صانعة الأقنعة

هناء محمد`بقلم

  • الأعمال الأصلية

    النوع
  • 2022-07-16ضع على الرف
  • 21.8K

    جارِ التحديث(كلمات)
تم إنتاج هذا الكتاب وتوزيعه إلكترونياً بواسطة أدب كوكب
حقوق النشر محفوظة، يجب التحقيق من عدم التعدي.

الفصل الأول

ساعات النهار طويلة كعادتها لا تمر. و ليان الجميلة لازالت جالسة على كرسيها وأمامها الكثير من الدبابيس و الأقمشة، وبضع جلود تصنع منها أقنعة جديدة. إنها حرفة ورثتها عن جدتها الراحلة.
المكان خال الا منها فقد وضعت لافتة *مغلق*على الباب الزجاجي لورشتها وانهمكت في عملها الذي يستحوذ على كل شغفها وإهتمامها . ستبدأ في إستقبال الزبائن بعد قليل فالجميع يفضل تلك الأقنعة التي تصنعها هي ، أنها متقنة لأبعد حد.
توقفت ليان عن العمل فجأة،وغابت عن الحاضر مرة أخرى لتغوص في ماضيها.إنها ترى تلك الفتاة مجددا وهي تتلوى ألما ، و تسمع صراخ أحدهم "ليان ماذا فعلت ؟ ". بدأت أنفاسها تتسارع و سقط المقص من يدها المتعرقة،إرتعش جسدها بكامله وكأنها تعيش اللحظة ذاتها من جديد بكل تفاصيلها.
دقائق مرت وهي على هذه الحال ثم قامت بكل هدوء عكس العاصفة التي زعزعت كيانها منذ قليل ، لتفتح الباب أمام جارها الذي يملك محلا لبيع الأزياء السينمائية، والذي بات يدرك تماما مواعيدها ويحفظ عن ظهر قلب تفاصيل يومها الممل!
لطالما رغب في الخروج برفقتها لرؤية العالم الذي دائما ما يراها منعزلة عنه، بالطبع جمالها كان أول ما أثار انتباهه ثم غموضها أيضا و الذي أثار فضوله بشدة، مارتن شاب موهوب يهوى المغامرة كثيرا وتجذبه الأشياء المعقدة والغامضة. ويبدو أن ليان أيضا بسحرها الخاص وجمالها الفاتن شغلت تفكيره .
نظرت إليه بصمت و برود كعادتها ،ثم أدارت له ظهرها عائدة إلى كرسيها ، ظل واقفا مكانه يراقب حركتها . لقد عادت للمكان ذاته ، لم تطلب منه الدخول ولم تستدر ولو لمرة واحدة لترى ما إذا كان لازال واقفا أم أنه قد غادر . هو لا يذكر أن كان سمع صوتها يوما ما ، عليه أن يصبح زبون لها إذا أراد سماع بضع كلمات منها . تأملها مارتن قليلا ثم ذهب في حال سبيله ؛ فهو يدرك أنه مهما طال انتظاره أمام بابها لن يتغير شيء.
حضر بعض الزبائن إلى ورشة ليان ، استقبلتهم بهدوئها المعتاد و تركت لهم المجال لمشاهدة الأقنعة المرتبة بعناية على جدران الورشة ، فهي قامت بتعليقها لتشكل لوحة فنية تخطف الانظار من جمالها ووضعت اثنين من الأقنعة في صندوق زجاجي على مكتبها . فالمكان عبارة عن غرفتين مفتوحتين في بعضهما البعض، وما يفصل بينهما ستارة سوداء ، الاولى وهي التي يراها الجميع ،تحتوي جدرانها الثلاثة على أقنعة مختلفة الأشكال والأحجام و منظمة بشكل جميل ، وبها ركن يضم مكتب ليان حيث تدون طلبات الزبائن و عناوينهم وما إلى ذلك مما تحتمه طبيعة عملها. وتوجد طاولة في ركن اخر مقابل لبوابة الخروج مباشرة ، وهي المكان المخصص لوضع اللمسات الأخيرة على أعمالها .
أما الغرفة الأخرى والتي لم يسبق لأحد غيرها الدخول إليها ، فقد خصصت لأخذ قسط من الراحة وهي مسكنها الوحيد وتحمل ذكريات كثيرة عن جدتها و عن حكايات قبل النمو التي كانت ترويها لها .
بالطبع لا تقتصر الحياة على ليان ومارتن فقط ، فكل مكان من هذا العالم يحمل قصصا لايمكن لعقل أحد تصورها .
في احدى مقاهي المدينة و القريبة من الجامعة كانت تجلس روزلينا رفقة صديقتها المقربة نتاليا ،تحتسيان كوبا من القهوة قبل موعد المحاضرة ،و تناقشان بعض المواضيع المتعلقة بالامتحان ومشاكل سكن الطالبات اللتان تقطنان به.
_ روزا عزيزتي ماذا سنفعل ؟ هل سنترك تلك البلهاء تتحكم بنا كما تشاء فقط لانها قريبة الدكتور فبيان ؟
_ ليس لدينا حل اخر ، لم يتبقى سوى شهر واحد وينتهي هذا العذاب نتاليا .
لم تكن نتاليا راضية عن استسلام صديقتها لتسلط تلك الطالبة التي تشاركهما الغرفة ، لكنها بالفعل سبق و ورطتهما بمكر في مشكلة مع فبيان الدكتور الذي سيجري لهما الاختبار النهائي والذي سيحدد مصيرهما المهني .
التحقت الفتاتان بالمحاضرة ،على أن تفكرا في حل لمشكلتهما في ما بعد.
وحال دخولهما كان فبيان في انتظارهما وهو يستشيط غضبا، الأمر الذي لم تجدا له أي تفسير ،فهما كانتا أول من التحق . ألقتا التحية وأرادتا الذهاب للجلوس لكنه رمى في وجهيهما ملفا به صور له رفقة إحدى طالباته ورسائل لم تستطيعا حتى قراءتها كاملة من خجلهما ، لقد نصب لهما فخ مجددا لكنه قذر هذه المرة .نظرت نتاليا إلى صديقتها روزلينا وكأنها تطلب منها إنقاذ الموقف بذكائها المعتاد ، لكن الأخرى قابلتها بنظرة خائفة وخجلة .
_ أريد تفسيرا سريعا لهذه الترهات ، كيف لكما أن ترسلا شيئا كهذا لزوجتي ؟ هل جننتما!؟
أجابته روزلينا على الفور نافية ما قاله للتو ،وأكدت على أن لا دخل لهما فيما حصل ،لكنه انهال عليهما بكلمات جارحة و هددهما بالطرد من الجامعة ما لم تصححا غلطتهما هذه .
استاءت روزلينا من كلامه الذي جرح كرامتهما ،وردت بنفس نبرة الغضب التي تحدث هو بها .
_ نحن لم نرسل شيئا لا لزوجتك ولا لأحد اخر ، ثم انك تقف وتتهمنا دون دليل على كلامك فقط لأن إبنة اختك الحبيبة جعلتك تصدق أكاذيبها وأننا فتيات شوارع وليس لدينا سوى التسكع ، فليكن في علمك سيدي انه بمقدوري مقاضاتك على كل كلمة تفوهت بها الآن .
ظل فبيان صامتا فلم يسبق لروزلينا أن صرخت في وجهه رغم أنه دائما ما كان يوبخها عندما تشتكيها له ابنة أخته . لقد وجد أن كلامها صادق فعلا ،فالرسائل ليست بخط اليد ولا يمكن أن يدرك مرسلها و هو اتهمهما فعلا بلا أي إثبات .
لقد وضع نفسه في موقف محرج بتسرعه هذا، ولم ينقذه منه سوى وصول باقي الطلبة. والذين كانوا مستغربين من وجه نتاليا الباكي ووجه روزلينا الغاضب .
انتهت المحاضرة ولاحظ الجميع توتر الدكتور فبيان غير المبرر بالنسبة لهم ، فور خروج الفتاتان اتصلت نتاليا بأخيها مارتن لأيتي وياخذها بعيدا عن ذلك السكن الكئيب فهي لن تتحمل رؤية تلك المقيتة أريانا ، طلبت من صديقتها مرافقتها أيضا لتنسى ما حدث . وبعد محاولات عدة وافقت روزلينا على الذهاب معها.
كانت ليان في ورشتها تتأمل القناعين داخل الصندوق الزجاجي بذهن شارد ، لقد غاصت مجددا في أعمق نقطة لبحر ذكرياتها ،تلك النقطة التي تخنقها وتجهز على أخر بقايا روحها ، أنها المنبع الذي تستمد منه برودها .
قطع عليها صوت طرق الباب رحلتها المعتة تلك ، فوجهت نظرة أكثر برودة من سابقاتها للطارق ،دخلت إمرأة في منتهى أناقتها وتبجحها و بدأت تسأل ليان عن الأقنعة و مدى جودتها و عن الأسعار وغيرها من الأمور. وكانت تنظر بتعال لها وكأنها إحدى خدمها.
_ أنت يا فتاة، دوني عندك عنوان منزلي وأريد إرسال ما طلبته بعد أسبوع كأكثر تقدير ،لن أسمح بأي تقصير منك .هل سمعتي ؟
كانت الفتاة تراقب حركاتها وتستمع لكلامها بنصف إبتسامة ثم أخيرا أخذت قلما ومذكرة دونت بها طلب السيدة وعنوانها دون أن تجيبها ولو بكلمة واحدة ، الأمر الذي أثار غضب تلك السيدة ولو لم تكن ليان معروفة بكونها أكثر مهارة من جميع من يشتغلون بصنع الأقنعة بالمدينة ، لما ابتلعت هذه الإهانة والتي هي أساسا ليست سوى مقابل لوقاحتها.
تزامن رحيلها مع وصول سيارة مارتن وبها أخته وصديقتها ،ظل هذا الأخير يحدق بالمرأة التي خرجت كالتنين تنفث النيران من فمها ،و ابتسم حالما تبادر إلى ذهنه أن برود ليان وكلامها شبه المنعدم قد إستفزا هذه السيدة، ترجل مارتن من سيارته ومعه الفتاتان وأدخلهما إلى محله الصغير المجاور لورشة ليان .
_ يبدو المكان جميلا بالفعل كما وصفته نتاليا .
_ تعلمين يا عزيزتي روزا أنني لا أبالغ في وصف شيء قط إلا إذا كان يستحق .
عاد مارتن الذي كان قد تركهما في المحل بمفردهما لبعض الوقت ، وهو يحمل كوبين من العصير أعدهما له بائع متجول يقف بعربته في الطرف الآخر م الشارع المقابل لمحله.
تناولت الفتاتان العصير وشرعت نتاليا في سرد ما حدث لأخيها بينما ظلت روزلينا تجوب بنظرها في المحل بصمت .
_ هل أثار المحل فضولك إلى هذا الحد؟
_ عفوا ماذا قلت ؟
كان سؤال مارتن المفاجئ سبب في توجه أنظار روزلينا له لأول مرة منذ ركبت السيارة معهما . إبتسم هو برضا فقد جذب انتباهها له أخيرا ،لتقطع عليه أخته نتاليا سخافاته المعتادة هذه والتي تعرفها جيدا .
_ ماااااارتن ! أنا أحدثك بقهر عما أصابني من ذل بسبب الحشرة أريانا وانت لا تكف عن حماقاتك.
_ مارتن بحرج ، أنا أسف لم أقصد تجاهلك نتاليا ،لقد لفت انتباهي شرود صديقتك لذا علقت على الأمر ليس إلا.
_ لست بحاجة لأسفك أريد حلا لمشكلتي يا سيد مارتن ، انت من أعترض على استئجاري لمنزل أنا و روزا و الآن عليك أن تخلصني من تلك الأفعى.
بعد نقاش مطول وافق مارتن على أن يستأجر لأخته منزلا صغيرا على أن يكون في نفس الحي الذي يوجد به محله رغم بعده عن الجامعة ، تنفست نتاليا الصعداء خاصة وأنه وعدها أن يجد حلا لسوء الفهم الذي قد حدث مع الدكتور فبيان.
كانت روزلينا تتابع بصمت وخجل بعد ما تفوه به مارتن ،ودت لو أنها لم تأتي .
إلتفتت إليها نتاليا ودعتها لتناول الغداء في مكان ما قبل عودتهما لذلك السكن المقيت مجددا،رحبت الأخرى بالفكرة فقط لتنسحب من أمام هذا المغفل الذي يحسب نفسه خفيف الظل .
في اليوم التالي
إستيقظ جيفن باكرا، أخذ فوطته وتوجه للحمام ليحلق ذقنه. تأمل وجهه جيدا في المرآة بنظرة منكسرة. ثم مرر شفرة الحلاقة على وجهه ليصبح ناعما تماما كما يكره هو، لكنه مجبر على ذلك. إرتدى ملابسه بعجالة؛ فمكان عمله بعيد جدا عن سكنه . ورغم ذلك لم يخرج إلا بعد أن أجاب على اتصال هاتفي ورده للتو ؛ فيبدو أن المتصل له مكانة خاصة لديه.
وصل جيفن لعمله ودخل مكتبه وهو يتجنب النظر إلى زملائه ،يكره نظرات الشفقة التي يراها في أعينهم .أخرج حاسوبه من حقيبته وشرع يتابع عمله ،ليطرق الباب صديقه وزميله في العمل في آن واحد ، دخل دون انتظار سماع الإذن بذلك فهو الشخص الوحيد المسموح له بهكذا تجاوزات لما له من مكانة لدى جيفن .
_ مرحبا جيفن ، كيف حالك اليوم ؟
_ ماذا يبدو لك سامويل؟!
بحزن بالغ تلفظ جيفن بجملته هذه ما جعل سامويل يربت على كتفه وهو يخبره أن لا شيء مستحيل وأن بإمكانه حل هذه المشكلة بالسفر إلى خارج البلاد ،لكن لم يترك له المجال ليكمل حديثه و طلب منه أن لا يحدثه عن هذا الأمر ثانية .
_ دعك من هذا الآن، هذا الحل يتطلب وقتا وانا ليس لدي منه شيء.
_ هل وصلت إيما ؟ هل طلبت مقابلتك ؟
_ نعم لقد وصلت وأنا أتحجج منذ أسبوع ، لا أريد أن تراني هكذا يا صديقي.
_ لكنها تحبك دون أن تراك حتى فلا داعي لخوفك هذا .
صمت جيفن ولم يضف ولو كلمة واحدة وشرد ذهنه في خططه للمستقبل والتي تبخرت بسبب حادث سير، كيف له أن يصارحها لابد وأنها لن تتقبله هكذا . لحظات من الصمت تبعها صرخة حماس من سامويل وكأنه ربح جائزة ما لتوه.
_ وجدتها ، وجدتها يا صاح
_ ماذا وجدت؟
_ أتذكر حفلة عيد ميلادك ؟ حينها قدمت إليك بقناع غريب و لم تستطع أن تتعرف عليا ،هل تذكر؟
_ نعم وما دخل ذلك بالأمر ؟
شرح سامويل لجيفن خطته العظيمة كما يقول ، لكن جيفن وجدها فكرة غبية ولا تستحق التفكير بها حتى ما بالك بتطبيقها، لكن ومع إصرار صديقه وافق على أن يذهب لتلك الورشة التي أعطاه سامويل عنوانها ،واذا راقه قناع ما سينفذ الخطة مع أنه لازال متحفظا قليلا ،فالامر جاد بالنسبة له . ولا يود أن يقوم بشيء يزيد الأمر سوءا. بعد انتهاء دوامه ركب جيفن سيارته واتجه إلى الورشة
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي