الفصل الثالث

تراجعت بظهرها للوراء واضعة يدها فوق عينيها اتقاء للشمس الحارقة، وراقبت اختفاء الشاحنة المغادرة بعد أن امتلأت بسلات الخضراوات والفاكهة المتجهة إلى فندق القرية المجاورة. 

غادر المزارعون عقب أن دفعت مستحقاتهم، ثم عادت لداخل بيتها الدافئ تُعد شطيرة من الجبن وقدحًا من الحليب لابنها "مالك" الذي ما زال نائمًا حتى الآن، صعدت إلى غرفته وفي كل خطوة تتساءل عما يشغل بال صغيرها؛ لم ترى نظرة الضياع بعينيه من قبل! 

وكأن همومه ازدادت ضخامة؛ ربما لا تعلم بما يجول بخاطره، ولكن يعلم الله أنها حاولت بشتى الطرق أن تعوضه وأخته شعورهما بالنقص.. رغمًا عنها تشعر بألم النحر في قلبها..!

طرقت باب غرفته قبل أن تدخل حينما لم يصلها رد منه، تناهى إلى سمعها صوت المياه من داخل المرحاض فعلمت أنه استيقظ، ذهبت إلى الشرفة الملحقة بغرفته تتأمل حديقتها الداخلية الممتلئة بالورود المختلفة وما زالت تحمل الكوب الدافئ. 

تَذكرُ أن زرع الورود هوايتها منذ ما يزيد عن الخمس عشر عامًا، منذ كانت شابة تمتلئ بالحيوية. 

سمعت صوت أقدامه خلفها، فاستدارت إليه مبتسمة قاطعة استرسالها في الماضي:

_صباح الخير أيها الكسول. 

تناول الكوب منها و بادلها الابتسام:

_صباح الخير يا ماما. 

زوت ما بين حاجبيها وقالت بتروي:

_لمْ تقل ليّ جميلة كعادتك، ما بكَ بني؟ 

تجاوزها سائرًا إلى ملامسة السياج الحديدي بجسده الرياضي ذو البشرة البرونزية وقال متهكمًا:

_قررت أن أكون مطيعًا وأستمع إلى أوامرك يا ماما! 

استغربت هجومه المتهكم، رددت باستهجان واضح:

_أوامري؟ هل أنتَ واعٍ إلى ما تقوله مالك؟ 

استدار لمواجهتها وقال ببساطة وهو يحرك كتفيه علامة السأم:

_هلا أخبرتني أين بابا يا ماما؟

جحظت بعينيها متسائلة بداخلها هل سمعته بشكل صحيح!

من أي جحيم قفزت تلك الفكرة لداخل عقله الآن؟

لقد مضت سنون لم يسأل عنه، كانت تظن أنها ملأت ذلك الفراغ جيدًا، ولكن يبدو أنها أخطأت التقدير!

راقب انفعالاتها الصامتة والواضحة على ثناياها وعقد ذراعيه معًا وقال:

_لم أسمع ردكِ يا سيدة جميلة! 

تعنتت أن تظهر كمشتبه بها، رفضت شعور الاضمحلال حتى الاختفاء، صرخت بداخلها:

_"أنا لم أكن أعلم بأنه القاع إلا حين ارتطمت أقدامي بأرضيته، وما رضيت بالهوان، لكني أُجبرت يا مالك، وكيف أخبرك بهذا!"

ولكن حين بللت شفتيها وخرج الصوت من داخلها كان مبحوحًا:

_عمله يمنعه من المكوث جوارنا، والاتصال به من تلك البقعة صعبًا!! 

ازدادت نبرة صوته حدة وصرخ:

_جميلة، أنا لست طفلًا في الثامنة لتخدعيه هكذا! 

ثم اقترب منها ولمس وجنتيها بحنو ثم عانقها بحنو أشد، ولكنها قابلت كل هذا بلا حراك أو انفعال يُذكر… فقط كتمثال لا تتحرك، ملسَ على فقراتها الظهرية وقال:

_أسمع بكاؤك كل ليلة بسببه، هو لا يستحقك جميلة، هو تركك ونحن لم ولن نتركك!

فقدت السيطرة على مشاعرها كليًا، غرست أظافرها في أكمام سترته القطنية، احمرَ وجهها من الخزي والغضب وصرخت بشهقة متشنجة تبكي بحرقة مثل طفلة فقدت أمها، اشتدت محاوطته لأمه عاصرًا قبضتيه من الفتك بمن سبب لها ذلك الانهيار، وانتظرها تُفرغ ما بجعبة روحها لتصبح خفيفة بعدما أثقلتها الضغوط، ولا يدري من منهما الآن يلعب دور الأم أو الابن..!

حين هدأت نوبتها تدريجيًا ، ابتسمت له بامتنان وقالت:

_أنتَ ستظلّ ابني الحبيب، ولكن….

قبلّ جبينها ثم يديها الواحدة تلو الأخرى وضغط أعصابه بشدة للحظات ثم قال:

_لا يوجد لكن! الأهم أنكِ ستظلّين جميلة التي أحبها.

ثم أبعدها قليلًا عنه وقال بمزاح مُخفيًا بركان غضبه الذي لا ينضب:

_أرى أن أستغل تلك اللحظة لعقد اتفاق معكِ في غاية الأهمية.

تصنعت عقد ما بين حاجبيها وقالت:

_وما هذا الاتفاق الهام؟ 

ابتسم بفخر وقال:

_أود الاستيلاء على نصف المطبخ في مقابل رشوتك بوجبات من صنع يدي! 

ضحكت على تفكيره وأخبرته:

_حسنًا كما تريد، ومن الآن سأتفقد وجود أدوات الإسعاف الأولية! 

غضب مصطنعًا، وجزَ على أسنانه حانقًا ثم قال:

_حسنًا يا جميلة، لن تتذوقي شيئًا مما أفعله. 

خبطته على كتفه وقالت:

_لن تجرؤ يا ولد، والآن سأتركك وأستعد لمقابلة عليا وخطيبها.

اتجه للداخل صوب حاسوبه المحمول لتشغيله وقال بينما تستعد أمه للخروج:

_اتفقنا. 

غادرت إلى غرفتها، ولحظات انهيارها لا تفارقها؛ فما نبع منها خطأ جسيم، رغم أنه يحاول بشتى الطرق إقناعها بأنه الآن ناضج ورجل يُعتمد عليه مثلما حدث الآن.. إلا أنه ما زال مندفعًا بكل حواسه؛ وهي فشلت في أول مواجهة حقيقية لاندلاع مارده، كأم عاقلة، ومتفهمة لطبيعة عمره!

………………

تقف منذ خمس دقائق حسبتها خمسة قرون تراقبه من تلك الزاوية الخفية بعدما أبدلت ثيابها بثوب عربي يعود لزمن صلاح الدين الأيوبي.

وجدته ارتدى ثياب لتلك الحقبة أيضًا؛ ولكن ما جعل الدماء تتصاعد بشدة داخل عقلها، ويزداد غليان الدم في عروقها هو رؤية هذه المدعوة "صوفي" تقترب منه بطريقة مبالغة، وهو لم يُبعدها عنه.. تعرف جيدًا نظرات النساء وأن درجة تقرب تلك الأربعينية منه تحمل في طياتها إعجاب صريح، ومشمئز! 

سارت كأنها تُنفث نيرانًا مستعرة تدفعها للإسراع بقتل تلك المرأة، فقط صوت "ملك" من ورائها جعلها تتوقف عما كانت تنويه، وجاهدت لاستعادة سيطرتها على نفسها في اللحظة التي اقتربت منها "ملك" وسألتها بريبة:

_ما بكِ يا عاليا، هل أنتِ بخير؟ 

جزّت على أسنانها وقالت بنبرة تهديد دون أن تستطع التحكم جيدًا بها:

_ملك! اجعلي تلك المدعوة صوفي تبتعد عن خطيبي في الحال! حمدًا لله أنني ارتديت آخر ثوب لتلك الجلسة التصويرية، لأني لن أطيق رؤيتها أكثر من هذا.

ضحكت ملأ شدقيها على صديقتها ذات الغيرة المحمومة ثم قالت بعدها بابتسامة واسعة:

_اهدئي يا عليا، لو اقتربتِ منهما ستسمعين أنها تخبره أنه يشبه المحاربين الأقوياء لتلك الحقبة، وأنه يُذكرها بزوجها الذي هو من أصول عربية.

قطبت ما بين حاجبيها وقالت ببلاهة وفم مفتوح:

_ماذا؟ لا أفهم شيئًا. 

أمسكتها صديقتها من ذراعها وسحبتها معها إلى حيث يقف خطيبها وصوفي وهمست لها:

_بل ماذا دهاكِ أنتِ؟ ما سمعتيه صحيح، والآن امحي هذه النظرة الحمقاء عنكِ قبل أن يفرّ الرجل منكِ، ومن غيرتكِ غير المبررة!

استدارت إلى "ملك" وابتسمت بسماجة ابتسامة واسعة وهمست بقلق:

_هل هكذا شكلي لطيف الآن؟

أشارت إليها "ملك" بعلامة الرضا وقالت:

_بل إنه أكثر من ذلك حبيبتي. 

……………….. 

انتهى من عمله باكرًا ليعود ركضًا إلى صغيرته، ما زالت تبكي بشدة كلما ابتعد عنها، كأنها تشعر بالوحدة وتشاركه السكون حين يعود ويتلقفها بين ذراعيه جوار قلبه، فتعطيه ابتسامة رائعة بعينيها العسليتين، الحقيقة أنها لا تُشبه أمها ولا تُشبهه، هي تُشبه جدتها! 

لا يعلم أي طباع ورثتها من أمها أو منه، فقط يروقه احتواءها، لو كانت أمه هنا لأحبتها من النظرة الأولى. 

لم يزوره حتى الآن سوى أخيه الصغير "رامز"؛ جاء ليطمئن عليه بعدما علم بقدوم والده في الليلة التي سبقت مجيئه. 

أخذ نفسًا سريعًا أخرجه على مراحل مفكرًا أن أخيه الصغير الذي لا يخضع للمراقبة، عاشق للسيارات وهندسة صنعها؛ ولكن بما أن الفكرة نفسها قد تُدر ربحًا إلى المجموعة، فقد وعده والده بمساعدته ما إن يتخرج من كلية الهندسة، كلما تذكر والده، ومواقفه معه، شعر بالخذلان والحزن العميق، إنه ثائر دون أن يستطع التعبير عن حاله جيدًا، يشعر بأن وحدها صغيرته تبادله تفهم حالته، تستكين تمامًا عن رؤيته، تخبره بسكْنها أنها تثق به، وتطمئن بجواره.

حين أتى جلب معه هدايا كثيرة لصغيرته، رغم أنه الفاسق الصغير إلا أن عقله يستوعب الكثير مما يدور حوله، وبحنكته يحول الأمور لصالحه كعادته! 

أراد أن يستعد جيدًا للقائه مع "نادية" ولم يجد أقوى مفعولًا من الانزواء بغرفة المكتب بعدما نامت صغيرته، طالع ساعته الذهبية فوجد أمامه ساعتين قبل أن يتجهز للخروج؛ ربما في ذلك الوقت وبين أوراق الملفات ورائحة التبغ يضع حبكة قوية لإعادة نادية إلى المنزل في أقرب وقت!

…………………

جلست في المقعد بجانبه في سيارته في انتظار عودة "ملك" من تنسيق بعض اللمسات الأخيرة مع تلك الأربعينية.

أخذت تفرك أصابعها، وتعلم أن "مراد" يُتابعها في هدوء؛ هدوء دفعها للجنون؛ ما زالت تنتظره ليسألها عما بها، ولكنه لم يفعل! 

امتدت أظافرها دون وعي منها إلى تنورتها القماشية وما زالت تفركُ، سمعت صوته يسألها بوضوح:

_ما بكِ يا عليا؟ هل حدث شيئًا لتكوني في هذه الحالة، حقًا ستمزقين تنورتك. 

استدارت إليه دفعة واحدة وبدأت هجومها بحدة:

_أنتَ لم تقل لها أن تبتعد عنكَ يا مراد، لقد كانت تلتصق بكَ كالبعوضة! 

ابتسم في الخفاء ثم استدار إليها متصنعًا العبوس والتأفف:

_أنتِ مجنونة يا عليا، إنها امرأة أربعينية العمر، كيف سأنظر لها بما يخُيله لكِ عقلك؟! 

حدقت به بما يُشبه دفعه دفعًا للاعتراف بنفسه و قالت بشموخ:

_لكنك قُلت إنها امرأة جميلة ومرحة منذ رأيتها قبل بدء التصوير. 

اغتاظ من أسلوبها الواضح وقال بهدوء قدر المستطاع:

_يا رب السماوات والأرض أعطيني صبر أيوب! تُرى هل سأغازل امرأة أخرى وخطيبتي جواري وزفافنا بعد أيام قليلة؟ 

سحبت نظراتها من فوق ملامحه ببطء واستدارت تطالع الخارج من نافذتها وقالت بغضب مكتوم:

_إذًا كنت ستفعل لو لم أكن موجودة يا مراد! 

لم تسمع رده، واستدارت تنظر إليه، فهالها ما رأته؛ بدت كمذنبة أمام تحديقه المرعب بها، همست بداخلها:

_"آآه، يا لكِ غبية يا عليا!! "

باندفاعها المتهور أصابت وترًا حساسًا بعلاقتهما، تعلمه كيف يمقت انعدام الثقة به وتخوينه، وهي بكل جدال معه تنسى تلك النقطة! 

أبعدت بؤبؤي عينيها عنه تدريجيًا وقالت بصوت يكاد يسمعه:

_أنا آسفة! 

لم تلق ردًا منه أيضًا، فأثرت الصمت، وبداخلها أكملت همسها:

_"مؤكد ستقودك يومًا غيرتك إلى قتلك! "

حتى حينما عادت إليهما ملك بوجهها البشوش، لاحظت حالة التوتر المسيطرة عليهما… ف" عليا " أخذت تفرك من جديد ووجهها أصبح قانيًا، بينما" مراد" صامت يركز في الطريق أمامه؛ وتلك ليست بعادتهما حين تكون معهم.

……………. 

منذ الأمس تطالع خاتمها الذهبي وكأنه صار قيد يشلّ حواسها، النوم جفاها ولم تستطيع إخبار والدها تفصيلًا عما حدث.. فقط اكتفت بقولها:

_غادر وبالغد سنلتقي…! 

حياتها معه متذبذبة، فقدت أكبر عون لها من طرف عائلته منذ أن سافرت والدته لتلقي العلاج في الخارج بصحبة ابنتها الكبرى "ريهام" وابنها "رأفت" الذي يكبر "رائد" في السن. 

بينما حماها يعيش مع الابن الأصغر للعائلة "رامز"، فزوجها" رائد" هو الأوسط ورغم ذلك هو صاحب أكبر نفوذ لاستماته في العمل بتفانٍ.

عادت بذاكرتها للوراء حينما عاد ذلك الشاب بصحبة والدها الملهوف عليها بعدما أخبره بأن طفلة ما بالحديقة تبكي بعدما جرحت نفسها. 

اقترب منها والدها وعانقها مربتًا عليها بحنو:

_بنيتي، لقد جرحتِ نفسك.

تفحص الجرح جيدًا وقال بسرور رغم تيبسها بأحضانه:

_لا تقلقي نادية، ولكن لن يكون هناك لعب كثير بالحديقة مثل السابق. 

كانت تختبأ بكنف والدها وما زالت كالجرو الصغير خائفة، وما سمعته من نبرة صوت ذلك الشاب لم يُريحها رغم عدم إدراكها لماهية السبب، يكفي أنه قال:

_لا تقلق يا سيد أحمد، فالأطفال عادة يجرحون أنفسهم، فلا أرى داعي لذلك القلق! 

استدار إليه "أحمد ياسين" مبتسماً وأوضح قائلًا:

_إنها ابنتي الوحيدة من زوجتي رحمها الله يا رائد، بالطبع أخشى من كل وأي شيء قد يؤذيها..!

هزّ "رائد" رأسه حينها وغمغم بكلمات لم تفهمها وليس لديها الرغبة لذلك.

ربما لم تعي حديثه حين كانت صغيرة لكنها الآن فهمت بكل وضوح أنه قاسٍ بطبعه! كيف انتظرت منه أن يُحبها؟

لقد صدق قوله حين قال أن ما يجمعهما سويًا هو فكرة الدمج الاقتصادي؛ فلا هو ذائب بعشقها ولا لديه نية صغيرة ليحبها!! 

وهي عالقة بالمنتصف لا اهتدت للسبيل الأقوم ولا حفظت خارطة العودة، فقط ضلّت ما اُهتديت! 

…………….. 

هبطت للأسفل متجهة صوب المنزل الزجاجي الصغير الخاص بها؛ من خلف زجاجه ترى حديقة الأزهار خاصتها، هي لم تعرف أي شيء في الزراعة منذ أن جاءت إلى إيطاليا سوى الورود.

بعدها اقترحت صديقتها "كاميليا" أن توسع نشاطها ليشمل بعض الخضراوات والفاكهة المختلفة، وإلا سينفذ مخزونها المالي ولا تجد ما تعول أولادها به في ذلك البلد الأجنبي الغريب عنهم. 

لمحات من الماضي ترهقها ولا تستطيع الهرب منها جيدًا إلا حين تختلي بنفسها في ذلك المكان، تشعر بأنه يحوي كل ما يُشبها بلا تزييف! 

لطالما كان الزرع هو أقرب المهدئات الطبيعية بالنسبة إليها، ترى تصغير الحياة به، تهتم بالبذرة الصغيرة، ترويها بعناية بالغة؛ ومن ثَم تحصل على نتيجة مُرضية وطيبة. آه لو أن كل شيء في الحياة يسير بقوانين نمو النبات!

انغمست في تفقد بعض أزهارها وريّ البعض الآخر بالماء ولم تشعر بمرور الوقت إلا حين تناهى إلى سمعها صوت ابنتها تناديها، خلعت قفازيها الجلدي وخرجت من مكانها، فوجدت بصحبة ابنتها صديقتها وخطيبها، رحبت بهم قائلةً:

_مرحبًا مراد، عليا، ملك… كيف كان اليوم؟ 

صافح يدها بابتسامة رجولية صغيرة وقال:

_كان جيدًا، كيف حالك سيدة جميلة؟ 

سحبت يدها بعدما صافحته وأجابته ببسمة صغيرة:

_الحمد لله. 

ثم استدارت إلى "عليا" وقالت:

_لدي هدية صغيرة لكما.

ثم نظرت إلى مراد ثانيًة وقالت:

_رافقني أرجوك لأعطيك إياها فيما تجلس عليا مع ملك وتتناول العصير. 

سار معها يعلوها بطوله مقارنًا بقامتها ولم يغب عنها تشنج عضلات جسده وإن كان يخفي الأمر تحت قناع الهدوء؛ شعرت بأنه الوقت المناسب حقًا لإعطائهما تلك الهدية. 

دخلت البيت الزجاجي وتبعها ثم ذهبت إلى ركن بها بينما جلس على الكرسي الخشبي ، انحنت ولحظات واستقامت بقامتها متوسطة الطول وعادت إليه وقد أحضرت نبتة صغيرة ذات شكل غريب قليلًا؛ ورغم ذلك إلا أنه محبب إلى القلب. 

ناولته إياها وقالت:

_تفضل يا مراد، لدي حديث قصير معك. 

تلقاها منها بأدب ووضعها على الطاولة الخشبية المستديرة أمامه، ثم وضع كفيه محاوطًا إياها، همس بابتسامة مهذبة:

_شكرًا لكِ، تبدو جميلة للغاية. 

جلست فوق الكرسي المقابل له، أخذت نفسًا عميقًا وقالت بابتسامة صافية:

_إنها هدية صغيرة؛ لكني أردت أن أقول بعض الأشياء إن لم تمانع بالطبع. 

ابتسم بتفهم وقال:

_لا عليكِ سيدة جميلة، أنا أحب الاستماع إليكِ في أي وقت، وبأي موقع حيث نتواجد سويًا. 

ابتسمت باطمئنان وأشارت بعينيها إلى النبتة التي وضعها فوق الطاولة الخشبية وقالت:

_تلك زهرة البيلسان، أريدكما أن تعتنيا بها جيدًا، هي ستشبه حياتكما القادمة، ستكون مصدر العطر والبخور لكما. 

نظر إلى تلك النبتة بتمعن وفكرَ كأنها تعرف ما حدث بينهما قبل قليل دون أن يتحدث أحدهما بشيء! 

رأته صامتًا وشجعها ذلك على الاستمرار بحديثها، وقالت:

_أنتَ العمود الرئيسي في تلك الزيجة، أنا أثق أنكَ تُحب عليا، وهي أيضًا تُحبك؛ عليكما ألا تجعلا شيئًا يُعكر صفو حياتكما، ولأن كل شيء يقع على عاتقك، فأنتَ رجل البيت؛ ولهذا تحدثت معكَ الآن وحدك. 

أخذت نفسًا عميقًا وأخرجته على مهل وأردفت:

_المرأة عادة ما تُؤثر بها هرموناتها، تارة تجدها تتقرب منك وتخبرك كل تفصيلة في حياتها بشغف، وتارة تجدها متيبسة في أفعالها على عكسكم أنتم يا معشر الرجال، فلا تدفع عليا إلى التصرف بعيدًا عنكَ في أي أمر، احتواؤها مهمتك، أفهمت؟ 

أومأ برأسه وابتسم:

_فهمت يا سيدة جميلة، عرفتك منذ أشهر قليلة ولكن كل حديث بينا مهما كان قصيرًا يزيدك تقديرًا بداخلي! 

ضحكت بخجل و أجابته:

_بالخبرة والتجربة ستفهم كل شيء و لكن سيكون الوقت تأخر لإصلاحه لو لم ينصحك أحد وتتقبل النصح أو على الأقل تفكر في فحوى النصيحة، وشيء آخر أود قوله إذا سمحت؟

سألها بفضول:

_ما هو؟ 

نظرت إلى النبتة مطولًا ثم إليه وقالت:

_ما زالت عليا صغيرة في السن، رغم أنها تكبر ابنتي بعامين، لكنها تشبه تلك النبتة ما زالت ضعيفة تحتاج لظروفها الطبيعية لتنمو وتزدهر وهي ستبتعد عن أبيها وأمها لتبدأ حياتها معك. إنها فتاة أبيها المدللة، من الصعب جعلها تتقبل أشياء لا تريدها؛ لأنَّ حينذاك ستجدها متمردة وبطبعك لن تحب تمردها عليك، فعليك احتواءها ومراعاتها جيدًا. 

 شرد في موقفه السابق معها؛ استدرك نفسه في ثوانِ وقال مُشيرًا إلى خافقه الأيسر:

_سأحاول أن أوفر الظروف الطبيعية لعليا، صدقيني أنني بالفعل أحاول.

ثم نظر إلى النبتة بابتسامة وقال:

_وأيضًا لتلك النبتة، سأحاول. 

ابتسمت بصدق تمده من خلاله بثقتها بقدرته على فعل ذلك وقالت:

_تذكر يا سيد مراد أن لا شيء يأتي بموعد محدد، مثل المصائب المختلفة؛ لأننا لو علمنا موعدها سنستعد لها جيدًا بقدر الإمكان، لكنها تباغت الأمر، بلا موعد، مثل الحب تمامًا.

وما يجعلنا نتخطى الكثير هو وجود المودة والرحمة، التفاهم والصبر، والتضحية دون أن تخبر الطرف الآخر.. (لقد ضحيت من أجلك، ألم ترى هذا؟)

تنهد عميقًا:
_معكِ كل الحق سيدة نادية.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي