الفصل الثالث

(ما الذي جرى لك "خالد" وكأنك لست أنت عزيزي، منذ عودتك من المدينة وأنت على هذا الحال، تسجن نفسك في غرفتك ولا تتكلم مع أحد)
كانت هذه الكلمات ل"صفاء" شقيقةُ "خالد" وقد أصابها التعب من هذا السؤال الذي تكرره كل يوم عليه، وها هو اليوم السادسُ لعودته ولا يجيب ولا يأتي بأيّ ردة فِعل.
الكل في البيت قلقٌ عليه وعلى حاله والدته وأخيه واخته، لكن لا جدوى من السؤال، حتى إنهم قد ملأ قلوبهم اليأس من معرفة ما حلّ به هناك حتى عاد بهذه الحالة، وجهٍ شاحب بعينين جاحظتين متسعتين يملأهما الخوف والترقب، لا نوم، لاكلام ولا حديث والأكل والشرب قليل بما يسدُ الرمق للحياة فقط،
حتى عندما حاولوا عرضه على الطبيب امتنع ورفض.
ربتت "صفاء" على كتفه تهون عليه مُصابه، خرجت ككل يوم تجر أذيال الخيبة عن معرفة شئ جديد، يعتصر قلبها حزنًا على أخيها الذي ليس كايّ أخ؛ فهو تؤامٌ لها، روحها، لا تحتمل أن يشوبه شئ، وهو أيضًا يحبها كأنما هي ابنته وليست أخته، وهذا ماتستعجبه، فهو يموت ولا يكسِرُ بخاطرها أبدًا، لكن الآن لا يرد عليها بكلمةٍ حتى.
خاطبته بصوتٍ هادئ حزين: أنا أُدرك أن مُصابك جلل يا عزيزي حتى وإن لم تُخبرني به، لكن ليتك تتكلم حتى نتشاركه، أموت ولا أراك بهذه الحال.
وما إن أغلقت "صفاء" باب غرفته، حتى وجدت والدتها بانتظارها تتساءل في قلق:
_هل أخبركِ بشئ؟
_ لا يا أمي للأسف، حاولتُ كثيرًا بلا فائدة.
_ سأدخلُ لرؤيته.
أمسكت صفاء بيد والدتها واحتوتها في حنان وهي تقول: لا ياأمي اتركيه وحده قليلًا، تكلمتُ أنا معه، لا نريد أن نضغط عليه حبيبتي حتى لا يُغادرنا وهو على هذه الحال، اطمئني، سيتحسن لا تقلقي.
_بل أقلق وأقلق يا "صفاء" يجب أن ينهض مما هو فيه ليُساعد نفسه ويُساعدنا في حالنا هذا، أقل من شهر وسيتم الحجز على بيتنا بسبب أخيكِ "عادل" وما يفعله بنا من سُكرٍ وشرب وديون حمّلها على رؤوسنا.
_لا تقلقي ياأمي كل شىء سيتحسن، لا تُفكري كثيرًا حتى لا تمرضي من جديد، أرجوكِ ما نحن فيه لا يحتاجُ سوى الصبر والعزيمة والقوة حتى نجتازه يا حبيبتي.
_ليت والدكِ كان موجودًا، فليرحمك الله يا "إسماعيل" ليتك ترى ما حلَّ بنا من بعدك.
أجهشت الوالدة المسكينة في البُكاء بقلبٍ منفطر على حال أبنائها، وهي عاجزة عن حل هذه المشاكل التي تُحيط بهم، "عادل" يغرق في بحر الوهم بالشرب والمخدرات، بدل أن يتحمل المسؤولية كونه الأخ الأكبر، و"خالد" في عالمٍ آخر لا يعلمون سبب ما هو فيه، أو ماحدث معه، وابنتها التي تتحمل فوق طاقتها، حتى أن عملها كمحامية متدربة لدى أحد مكاتب المحاماة انقطعت عنه بسبب تعب والدتها (فهي كانت قد سبقت تؤامها "خالد" في استكمال دراستها نتيجة رسوبه وإعادته الدراسة سنتين، مرة في المرحلة الإعدادية، ومرة أخرى في المرحلة الثانوية)
تركتها "صفاء قليلًا حتى تُخرج ما بجعبتها من دموع؛ فربما ترتاح قليلًا، ثم أتت بكوبين من القهوة قائلة وهي تبتسم لوالدتها: إذن فقد أفرغتِ ما لديكِ من أحزان يا عزيزتي، والآن جاء وقت فنجان القهوة الذي تحبينه من يد ابنتك، نتناوله معًا خارجًا في الحديقة، حتى نقوم باستنشاق بعض الهواء النظيف معًا.
ضحكت الأم من طريقة ابنتها الإستعراضية، رغم أحزانها التي تُكبل قلبها، ودموعها التي لاتزال تسكُن طرف عينيها: وهل هذا وقته.
_نعم، وقته، حبيبتي لن نستطيع حلّ الأمور بهذه الدموع التي لا تأتينا سوى بالآلم والمرض، لن نجتاز الأمر سوى بالتقرب لله والدعاء المستمر والسعي لحل هذه المشاكل بعقلانية وتفكير سليم، هيا عزيزتي انهضي لنستنشق هواءً مُنعشًا ونفكر معًا، هيا بنا.
★ وفي المدينة.....
(لقد أتعبت نظرى وأنت تجوبُ الأرض جيئةً وذهابا، أجلس قليلًا يا "أحمد" حتى نفكر معًا، هذه العصبية لن تنفعك بشئ)
اقترب "أحمد" من الرجل الموجود معه بالغرفة، سحب كرسيًا وجلس أمامه وهو يُتمتم في غضب: لا أدري ماذا أفعل، لقد توقف حالي بسبب ذلك الغبي "خالد".
_ وماذا سنفعل، نصبر قليلًا لنرى كيف سيتحرك.
_ وأعمالنا التي تركناها، أيعجبك حالي وأنا أختبئ هنا في هذا الفندق، وحياتي تحت رحمة ذلك الأبله.
_ذلك أفضل، وجودك هنا أفضل من بقاءك في الشقة، أنت تقول بأن "خالد" أرسل لك رسالة مضمونها أنه لن يُبلغ عنك، لكن من يضمن لك ذلك، اختباءك هنا أفضل من مكوثك بالسجن.
_ أعلم ذلك ، لكن ما يُضايقني أني تحت رحمته، وكل عملي قد تعطل بسبب خوفنا إذا ما كان سيُبلغ أم لا.
_لننتظر قليلًا حتى نكون في الا
الآمان ومن ثَمَّ نعود للعمل.
أصبح الصمت ثالثهما لدقائق معدودة، ومن بعدها قطعه "أحمد" متسائلًا: هل أخبرت عم "سليمان" حارس البناية بما قلته لك؟
_ نعم.
_أمتأكد؟
_نعم يارجل، متأكد، أخبرته إذا ما رأى "خالد" أن يُخبرنا فورًا، وأيضًا يتصل بنا إذا سأل أيّ أحدٍ عنا.
_إلا الشرطة طبعًا.
ابتسم الرجل ابتسامة صغيرة ثم أعقبها بضحكٍ مستمر من كليهما.
_ وهل أنا غبيٌّ لأقول له إلا الشرطة، أتريده أن يشك بنا.
_بالطبع معك حق، وهل أعطيته المال؟
_نعم، مالًا وفيرًا سيجعله يتمنى لو يرى "خالد" أو أيّ أحد يسأل عنا حتى يتصل بنا، فقد وعدته بالمزيد حينئذٍ.
_جيد ما فعلت، المال يفعلُ كل شىء في هذا الزمن، بل يفعلُ المعجزات.
وبالعودة إلى القرية، حيثُ كل من في البيت نيام، بينما "خالدُ" يتقلب على سريره وكأنما يتقلب على الجمر، رغم أنه في نومٍ عميق.
((سريرٌ طويل وبجانبه طاولة مستطيلة تحتوي كافة أدوات الجراحة العادية والدقيقة والدقيقة جدًا، كل ما تحتاجه غرفةُ عمليات متطورة وبأحسن الأجهزة المتقدمة، وفي الجانب الآخر يكتسي الحائط المقابل بصناديق ضخمة مرصوصة وكأنها عبارة عن ثلاجات مصغرة، حاول "خالدُ" فتحها لكنها مغلقة بإحكام وأقفال عديدة تؤمنها، تجاوزها يبحث هنا وهناك، عساه يعثر على شئ؛ فلم يجد سوى ذلك الفريزر الكبير بجانب الصناديق ولم يكن عليه أي قفل، فتحه، فاتسعت عيناه ذهولًا مما تُحدق به مُقلتاه، أجزاء بشرية عديدة جدًا، أذرع وأرجل ورؤوس ذوي أعين خالية المحاجر))
استفاق "خالد" فزِعًا من نومه بصُراخٍ متواصل، زلزل به كيان كل البيت، وقد عاد إليه ما رآه في الغرفة بشقة "أحمد" ككابوس مزعج، وكأنه ثعبان التف حول عنقه.
ليته كان كابوسًا..ليته..إنما هو حقيقة تجسدت أمامه وأُعيدت إليه في حلمه بكل تفاصيلها حتى استيقظ من نومه بذاك الصُراخ الذي أيقظ به أهل البيت بأكمله ليهرع الجميع نحو غرفته في حالة شديدة من الخوف.
دخلت عليه الغرفة شقيقته أولًا ومن ثَمَّ والدته ومن بعدهما أخيه " عادل" الذي جاء يترنحُ، لا تعلم إذا ما كان مستيقظًا أم لا هو الآخر.
فوجدته "صفاء" يجلس على سريره ممسكًا برأسه بين يديه، يعتصره في قوة، أمسكت بيديه لإبعادهما عن رأسه ثم أمسكت بذقنه ورفعت رأسه للأعلي لتجده بعينين محمرتين ووجهٍ أصفر وكأن لا شىء من دماءٍ تسري به، أخذت تهزه بقوة: أخي، أخي ما بك، هل كان ذلك كابوس.
هز رأسه موافقًا..
_ نعم، نعم كابوس وكأنه حقيقة.
كانت هذه المرة الأولى التي يتجاوب فيها "خالد" معهم، ففكرت "صفاء" للحظة استغلال صحوته تلك حتى تفهم ما به.
وقفت عن سرير أخيها وهي تُحدث والدتها تُطمئنها: عودي إلى غرفتك لترتاحي وتنامي يا أمي، إنه مجرد كابوس، لا تقلقي عليه، أنا بجانبه.
الأم في قلق: أمتأكدة أنه بخير؟
_ نعم يا أمي ، ألا ترين ها هو بخير.
استجابت الأم لرغبة ابنتها، اتجهت نحو الباب لتعود لغرفتها لكنها توقفت لتنظر بحسرة على ابنها "عادل" الذي استلقى على أريكةٍ بجانبهم غائبٌ عن الوعي تمامًا بسبب ما يتناوله.
_وماذا عن هذا يا ابنتي؟
_ اتركيه، متى ما استيقظ سيذهب وحده لغرفته.
_حسنًا، تصبحون على خير.
وما إن أغلقت الأم باب الغرفة خلفها حتى جلست"صفاء" أمام أخيها تُحاول أن تفهم ما به.
_ ركز معي هنا يا "خالد" أنت سافرت بأحسن حال، أخبرني بصدق، ماالذي حدث معك هناك حتى تبدل أمرك هكذا يا عزيزي؟
_لا شىء، لا تقلقي.
_كيف لا شئ، ألستُ أقرب الخلق إليك كما تقول دائمًا.
_ بالتأكيد يا "صفاء" وهل هذا سؤال.
_إذًا أخبرني، إذا كنت قد وقعت في أي مشكلة هناك، أو ربما استمالت قلبك إحدى فتيات المدينة ولم تتجاوب معك، أخبرني بأيّ شئ يُطمئن قلبي، فأنا لازلتُ بئر أسرارك كما تقول دائمًا عني.
أشاح بوجهه عنها وهو يتمتم في حزن: ليت الأمر سهلٌ هكذا يا"صفاء"
_ ماذا إذًا، أخبرني بالله عليك، أنسيت أنني محامية، قد أُساعدك.
_حسنًا يا أُختى على أن يظل هذا الأمرُ سرًا بيننا لا يعلمه أحد.
_أعدُك، لاتخف، تكلم فقط.
_أنت تعلمين بالطبع ذاك العمل الذي تحصلتُ عليه؟
_نعم والحمدلله فمن خلالك بدأنا في تسديد تلك الديون علينا.
_للأسف كل المال الذي أتاني من وراء العمل هذا حرامٌ في حرام.
اتسعت عيني "صفاء" مما سمعت، وضعت باطن كفها عل شفتيها قائلة بصوتٍ مرتجف: أنت يا "خالد"، أنت أيضًا اتبعت طريق الشيطان، ما هذه المصيبة.
_لم أكن أدري يا "صفاء"، والله لم أكن أعلم شيئًا وشرحت لكي سابقًا من خلال مكالماتي طبيعة عملي ياأختي، أتشكين لحظةً بي.
_نعم، قلت أنك تعمل في هوايتك التي تُحبها بنحت المجسمات، أين الخطأُ في ذلك يا عزيزي.
_أنا لا أتكلم عن صناعتي أنا فلا مشكلة فيها، المشكلة كلها في صاحب هذا العمل الذي بعد أن شككتُ بأن هناك أمرًا غامضًا به وحذرني أحد الأصدقاء منه، قد بحثتُ هنا وهناك وجدتُ....وجدت..
_ماذا، تكلم يا "خالد" ماذا وجدت؟
_وجدتُ لديه صندوق التجميد ذلك "الفريزر" ملئ بأجزاء من البشر.
_ماذا، أجزاء من البشر، كيف؟
_ نعم، أجزاء مُقطعة من البشر، أذرع وأرجل ورؤوس و.....
ولم يستطع إتمام حديثه وانسابت الدموع من عينيه كثيفة وكأنه يُخرجُ بها ما بداخله من ألآلام تُدمي قلبه.
احتضنته شقيقته لتُخفف قليلًا ما به من تعب: يكفي يا أخي لا تُكمل إن لم تستطع، هون على نفسك.
مسح وجهه وعينيه: أنا لا أعلم فيما يعمل هذا الرجل، كانت هناك كميات كبيرة من الأموال لديه، أموال لا تُعد ولا تُحصى، لا أدري إذا ما كان مجرمًا أم مريضًا نفسيًا، لا أدري، لكن الذي لا يُفارقني من ألمٍ أنني وجدتُ صديقي ذاك الذي حذرني منهم، رأسه بين بقايا الجُثث.
عاد للبكاء من جديد، والكلمات تخرج من بين شفتيه مرتجفة: بالتأكيد لقد قُتل بسببي، لانه حذرني وأشفق عليّ.
_هون الأمر على نفسك يا أخي، ثم لماذا لم تُبلغ الجهات الحكومية بهذا الأمر وعند اقتحامهم لبيته سيعلمون كل ما في الأمر.
_ لا أُخفيك سرًا يا أختي، لا أدري ماذا حدث لي تركت المكان لا تعلمي إذا ما كنت خائفًا، أو مصدومًا، إنها المرة الأولى التي أقع فيها باختبارٍ كهذا، لا أعلمُ حتى كيف وصلت إليكم هنا.
اكتنف الصمت جلستهما تلك دقائق معدودة، ومن ثَمَّ تساءلت صفاء في حيرة : وماذا ستفعل الآن يا أخي؟
نظر إليها نظرة أصابت قلبها بالقلق مما ينتويه.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي