحث عن صديقتها حين وقعت منها حقيبتها الصغيرة فانحنت بجسدها البض لأخذها.
في ذات الوقت كان يعود بظهره للخلف قليلًا حتى كاد ينزلق أرضًا عندما اصطدم بشيء ناعم، جاهد لئلا يقع واستدار سريعًا بانحناءة بسيطة ليمسك بتلك الفتاة من خصرها وإحدى ذراعيها ساحبًا إياها قربه قبل أن تفقد توازنها وتقع داخل المسبح!
رفعت رأسها سريعًا، كانت على وشك الابتعاد عنه بعدما استعادت ثبات حركتها؛ لكنه كان مقيدًا لحركتها بقبضتيه القوية، متوغلًا في استكشاف ملامحها الهادئة.
عانقت نفسها متذكرة شعورها في تلك اللحظة التي سادها الارتباك بجدارة وقالت بهمس:
_"أنا أشعر الآن مثلما شعرت بأول مرة رأيتك… مرتبكة ومتذبذبة ؛ لكنك ستغادر بعد قليل في الوقت الذي سأكون أكثر احتياجًا لك يا مراد"
لم يمض وقت طويل سوى بضع دقائق حيث عنفت نفسها بغضب:
_"أنتِ غبية، تشتاقين إليه منذ الآن، وهو جلّ ما يشغله هو مشاكل الموقع!"
……………..
ملأت حوض الاستحمام بالزيوت الطبيعية، بعض الورود المتناثرة كأنها عروس تستجم، ثم انخرطت غطسًا مغمضة عينيها تستجدي الاسترخاء…
كانت مسرورة عندما رأت سارق سعادتها يتقهقر خاسرًا؛ هي كسبت ثانِ جولة بعدما اكتسح بعنجهيته جولتهما الأولى!
سيظنها رعناء؛ لكنها ستكون قوية الشكيمة، هي قررت منذ اللحظة التي أخبرها بوفاة والدة ابنته بالعودة، ولكنها أبدًا لن تعطيه نكهة استسلامها!
فتحت عينيها ورفعت رأسها تاركة المياه الدافئة قليلًا لتأخذ نفسًا قويًا زفرّته على مراحل مفكرةً:
_"أنتَ لم تلومني على رائحة الحريق الذي بداخلي أو شكل الرماد المتكون فحسب؛ أنتَ جعلت من حبي وجبة فاخرة ومن روحي عصير طازج لكَ وحدك يا رائد.. تلذذت بكل شيء، بينما أنا ما زالتُ أشتعل."
أعادت رأسها لجانب الحوض قائلة:
_"نعم، لم يكن يُحبني، لكن مؤكد كل شيء سيتغير"
أعادت انزلاقها بنعومة داخل الحوض، تتأهب للتحدي الذي أقحمت ذاتها به!
……………
ارتدت ثيابها وأخذت تجفف شعرها بالمجفف الكهربي، نظرت لملامحها في المرآة بشرود متذكرة يوم رأته في النادي مثل أول لقاء بينهما، كانت حينذاك في الثامنة عشر ربيعًا، ومعالم أنوثتها مغلفة بخجلها الذي لا يتناسب مع أقرانها بذلك المجتمع المخملي.
كانت تنتظر رفيقتها في لعب التنس منذ ساعة حتى أصابها المللّ الشديد، تمتمت بهمس:
_"دومًا تتأخرين يا سالي!"
أوشكت أن تُخرج رواية جديدة اشترتها مؤخرًا من حقيبتها لتقرأها حين تناهى إلى سمعها بضعة كلمات من إحدى الفتيات الجالسات قريبًا منها:
_سمعت أن اليوم سيتنافس رائد أبو الدهب في سباق الخيل!
همهمات حماسية من الفتيات ما بين حماسة وإعطاء معلومة حيث قالت أخرى:
_سمعت من أبي أنه رفض الذهاب إلى الجامعة الأمريكية ليتلقى أفضل شيء وفضَّل جامعة حكومية.
قالت أخرى بهيام:
_لو كنت أعلم هذا لرفضت دخولها ودخلت كلية التجارة لأكون قريبة منه.
ضحكت الفتيات بمزاح، ثم قالت إحداهن:
_هيا بنا لنتخذ المقاعد الأولى حتى يتسنى لنا مشاهدته عن كثب.
نهضت الفتيات بحماسة شديدة تاركين خلفهن "نادية" بقلبها الواثب لمجرد ذكر اسمه، لم تراه ثانيًة مع والدها في البيت منذ أن رأته بالحديقة منذ سنوات؛ لكنها رغم هذا، لم تستطع محو ذكراه من مخيلتها.. تساءلت بداخلها:
_"تُرى هل ما زال غامضًا مثل أول مرة رأيته بها؟؟"
قدوم رفيقتها قطع استرسالها في التساؤل حيث جلست بأناقتها المعتادة، ثم قالت غامزةً بدلال مصطنع:
_أتعلمين منْ هو حديث النادي اليوم؟
أجابتها بابتسامة متحفظة، ورسمية:
_نعم، رائد أبو الدهب.
زوت "سالي" ما بين حاجبيها ثم سألتها بمكر:
_من أين عرفتِ؟
لملمت أشياءها البسيطة ووضعت عويناتها الشمسية، ثم قالت بينما تهّم بالنهوض:
_سمعت الفتيات يتحدثن عن قدومه منذ قليل، عذرًا سالي سأغادر للبيت الآن، فلنلعب في يوم آخر.
أمسكت "سالي" ذراعها وقالت بتوسل ممازح:
_لا تغادري، سنذهب لمشاهدته رجاءً.. إنه وسيم للغاية، ومن أنجح أبناء رجال الأعمال.
وقبل أن تعترض "نادية" جذبتها من ذراعها، وذهبتا لمشاهدته. قبل أن يبدأ السباق قالت "سالي" بتصميم:
_ربما أجعله من أصدقائي المقربين قريبًا…!
بهتت "نادية" حين سمعتها، تعلم أن "سالي" تمتلك الجرأة الكافية لإيقاع أعتى الرجال بغرام كيونتها على عكسها؛ فهي فاشلة في تلك الأمور!
لا يعني هذا أنها شخصية رفيقتها سيئة.
هي فقط تحب أن تحظى بالاهتمام الرجولي وأن يتهافت الجميع لنيل رضائها.
دخل الحلبة برفقة جياده البني، كان أكثر طولًا بقليل مما تتذكره وعيناه حادتان كما عاهدتهما ، وعلىّ وجهه قبل أن يغطيه بالقماشة البيضاء ابتسامة ساخرة، متهكمة!
كان الجو حماسيًا بشدة؛ ليس لتسابق الرجال الأكثر شعبية بالنادي فقط؛ لكن للفعل نفسه، كانت الأحصنة تعدو بسرعة شديدة، رغم أن "رائد" كان بالمؤخرة في البداية إلا أنه رويدًا رويدًا صار يقّارب المقدمة.
فقط هو وآخر يتنافسان للوصول إلى الخط الفاصل ليفوز أحدهما، وتوقع الجميع خسارته لأن الآخر يسبقه بعدة أمتار؛ لكن باللحظة الحاسمة زادت سرعة "رائد"، بينما قلّت سرعة رفيقه ليكون بذلك أول منْ يقطع ذلك الخط.
لم تستطع تمالك نفسها وهي تصيح مثل الباقيين بحماسة فوزه، بينما "سالي" أخرجت مرآتها البيضاوية من حقيبتها تتأكد من زينتها قبل أن تخبر "نادية" بلهجة لا تقبل النقاش وهي تستدير قبالة وجهها:
_حسنًا يا نادية كنتِ تريدين العودة للمنزل، أما أنا سأذهب لأهنئ رائد بفوزه الرائع، أراكِ لاحقًا.
وقبل أن تهمس "نادية" بأي شيء غادرتها!
هبطت حماستها إلى الحضيض، عندما بدأت تشق الحشود لتغادر إلى البيت لتشرف على طعام العشاء وتنتظر والدها كعادتها.
……………
نال منه التعب مبلغًا كبيرًا عندما دخل لفراشه واندس تحت الغطاء بثيابه دون أن يبدلها ، كان اليوم طويلًا مرهقًا درجة البشاعة. ونادية نالت القسم الأكبر من استغلال صبره، أما ابنته؛ فقد ارتفعت درجة حرارتها. وأخيرًا نامت بعدما حُقنت بإبرة طبية وهناك ممرضة عادت معه لمراعاتها.
نام لساعات قليلة قبل أن يستيقظ على صراخ ابنته بغرفته المجاورة، أزاح الغطاء من فوقه وذهب إليها وجفونه الناعسة شبه مغلقة.
دخل غرفتها وسحب صغيرته يهدهدها،ولكن كان ألمها شديدًا، فلم يكن بإمكانها أن تصمت كعادتها حين يحملها بين ذراعيه بحنو وحبّ، نزل للأسفل حيث وجد الممرضة بالمطبخ تتأكد من درجة حرارة الحليب على ظهر كفها حتى تستطيع الصغيرة تناوله.
طالع ساعته التي لم يخلعها من الأمس فوجد الساعة تقارب السابعة، أعطى صغيرته للممرضة وسألها بتيقظ:
_هل قستِ درجة حرارتها اليوم؟
أومأت برأسها بابتسامة ودودة، ثم قالت:
_الحمد لله تحسنت صحة الصغيرة عن الأمس قليلًا، ولكن مناعتها ضعيفة بشكل عام وهذا الأمر يجب مراعاته جيدًا، لأنها لا تحصل على لبن الأم؛ لذا تنقصها الفيتامينات والمعادن الضرورية، وهذا ما نحاول تعويضه الآن.
قال عابسًا مركزًا اهتمامه على صغيرته، ومهملًا إياها:
_إن كانت تحتاج للفحوصات، فسأخذها للطبيب في الحال.
ظلّت على ابتسامتها الهادئة ثم قالت:
_بعد أن تنخفض حرارتها بإذن الله سيكتب لها الطبيب ما يلزمها من وصفات طبية.
أومأ برأسه موافقًا وقال:
_حسنًا، اعتني بها جيدًا من فضلك.
وقبل أن ينتظر ردها استدار صاعدًا لغرفته ودخل إلى المرحاض مزيلًا عنه آثار البارحة، وإلى حين إشعار آخر سيدفن نفسه بين أوراق العمل.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي