الفصل الثاني

_اسمعني جيدًا قبل أن يأتي أحد، حاول ياأخي أن تنفذ بجلدك من هنا وتُنقذ نفسك قبل أن تتورط.
_ماذا هناك، عن ماذا تتكلم؟
_سامحني، لا أستطيع توضيح أي شئ، إنما جئتُ خلفك لتحذيرك، يبدو أنك رجلٌ طيب لا تدري شيئًا مما يدور حولك.
_لم أفهم، ممن تُحذرني؟
_ أُحذرك منهم جميعًا ومن......
ساد الصمت بشكلٍ مفاجئ واختفت الكلمات من على لسان "مصطفى" وكأنما ابتلعها عند رؤيته ل"أحمد" يدخل علينا قائلًا: ما بكم، لماذا تأخرتم؟
أجابه "مصطفى" "وهذا اسمه" بلسانٍ قد جفَّ بداخل حلقه وهو يُحاول الإبتعاد بعينيه عن نظرات "أحمد" الحادة التي لا أدري ما الداعي لها:
_كنتُ أساعد "خالد" وها قد انتهينا.
اتجهت أنظار "أحمد" إلى حيثُ الأطباق والكؤوس التي ما تزال على حالها كما رُفعت من أمامهم، ولم يُعقب بشئ في حين استدرك "مصطفى" حديثه في ارتباك : أتحتاجون مني شيئًا أريد أن أُغادر؛ فقد تركت كتبي ودراستي ..وقد تأخرت، سلامُ الله عليكم.
أسرع بخطواته مُغادرًا بينما رددتُ عليه أنا السلام في حين ظل "أحمد" يُلاحقه بنفس تلك النظرات الغريبة لاتتغير.
تعجبتُ مما حدث لكن مضى الموقف ولم يأخذ مني كل ذلك الاهتمام..فقد قمت بتفسير الأمر بأن هذا الشاب لم يعتريه سوى قليلٌ من الغيرة مني لعملي المُتقن فقرر اخافتي حتى أعتزل عنهم.
مرت بي الأيام وأنا أُثابر على العمل بجد ونشاط واكتسب المال الكثير من وراء عملي وبدأ حالي يتغير ولله الحمد..لكن مرَّ اجتماع آخر وهذا الثاني للشباب ولم أرى ذلك الرجل منذ أن افترقنا في المطبخ..راودني الشك حول غيابه، سألتُ "أحمد" عنه: ألا تدري لماذا لا يأتي "مصطفى" لحضور اجتماع الشهر.
_ نسيتُ أخباركم بأنه قد سافر لبلده لأجل ظروف مُتعسرة خاصة لديه..سيعود حالما يقوم بحلها.
هززتُ رأسي دليل فهمٍ، بينما عقلي لايستوعب ذلك: نعم فهمت، يهون الله عليه ما هو فيه.
عُدت لسؤاله من جديد: أليس لديه رقم هاتف تُعطيني إياه لنطمئن عليه؟
ابتسم "أحمد" قائلًا: من..مصطفى لديه هاتف..من المستحيل فهو لايُخب أستعماله أبدًا، وهذه من الأمور التي كنا نضحك عليه فيها كثيرًا عدم اقتناعه باستعمال هاتفٍ محمول في وقتنا هذا.
_ كل شخصٍ ولديه أفكار يقتنع بها وتصرفاتٌ يفعلها ويصبح مصرًا بأنه هو من على حقٍ فيها فقط.
_ معك حق، كلًا وما يقتنع به.
أنهى كلماته تلك والتفت إليّ متممًا حديثه: أتريد أن تقول لي شيئًا آخر أو تسألني يا "خالد"؟
_لماذا تقول هذا؟
_أشعر بأن على لسانك حديثٌ تُقاوم نفسك للإدلاء به منذ آخر مرة كان فيها "مصطفى" هنا..في ماذا كنتما تتحدثان ذلك اليوم؟
_ لا أنت تتوهم فقط، وبالنسبة ل "مصطفى" كان جُلَّ حديثنا ينّصب حول الدراسة وهمومها، لاشئ غيرُ ذلك.
_حسنًا، وفقكم الله.
انتهى الحديث يومها على ذلك ولا أعرف لماذا بدأ القلق يتسرب لنفسي خاصة بعد ملاحظتي وجود كاميرا صغيرة في زاوية المطبخ العلوية..لولا الصدفة لما لاحظتها..فلا تكاد تراها من صغر حجمها ودقة مكان وضعها.
بدأ الفضول ينتابُني ويتغلغل بداخل قلبي خاصةً عندما أتذكر كلمات ذلك الشاب "مصطفى"، ليته يعود سريعًا لأستطيع أن أفهم منه مقصده.
توالت الأيام دون عودته، ترعرعت فكرةٌ داخل عقلي لأطمئن، لكن بِتُ انتظر الوقت المناسب لتنفيذها.
مرَّ حوالي أسبوع آخر والحال كما هو عليه..لا جديد يُذكر ولا قديم يستحقُ الإعادة إلى أن بادرني "أحمد" بالحديث ذات مساء:
_ هل لا يزال أمامك الكثير من العمل؟
_ نعم القليل، أُريدُ إنهاء هذا المجسم الذي بين يديّ؛ فيوم السبت ستبدأ اختبارات نهاية الفصل، ولا أُخفي عليك أُريد أن أتفرغ للدراسة وأتوقف عن العمل قليلًا حتى تنتهي أختباراتي.
_ جيد، يوفقك الله..إذن ساتركك قليلًا، لديّ عملٌ ضروري، سأعود لك بعد حوالي ساعة تكون قد انتهيت.
_حسنًا يكفيني هذا الوقت ويزيد، لكن اتسمحُ لي بسؤال قبل أن تخرج؟
_تفضل، عن ماذا تسأل؟
_لما كل المُجسمات تطلبون تصنيعها مُفرغة، ألا يُقلل ذلك من جودتها لدى المشتري؟
_انا مثلك تعجبتُ من الأمر في البداية، وجدتُ أنهم هم من يطلبون ذلك منا وعندما تسألتُ عن السبب أجابوا بأن ذلك يقلل من وزنها فيسهلُ حملها، المهم بالنسبة لديهم هو الشكل الخارجي؛ فهو يُظهر جمال الفن الحقيقي، كلًا وفكره كما قلنا.
ضحك خالد مُنهيّا حديثه: فعلًا، قد صدقت.
_إلى لقاءٍ قريبٍ إذن، سلام.
أشار "خالد" إليه بذراعه مُودعًا وانتظر خروجه وبعد أن تأكد من ابتعاده وهو يتتبعه بنظراته من خلال النافذة، بدأ جولة تفتيشية للبيت عساه يجد ما يُفسر علامات الاستفهام الكثيرة التي تغزو مخيلته من حينٍ لأخر.
كانت الشقة كبيرة وذات غرفٍ كثيرة..قام بفتحها جميعها، لا شئ فيها، بحث في المطبخ كذلك..ليس هناك شىء مريب سوى أمرٍ واحد قد شغل تفكيره، ألا وهو كمية الكاميرات التي تملأ المكان حيثُ بتفقد المكان وجد حوالي ستٍ منها موزعة على البيت بأكمله.
لم تتبقى سوى الغرفة الأخيرة وهي غرفة النوم الموجودة آخر الممر الطويل الذي لا يحتوي سوى المطبخ و دورة المياه.
حاول فتحها فوجدها مغلقة بمفتاحٍ، لا يدري ما كل هذا الفضول الذي اعتراه وبات ينخر عقله وقلبه..شعور رهيب لديه أن هذه الغرفة قد تحتوي شيئًا من الممكن أن يُزيل الغموض الذي يشعر به..وقد كان على حق فبعدما أتى بسكين وبطريقة فنية معينة فتح الباب كانت صدمة رهيبة وكبيرة له.
ما إن فتح الباب حتى اضطربت نفسه مما يرى؛ فلم تكن تلك بغرفة نوم أبدًا.
كانت عبارة عن غرفة مراقبة بمعنى الكلمة..هي أكبر غرف البيت لدرجة أنه تم تقسيمها لغرفتين يفصل بينهما جدار زجاجي يتوسطه باب.
ذلك الجزء من الغرفة الذي دخله "خالد" كان به مكتب كبير يحتوي أدراج كثيرة وعلى سطحه شاشات كثيرة متوسطة الحجم تكشف كل ما في البيت تقريبًا، وكأنما أصبحت مقرًا لكادرٍ من إجهزة التجسس والمتابعة.
توغل الفضول بداخل "خالد" أكثر فأكثر، بات ما يشعر به ليس خيالًا، بل حقيقة ملموسة بأن هذا الرجل يُخفي شيئًا، وشيئًا ربما يكون خطيرًا.
فتح الأدراج فلم يجد بها سوى أوراقٍ وملفات، اتجه نحو الباب الذي بمنتصف الجدار الزجاجي..توقع أن يكون مغلقًا أيضًا لكن بمجرد أن فتحه فُتح معه بسهولة.
دخل يتفحص الغرفة الصغيرة وليته ما دخل، صُدِمَ من هول ما رأى.
كانت مفاجأة عنيفة جدًا ل"خالد".. لو كان أحدًا غيره لسقط مغشيًا عليه من هول ما وجده، كل ما شعر به الخوف، وما بعد الخوف بقليل، وهذا ما عاد به إليه فضوله من شر، لم يستطع التحكم في معدته، أغلق الباب مسرعًا والباب الآخر أيضًا واتجه جريًا لدورة المياه يُفرغ بها ما بمعدته_عافاكم الله_.
خرج "خالد" من دورة المياه بعد أن ارتاح قليلًا ووجهه مُصفر من الذهول والإعياء، لم يستطع الحديث حتى مع نفسه في الأمر..تذكر ما رآه بعينيه، لملم حاجياته وخرج من الشقة مُسرعًا.
وماهي إلا ثوانٍ معدودة حتى كان بداخل غرفته على السطح وبعد مرور حوالي الساعة والنصف عاد "أحمد"، بحث كثيرًا عنه ولم يجده..فقام بالاتصال به:
_ خالد إلى أين ذهبت يارجل؟
أتاه صوت "خالد" يعتريه بعض الرجفة: شعرتُ ببعض التعب قليلًا، وكأن بي حمى، قلت لنفسي لأرتاح قليلًا عسى أن أتحسن، وسأُتمم بقية العمل غدًا بإذن الله.
_ألف سلامة لك يا عزيزي..كنتُ فقط قد أحضرتُ معي بعض المأكولات لنتناول العشاء معًا.
_بالهناء عليك، لا أظن أن معدتي ستحتملُ حتى الماء.
_إذا لا تستطيع النزول، أصعدُ أنا إليك، لا تقلق.
خرجت تلك ال "لا" من حلق "خالد" أشبه بالصرخة منها لردٍ على سؤال: لا..لا لاتُتعب نفسك، لا أستطيع الاكل صدقني.
استعجب "أحمد" ردّ فِعل "خالد" وطريقته، لكن لم يتعدى الأمر كثيرًا من الإهتمام لديه فأنهى مكالمته قائلًا: حسنًا ليشفيك الله، وإن شعرت بضرورة ذهابك للمشفى فقط اتصل بي، نحن أخوة كما تعلم.
_حسنًا، تصبح على خير.
_ وأنت من أهله، إلى اللقاء.
إلى تلك اللحظة لم يشُك "أحمد" في شىء إلى أن أنهى مكالمته مع "خالد" واتجه نحو الغرفة التي من سرعة "خالد" في الخروج منها لم ينته لإعادة إغلاقها بالمفتاح كما كانت، هنا دخل "أحمد" مسرعًا للكاميرات ليرى من فتح باب الغرفة في غيابه، أو أنه ربما قد نسى إغلاقها.
مرت أول ساعات تلك الليلة ولم يطال النوم عينيّ "أحمد" أو "خالد" فالثاني يرتجف تحت غطاءه وكأنه مصاب فعلًا بحمى شديدة في منتصف فصل شتاء، والأول بعد رؤيته للكاميرات يدور في البيت كالمجنون، يثور داخله وكأنه يقبع على بركان يقذف حِممًا تتجاوز حرارة صيفٍ بأكمله.
ومع بزوغ فجر اليوم التالي بات " خالد" يُكلم نفسه، يحثها ليشتد عزمه قليلًا ويتمالك ماتبقى من شجاعةٍ لديه، وعند ظهور ضوء النهار سيذهب ويقوم بإبلاغ الجهات الحكومية وهذا ما عزم عليه صديقنا.
طرقاتٌ خفيفة على باب غرفة السطح، ومن ثَمَّ يتبعها طرقاتٌ أشد، وبعدها أصبحت أشبه بالضربات و"أحمد" يصرخ بعلو صوته: خالد، ياخالد، أين أنت؟
وعندما لم يأتي إليه أيُّ ردّ يُذكر جمع كل قوته في تلك الركلةِ التي أزال بها الباب أمامه دون أي احترامٍ لأي خصوصية لكن أعطى نفسه العذر، فقد كان "خالد" هو أول من بدأ بالتفتيش والاعتداء على خصوصيات الغير، و"البادئُ أظلم" كما خاطب نفسه.
أصابته الدهشة بخلو غرفة السطح من ساكنها، فلا آثر يُذكر ل"خالد"،بحث خارج الغرفة وحولها على السطح، هنا وهناك وفي دورة المياه، لا آثر، فتح خزانة الملابس لتتبدل الدهشة لديه إلى غضبٍ عارم، فقد تأكد أن ”خالد" قد غادر المكان فعلًا.
جلس على مقعدٍ بجانبه حائرًا، غاضبًا، لايدري ماذا سيفعل في آمر كهذا، مضطرب حتى أنه بدأ يُكلم نفسه: يا إلهي إلى أين ذهب هذا الغبي..لقد رأى كل شئ، كل شىء.
ضرب يده بقوة الطاولة الموجودة أمامه حتى كاد يخلعها من مكانها.
أحاطت به لحظاتٌ من صمتٍ مُميت بالنسبة له حتى قطعه هاتفه وهو يُصدرُ صوتًا فقفزت إلى ذهنه فكرة قد غابت عن تفكيره بسبب غضبه: يا لعقلي، لماذا لم أطلبه بالهاتف.
أسرع يتناوله من جيبه ليطلب سريعًا رقم "خالد"، لكن وكما توقع رنين مستمر ولا أحد يُجيب، حاول مراتٍ عدة بلا فائدة.
لكن حين ما وضع هاتفه بجانبه بعد أن أصابه اليأس من رد "خالد" عليه؛ انتبه لرسالة منه جاءت إليه على هاتفه، أسرع يفتحها فكان مضمونها (("أحمد" لا سامحك الله يا أخي على ما فعلته بي، وأنا أنصحك فقط لأجل معرفتنا القصيرة، عُدّ إلى رشدك، تُب إلى الله وسلم نفسك للجهات الحكومية أفضل لك، بالنسبة لي أنا لا تُحاول البحث عني، أنا إنسان جبان لم أستطع التبليغ عنك، لكن الله _سبخانه وتعالى _ عقابه كبير، ومُطلع على كل شئ، احذر"
اتسعت عينيّ "أحمد" بينما استشاط عقله غضبًا فوق غضب حتى أنه رمى بهاتفه صوب الحائط فوقع أرضًا مُحطمًا، مفككًا، كل قطعة بعيدة عن الأخرى.
_منذ زمن ولا أحد يعلم شيئًا عني، ليأتي هذا الغبي يفعل ذلك بي في أقل من شهرين، كيف، كييييف.
جلس يُفكر حتى تملكه شئٌ من الهدوء فقد أدرك من خلال الرسالة أنه أمام خيارين، أما أن يكون "خالد" إنسان جبان ولن يقوى على التبليغ عنه وقد ابتعد في هدوء والخوف سيجعله ينسى كل شىء وهكذا سيكون قد حافظ على حياته أو الخيار الثاني بأنه سيعود يومًا، فقد ذاق طعم كثرة المال وحلاوة وقّعِ ذلك على النفس وحينها سيقضي عليه ويُنهي حياته وينتهي الأمر برُمته.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي