الفصل الرابع

تأملت ليان وجهه للحظة ،نظرته توحي بأنه ينتظر إجابة تبعث الأمل في روحه لكنها لسبب ما لم تستطع إجابته ،أدارت وجهها للنافذة بشرود ،وحان دوره هو ليستغرب حالها هذه . لكنه وإعتمادا على ذكائه الذي لا يملك منه الكثير استنتج الإجابة.فاستأذن منها للرحيل ، تركته يرحل بل لم تلحظ رحيله حتى . ظلت تفكر في ما قاله . كيف له أن يستمر في خداع تلك الفتاة بوجه ليس وجهه وينتظر منها أن تتقبله عندما يكشف الحقيقة لها ، هل فعلا ستقبل به ؟، ضحكت ليان بشكل جنوني ،الأمر الذي أثار دهشة أحد الزبائن الذي طرق الباب للتو.
لا أحد يعلم بما تفكر هذه الفتاة !.
وقف مارتن بجانب عربة بائع العصير وظل يراقب ورشة ليان. ثم بعد برهة وجه حديثه لذلك المنشغل بتحضير كوب عصير لأحد زبائنه .
_ هذا مكان استراتيجي لمراقبة الطرف الآخر من الطريق أليس كذلك ؟
_ ماذا تقصد سيدي؟ هل يزعجك وجودي هنا؟
_ لا لا بالعكس يا صديقي،اظن أن وجودك هنا مهم جدا .
استمر حديثهما لفترة ليست بالقصيرة، ثم غادر مارتن و هو يلقي نظرة أخيرة على ورشة ليان .اتصل بأخته ليسألها ما إذا كانتا هي وصديقتها في حاجة لمساعدته، والرد كان بالنفي طبعا وهذا لأن روزلينا لا تطيقه.
أقفلت نتاليا الخط في وجه أخيها ،فهي منهكة وعليها أن تنهي ترتيب أغراضها كاملة ، ثم إنها متوترة من نتائج الامتحانات النهائية المرتقب ظهورها يوم غد .
أما روزلينا فكانت ترتب ملابسها في النصف المخصص لها من الخزانة المشتركة بينهما ، لتقع من حقيبتها علبة متوسطة الحجم ، حملتها نتاليا وكادت تفتحها لولا صراخ روزلينا التي انتزعتها من يدها بسرعة خاطفة وكأن العلبة بها قنبلة موقوتة أو ما شابه. رمقتها الأخرى بنظرة مستنكرة لرد فعلها الغريب هذا ؛ فلم يسبق أن صرخت في وجهها هكذا، جلست روزلينا وهي تمسك بيديها معا العلبة ونظرها في الأرض .
_ أنا أسفة ناتا ، لم أقصد أن أصرخ في وجهك ؛ لكن هذه العلبة غالية على قلبي فهي هدية من والدي وتعلمين أنهما لم يعودا على قيد الحياة الآن .
حزنت نتاليا على حال صديقتها وضمتها إلى صدرها وهي تربت على ظهرها، تخبرها أن لا عليها وأن الأمر لا يستدعي اعتذارها هذا. ولكي تغيرا مزاجهما اقترحت الخروج لأخذ جولة في الحي والتعرف على محيط سكنهم الجديد .
في اليوم التالي أقفل مارتن محله باكرا وذهب للجامعة لمعرفة نتائج الامتحانات، ولينفذ وعده لأخته أيضا. هو لم ينسى تصرفات ذلك الدكتور معها ومع زميلتها طوال تلك السنة الدراسية لكن كثرة انشغاله جعلته يؤجل النظر في هذه المسألة . وقد حان الوقت الان لكي يطلب تفسيرا لكل تلك الإهانات و الاتهامات الموجهة لشقيقته وصديقتها.
وصل مارتن للجامعة و سأل عن الدكتور فبيان ،ليدله عليه أحد الطلاب. تقدم نحوه وهو يرتب في ذهنه الأسئلة التي سيطرحها عليه وكأنه وجد فرصة لتحقيق حلم الطفولة من خلال هذا الدكتور، هو ينوي أن يصبح محققا الآن .
_ تفضل يا بني ماذا تريد ؟
_ حسنا أنا ارغب في معرفة سبب اتهامك اختي وصديقتها بإرسال رسائل قذرة لزوجتك؟
صعق فبيان من هذا السؤال الذي ألقاه مارتن في وجهه دون أية مقدمات ، إبتلع ريقه خوفا من أن تكون روزلينا قد نفذت تهديدها وقدمت شكوى ضده .
_ أنا ...أنا لم أقصد أن اتهمهما، كان مجرد سؤال فحسب .
_ سؤال فحسب ! تلقي الملف في وجهيهما ثم بكل وقاحة تتهمهما والآن.. سؤال فحسب .
سيطر فبيان عن غضبه وحاول أن يحاور مارتن بهدوء،طلب منه مرافقته إلى سيارته وأخرج ذلك الملف منها، ثم عرضه عليه كما أخبره أنه قد سبق و توصل برسالة مشابهة عن إبنة أخته وعندما واجهها بذلك اتهمت نتاليا وروزلينا بتزوير تلك الصور و بكونهما هدداها قبل إرسالها ولأنها لم ترضخ لهما قامتا بفعلتهما تلك.
أخذ مارتن كل الصور والرسائل معه على أن يعيدها عندما يتمكن من معرفة الفاعل وإن عجز عن ذلك فسيبقى الوضع على ما هو عليه ، رسائل مجهولة المرسل ولا دخل لأخته بها .أو سيبلغ الشرطة لتحل المشكلة من جذورها، وهو ما لم يستصغه فبيان فوافق على كلام مارتن وتركه يأخذ الملف دون أن يبدي أي اعتراض .
اتصل جيفن بصديقه وطلب منه مرافقته لشراء هدية لأحدهم وبما أن الفضول قد تغلغل إلى أعماقه ،لبى الطلب على الفور وأخذ مفتاح سيارته وانطلق إلى منزل صديقه و اصطحبه من هناك .
بعد حوالي ساعة من التجول داخل المحلات التي تبيع أغراضا نسائية، توقف الصديقان فجأة فهما لم يتمكنا من اختيار أية هدية للان . اقتربا من فتاتان كانتا تشتريان بعض الملابس، طلب منهما سامويل المساعدة واستدارت إحداهما وياليتها لم تستدر.
_ هذا انت مجددا ؟
استدارت روزلينا هي الأخرى لترى من هما هذان الشابان وما المساعدة التي يحتاجانها ثم من يكون هذا الذي تخاطبه نتاليا بهذه الطريقة ! ، تدخل جيفن عندما لاحظ صمت سامويل وتضايقه .
_ نحن آسفان ،لم نكن نعلم أنك أنت
_ لا داعي للإعتذار ،اظن أن نتاليا لا تقصد الإساءة ، أليس كذلك ناتا؟
لم تجب نتاليا بل وجهت حديثها مجددا لذلك الشاب الصامت ،و كأنها وجدت لعبة مسلية، تزعجه فترا وجهه يحمر غضا و تبرز عروق جبينه .الأمر مرعب لكنها مستمتعة !.
_ حسنا ما نوع المساعدة التي ترغبان بها. هل يحتاج صديقك شراء فستان له أم ماذا؟
كانت هذه الجملة كفيلة بجعل روزلينا وجيفن ينفجران ضحكا بينما سامويل لم يعد يتحمل ترهات هذه الفتاة المشاكسة . رفع يده عاليا ثم هوى بها بسرعة نحو وجهها الذي سارعت لتخفيه بين كفيها، وأطلق هو ضحكة عالية فلم تكن له نية صفعها بل كان يقصد اخافتها وحسب.
_ جبانة ، ألم تكوني قوية منذ قليل وأنت تحاولين إغاظتي.؟
نظرت إليه نتاليا بعيني طفلة تكاد تبكي من توبيخ والدها،لكنها استدارت بسرعة نحو الملابس التي اشترتها منذ قليل وادعت أنهما تأخرتا .
_ روزا علينا الذهاب لقد تأخرنا .
غادرت الفتاتان وظل جيفن يتأمل صديقه الذي يراقب رحيلهما إلى أن اختفيتا عن نظره . إلتفت إلى صديقه ليجده محدقا به.
_ ما خطبك انت أيضا؟
_ ما خطبي! أو ما خطبك انت؟
تغير مزاج سامويل بالكامل ورفض أن يكمل التسوق مع جيفن ،بل وحمله مسؤولية الموقف السخيف الذي حدث منذ قليل. فلولا هديته هذه التي لم يجداها بعد لما التقى تلك الفتاة مجددا. استسلم جيفن أيضا فهو لم يجد شيئا مناسبا ولا داعي لان يبحث أكثر ويتعب صديقه.ا
ركب كلاهما السيارة وهما بالعودة إلى عملهما، لكن جيفن تذكر شيئا مهما فعلت ابتسامة عريضة وجهه أخيرا .وانطلقا على الفور نحو محل لبيع الأثاث المنزلي.
حال دخولهما اشترى جيفن مرآة حائطية طويلة وطلب من البائع تغليفها كهدية ، وهذا ما تم بالفعل .خرج رفقة صديقه من المحل وهو في غاية السعادة لقد وجد هدية مناسبة أو هذا ما يظنه.
لم يستطع جيفن الانتظار كثيرا بل على الفور ذهب الى ورشة ليان ليقدم لها هذه الهدية كعربون صداقة و ليشكرها ايضا على كونها إستمعت له.
_ سامويل يمكن العودة إلى منزلك الان ،انا سآخذ هذه الهدية لصاحبتها.
_ ماذا ؟ ماذا؟ لكنك لم تخبرني بعد من هي ، اتظنني رافقتك كل هذا لسواد عينيك يا حبيبي ؟
_ ههههه ، فضولك هذا سيقتلك يوما ما ، إنها لصانعة الأقنعة ، تلك الفتاة غريبة الأطوار.
_ حسنا ، هكذا يمكنني العودة للمنزل وأنا مرتاح البال
وصلت الفتاتان الى منزلهما ، وضعتا الأغراض التي إشترياها على الطاولة ،وعلى الفور صعدت نتاليا الى غرفة النوم ، فهي لاتزال مستاءة مما حدث ، تبعتها روزالينا وجلست بجوارها.
_ ناتا يا وردتي ، لقد حملتي الموقف أكثر مما يستحق، ثم انك قصفت جبهته وهو لم كالغبي لم يجد سوى عضلاته بيرد عليك .
_ لا تحاولي جعلي على صواب يا روزا ، أنا المخطئة، لكن هذا لا يمنع انه غبي.
_ ههههههه حسنا هيا انهضي و دعينا نحضر طعاما شهيا ، فأنا أموت جوعا
نهضت الفتاتان وحضرتا الطعام معا على أنغام الموسيقى ، في هذه الاثناء رن جرس المنزل مرارا وتكرارا ولم تسمعاه، أخرج مارتن هاتفه و اتصل بأخته،ولم تجبه ايضا ، كان يسمع صوت الموسيقى فأدرك أنهما لن تسمعاه لذا قرر ان يصعد إلى نافذة المطبخ .
_ ههههه لن تنسيا هذا اليوم أبدا يا أختي الحبيبة.
كانت روزاليا في المطبخ تملأ كوب ماء لتشربه ، وفجأة ترى أحدهم خلف نافذة المطبخ ويحاول فتحها ، قدماه تجمدتا ولسانها عجز حتى عن الصراخ ليفتح مارتن النافذة وعلت وجهه إبتسامة شريرة حين رأى روزاليا بدلا من اخته ، فقرر إخافتها أكثر لكنها فاجأته بكوب الماء على وجهه ، وفي هذه اللحظة دخلت نتاليا لتنفجر ضحكا حال رؤية أخيها.
_ ههههههه ، تستحق ما حدث لك أيها اللص الغبي . ههههه أوووه يا إلهي لا أستطيع .
_ ههههههه أنا أسفة ، ظننتك لصا .
_ لا عليكما ، هذا جزاء نواياي الشريرة ، كنت أنوي إخافتكما ، لكن انتما السبب ظللت أتصل وأدق جرس المنزل بلا فائدة.
_ هههههه ، يبدوا انك مستمتع بحالك هذا ، إنزل سأفتح لك الباب الان .
وصل جيفن الى ورشة ليان ، طرق الباب ودخل بعد أن هزت رأسها سامحة له بذلك، فقد تعلم الدرس منذ ذلك اليوم ، مد تلك الهدية الغريبة لها وهو يخبرها أنه ممتن لكونها إستمعت له ولكونها قدمت له ذلك القناع الذي يبدوا حقيقيا.
_ ألن تفتحي الهدية ؟
نظرت ليان إليه بغرابة ، وكأنها تقول له وهل طلبت منك هدية؟، لكنها أسندتها على الحائط فقد كانت كبيرة وثقيلة ، ثم شرعت في فتحها ،لترى انعكاسها بالمرأة ، تسمرت مكانها لوهلة ونظرها ثابت على تلك المرأة ، لتنفجر فجأة كإعصار ، تصرخ وتضرب بيديها وقدميها في تلك المرآة ، إنكسرت المراة وتناثرت شظاياها في الارجاء. كل هذا وجيفن واقف كالصنم من هول الصدمة ، ثم اخيرا استعاد تركيزه وأمسك بليان التي لاتزال تحاول كسر ما تبقى من المرآة، لم تكترث لكل تلك الدماء التي تخرج من يديها ولا لكل تلك الفوضى حولها ،كانت ثائرة بين يديه ايضا وكأنها في مشاجرة مع أحدهم ولم تكتفي منه بعد .
_ هذا يكفي ، لقد تأذت يداك كثيرا
لم يكمل جملته تلك ، حتى فقدت ليان وعيها ، فحملها واسرع بها نحو المستشفى، ضمدوا جراح يديها وركبتيها اللتان استخدمتها ايضا في كسر المرآة! لقد ظل جيفن يفكر ، ويتساءل ألهذا الحد هديته قبيحة ؟ أم أن هذه الفتاة مريضة هاربة من إحدى مستشفيات الأمراض العقلية ، فكل تلك الهستيريا ليست طبيعية أبدا.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي