الفصل الرابع

تساءلت صفاء في حيرة : وماذا ستفعل الآن يا أخي؟
نظر إليها نظرةً أصابت قلبها بالقلق مما ينتويه، ثم أجابها:
_لا أستطيع ترك مجرمٍ كهذا طليقًا، لا أستطيع، ضميري يؤلم قلبي، خاصةً كلما تذكرتُ "مصطفى".
_ من "مصطفى"؟
_ ذاك الشاب الذي حذرني من استمراري في العمل معهم، لا بد أن أعود بحقه حتى ترتاح روحه.
_لا أدري ماذا أقول لك عزيزي، أعلم أن كل الحق معك، وأنا أول من أُشجعك على الوقوف دومًا وأبدًا بجانب الحق، خاصةً أنا وأنت ونحن ندرس القانون وسيكون عملنا الدفاع عن حقوق الغير وإيصاله لهم.
_ وهذا ما أقوله أيضًا ، لا أدري ما تلك اللحظة التي اعترتني فصنعت مني إنسان جبان مُتخاذل، ساكت عن الحق، شيطانٌ أخرس.
_لا تقل هذا على نفسك "خالد"، هناك أمور قد تحدث لم نكن نتوقعها أبدًا، جيد أن نراها في الأفلام، أو نسمع عنها، لكن عندما نعيشها، نصبح وكأننا قد أصابنا الشلل فلا نُقابلها بأيّ ردة فعل.
أكمل "خالد مُتممًا حديث شقيقته" :فيصبح الأمر بالضبط كما هو أنا فيه انسان عاجز، خذل ضميره.
_ وماذا الآن؟
_سأعود للمدينة بالتأكيد، لا شك في ذلك.
_وماذا ستفعل؟
_أُحاول إقناعه بتسليم نفسه، إن لم يرضى لن يكون أمامي سوى التبليغ عنه.
_وهذا هو الصحيح عزيزي.
تجاوز الصمت بينهما أكثر من خمس دقائق، سكنت الأرواح مع سكون هذا الليل بضلامه عسى أن يُصبح بما يجلو عن النفس ما بها من هموم.
قطعت سكونه ذاك كلماتٌ من "صفاء" تستجدي أخاها:
_عزيزي أريد أن أطلب منك طلبًا، وإن كنت فعلًا تُحبني وافق عليه.
_ماهو، إن كان في استطاعتي فروحي لكِ ياأُختي.
_سلِمت روحك الطيبة ياأخي، أريد أن أُسافر معك.
_لا، لا تفكري في ذلك أبدًا ولا تقلقي سأكون بخير.
_ أرجوك عزيزي، لا ترد لي طلبي هذا، أرجوك.
_لن ينفع هذا يا "صفاء" ،
أولًا أخافُ عليك مما قد تجري به الأمور، ثانيًا لن نستطيع ترك والدتنا.
_لا تقلق لن يُصيبنا لا أنت ولا أنا مكروه، وبالنسبة لوالدتي سأذهب بها غدًا إلى خالتي لتبقى عندها قليلًا، وهي أيضًا ترغب في هذا، تحدثنا في هذا اليوم، أقنعتها بأن تُغير المكان عسى نفسها ترتاح قليلًا وتبتعد عن مشاكل أخيك هذا الذي لا يأتي إلا بالمصائب.
نظرا نحوه معًا ليجداه متسطحًا فوق الأريكة يغُطُ في نومٍ عميق.
_لا أدري ماذا أقول لكِ يا "صفاء"
_ لا تقُل شئً، وافق بالله عليك حتى يطمئن قلبي، وافق يا أخي، أرجوك.
_حسنًا كما تريدين، أنا لا أقوى على رفض أمرٍ لكِ عزيزتي.
تعلقت برقبته واحتضنته في ودّ، ومن ثَمَّ قالت:
_سينتهي هذا الأمر على خير انشالله وبعدها لي عندك نزهةً في المدينة وزيارة لبعض المناطق التي أرغب في رؤيتها.
_حسنًا أعدك بذلك.
_نمّ الآن ولا تُجهد نفسك بالتفكير.
_ماذا ستقولين لأمي؟
_ لا تقلق دع الأمر لي.
وفي صباح اليوم التالي تجهزت "صفاء" للسفر مع أخيها، بعد أن أخذت والدتها إلى حيثُ تسكُن خالتها قريبًا منهم وأقنعتها بضرورة سفرها مع "خالد" حتى لا تتركه وحده في هذه الحالة النفسية السيئة التي يمر بها، وتساعده على دراسته لتعويض تغيبه عن الاختبارات الفترة الماضية.
اقتنعت الأم على مضض فهي رغم شوقها لرؤية شقيقتها والمكوث معها قليلًا، إلا أنها لم تكُن ترتاح لسفرهما هذا، شعرت بانقباض قلب الأم، شعرت بألم لم تعلم مبررًا له.
★ وفي المدينة......
صوتُ رنين الهاتف عاليًا سلبه النوم الذي بالكادِ تحصل عليه بعد ليلة تفكير طويلة، تناوله ليُجيب محدثه: نعم، من معي؟
_أنا "سليمان" الحارس.
_نعم ياعم "سليمان" خير إنشاءالله، أراك تتصلُ مبكرًا هكذا، أهناك جديد؟
_خير يا أستاذ "أحمد" كان زميلك نبهني عندما أرى الاستاذ "خالد" أخبره بذلك.
اعتدل "أحمد" في فراشه فزعًا وكأنما عندما وصل ذُكِر الأسمُ إلى مسامعهِ سرى بجسمه تيار كهربائي فبات كالمصعوق.
:هل عاد "خالد" أأنت متأكد يا عم "سليمان".
_نعم لقد عاد منذ قليل ومعه فتاة، عندما استفسرت عنها، علمتُ منه أنها شقيقته التؤام.
_وأين هو الآن؟
_سألني عليك ومن بعد سؤاله سعد إلى السطح، ونبهني أن أُخبرك عندما أراك بأنه يود الحديث معك بشكل ضروري.
أغلق "أحمد" الهاتف وأخذ يدور في الغرفة وكأن نيرانًا اشتعلت بداخل صدره لا يدري من أين بدأت شرارتها، ثم جلس على سريره وما إن جلس حتى عاد للنهوض من جديد، ليتناول هاتفه ويطلب صديقه ذاك ليتشاور معه في ما سيفعله، وما هي إلا دقائق معدودة حتى كان عنده.
_ماذا ستفعل في مصيبتنا هذه؟
_لا تسألني عن شىء، كل ما يُسيطر على عقلي الآن أنه لابد من الخلاص منه عاجلًا دون أيّ شُبهات حتى نستطيع العودة لأعمالنا.
_حسنًا ولا أسهلُ من ذلك، أترك الأمر لي أُخلصك منه فورًا.
_حسنًا، هذا ما سيحدث، المشكلة أنه من جرءته يطلب مقابلتي، أنا لا أفهم هذا الرجل، كيف يُفكر.
_من قال لك أنه يطلبُ مقابلتك.
_أخبر عم "سليمان" بذلك و .......
صمت فجأة وكأنه تذكر شيئًا مهمًا ثم أكمل:
_انتظر إن معه شقيقته،
كيف ستقوم بالتخلص منه وشقيقته معه.
_ يا إلهي وما الذي أتى بها هي الأخرى، أنا لا أقتل اثنان، لا أستطيع.
_ لم أقل لك اقتلها.
جلس " أحمد" وقد أخذ يفكر بينما جلس "مجدي" صديقه وشريكه "وهذا اسمه" بجانبه متسائلًا:
_ في ماذا تفكر، أشعر بصديقي وكأنما هناك فكرة أخرى جديدة برأسه.
_نعم، فكرة لن تخطر على بالك أبدًا.
"مجدي"في فضول:
_وماهي، أسرع بإخباري بها.
_"خالد" له موهبة رهيبة في صنع المجسمات، خفة يد وسرعة لم أجدها عند أحد سواه من قبل ممن عملوا معي، لما لا نضرب عصفورين بحجر بدل قتله.
_كيف، لم أفهم.
_ سأقول لك ، ركز معي، لما لا نطلب منه العمل معنا بعد أن علِم طبيعة ما نقوم به.
_بالتأكيد سيرفض.
_ولماذا أنت متأكد هكذا، قد حدثني كثيرًا عن ظروفه وأحواله، لا يملكون شيئًا من أملاك، بالكاد البيت الذي يعيشون فيه، وحتى هذا البيت تحت الحجز بسبب ديون أخيه السكير، وقد فُتحت له أبواب الجنة كما قال لي بعمله معنا، بدأ في تسديد ديونه، وامتلأت عينيه ببريق الأموال التي تأتيه من وراءنا..
_وماذا بعد، ما فائدة كل ذلك في موضوعنا.
أأنت غبي يا مجدي، مثل هذا الرجل عندما نرفع له الحد في ما يأخذه منا من أموال وكل فترة نزيد فيما نعطيه له؛ سيُرغم على العمل معنا حتى يجتاز ما يُحيطُ به من ظروف، هل فهمت مقصدي؟
_نعم، فهمت، ولكن......
_ولكن، ماذا؟
_ ماذا إن كان من ذوي الشعارات بتلك المبادئ الرنانة التي يستعملونها ويفضل الفقر والعوز على العمل معنا، نقتله حينها.
_لا..سأحافظ على هذه الأيدي التي ستصنع لنا المزيد من تلك المجسمات الرائعة.
نظر إلى "مجدي" وابتسم ابتسامة توحي بالمكر قائلًا:
_إن رفض العمل معنا، نقوم باختطاف شقيقته.
_وماذا نفعلُ بها هذه، لقد جعلت رأسي يدور بأفكارك يارجل.
_ستبقى هي الورقة الرابحة لدينا، إن رفض نختطفها ونقوم بتهديده بقتلها إن لم يعمل معنا.
ابتسم "مجدي" في إعجاب بهذا الثعلب الماكر الذي أمامه.
_يا أخي أنت يتعلم منك الشيطان أفعاله، ما كل هذا الدهاء والخُبث.
_تعلم، تعلم من أستاذِك يا بُني.
★وفي مكانٍ آخر...على السطح....
_ارتاحي قليلًا عزيزتي من تعب السفر، سأذهب إلى احد المحلات لشراء بعض المأكولات لنا وأعود سريعًا.
"صفاء" في إرهاق بوجهٍ يكتسيه التعب وعينين يملأهما النوم:
حسنًا يا أخي، انتبه لنفسك.
_وأنتي أيضًا انتبهي لنفسك ولا تفتحي الباب لأيّ أحد، هذه ليست شقة، إنها غرفةٌ يا عزيزتي على سطح قد يرتاده ويدخله أي أحد، لا تنسي، لا تفتحي الباب أبدًا مهما حدث وأنا معي مفتاح الغرفة.
_حسنًا لا تقلق، لن أفتح مهما حدث.
خرج "أحمد" مسرعًا بينما ارتمت "صفاء" على السرير منهكة القوى لا تستطيع الحِراك من تعب الطريق، فهي لم تكُن معتادة على السفر لمسافاتٍ طويلة؛ فقد كانت كلية القانون التي تخرجت منها في نطاق المُدن القريبة من قريتهم، وليس بكل هذا البُعد الذي اختاره "خالد" لدراسته.
وبعد مرور حوالي العشر دقائق من خروج "خالد"، هناك من يصعدُ السلم المؤدي للسطح، إنه المدعو "أحمد" وقد أتى ليلتقي ب"خالد" كي يعرض عليه ما فكر به، ليعلم من بعد لقاءه به ما سيؤول إليه الحال بينهما.
طرقاتٌ خفيفة على الباب دون استجابة، ألحقها بأخرى لكن لا صوت يأتي من الداخل فقام "أحمد" بالسير إلى الجهة الأخرى من الغرفة حتى ينظر من نافذتها إذا ما كان هناك أحدٌ في الداخل أم لا.
وما إن وصل إلى النافذة لينظر من خلالها حتى وجدها، نائمة كالملاك، نظر إلى تلك الملامح البريئة الطفولية، ذاك الوجه الحسن الذي خطف قلبه بمجرد النظر إليه لوهلة وكأنما يعرفها منذ زمنٍ طويل، طويلٍ جدًا.
لا يدري ماالذي يحدث معه وهو يتفرس في ملامحها وكأنها خُلقت غير كل نساء العالم...و....
"ماذا تفعلُ هنا أيها المُخادع؟"
جاءته تلك الكلمات كسيفٍ مزق قلبه الذي يُحلق حولها، جاءته عبارات "خالد" الواقف خلفه وكأنها صاعقةٌ نزلت عليه من السماء فأردته رغم أنه كان قتيل هواها الذي تسلل إلى قلبه بسهولة دون مجهودٍ منها أو حتى نظرة لعينيها.
"أحمد" في حالة من الارتباك محاولًا تمالُك ما تبقى فيه من قوة وشدة: أهلًا "خالد"، كنت أبحثُ عنك، طرقتُ الباب كثيرًا ولم ترد عليّ، فنظرتُ من النافذة إذا ما كنت موجودًا أم لا.
_حسنًا، وماذا تُريد، ألست خجِلًا من مقابلتي، تأتيني هكذا بوجه صريحٍ يا قاتل.
رفع "أحمد" أصبع كفه أمام وجه "خالد" قائلًا في لهجةٍ تبدلت إلى الشدة والتهديد:
_احفظ لسانك يا رجل، قد يسمعك أحد.
_فليسمع من يسمع، لاأهتم، هل خائفٌ أنت.
_لا تدّعي الشجاعة والشهامة، أنت شريكي في كل شئ، هناك كاميرات البيت قد صورت عملك الدؤوب في صُنع المجسمات.
_ وما دخلُ مجسمات الجبس في عملك الدنئ أيها الشيطان، هذا الفن الرفيع برئ منك ومن أمثالك، فما هو سوى واجهةٍ لأعمالك القذرة.
أطلق "أحمد" ضحكاتٍ متواصلة استعجبها "خالد" في وضعٍ كهذا فسأله بلهجةٍ شديدة: تحدث إليّ كالرجال وقل لي ما دخلُ مجسمات الجبس التي أصنعها بقذارتك، كيف تجرؤ على تسميتي بشريكٍ لك.
_بالطبع شريكي، فالمجسمات التي تقوم بتصنيعها ماهي إلا وسيلة لتهريب أعضاء البشر والمخدرات للخارج يا حبيبي، لماذا قمنا بتصنيعها مُفرغة من الداخل إلا لهذا الغرض.
اتسعت عينيّ "خالد" من هول ما يسمع، كل شىء كان يخُطر بخياله إلا أمرًا كهذا، كان يعتقد بأن موضوع الرسم وتصنيع المجسمات مجرد واجهة لأعمالٍ أخرى إجرامية يقومون بها.
ترك الأكياس التي يحملها تقع من يديه أرضًا ليمسك بملابس "أحمد" يقوم بشدّهِ نحوه في عُنفٍ قائلًا وهو يتمنى أن يكون ما سمعه غير صحيح: هل تخدعني يا أحمق، قد تستطيعُ فعلًا تهريب المخدرات، أما الأعضاء البشرية كيف، هل انت مجنون يا هذا؟
_ لستُ مجنونًا، بل في أشد لحظاتِ ذكاءٍ مني دخلتُ هذا المجال وقد اكتسبت منه الأموال الطائلة، بل قل المليارات من النقود.
حاول "أحمد" الإفلات من قبضة "خالد" وأخذ يُعدلُ من ملابسه وهو يُتممُ حديثه:
_ إهدأ حتى تفهم كيف يتمُ الأمر يا شريكي.
_ تحدث، قُل ما عندك دون أن تقول شريكي أيها القاتل.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي