الفصل الثاني

انتظرت ليان الى حين رحيل بعض الزبائن ودخلت للغرفة الثانية و ظلت بها لدقائق تستجمع فيها نفسها لتعود ثانية بكل برود الدنيا لعملها، في هذه الأثناء كان هناك في الخارج من يشاهد الأقنعة في صمت ، خرجت لتتفاجئ بذلك الشاب الواقف أما مجموعة أقنعة رجالية والذي يدير ظهره لها . راقبته وهي تضم ذراعيها إلى بعضهما البعض وتتكئ على مدخل الغرفة التي خرجت منها للتو، لم تنتظر أن يستدير لتراه بل خاطبته بنبرة مستاءة.
_ من سمح لك بالدخول يا هذا ؟ أليس هناك باب لتطرقه !
استدار الشاب بوجه عابس وكأنها قد قطعت عليه تركيزه وأجابها بنبرة مشابهة لنبرتها.
_ الباب كان مفتوحا ، ثم إنني طرقت الباب مرتين ولم يجبني أحد .
_ هذا لا يعني أن لك الحق في دخول ورشتي دون إذن مني .
تمالك ذلك الشاب أعصابه و تغاضى أيضا عن نظرات ليان التي تتفحص تلك الندبة التي شوهت خده . وطلب منها أن يجرب أحد الأقنعة ،سمحت له بذلك وجلست على كرسي مكتبها وهي تقلب صفحات مذكرتها بلا هدف تدعي انشغالها ، ربما كي لا تحرجه خاصة بعد أن لاحظت إنكسار نظرته التي كانت حادة قبل قليل وخفوت صوته بعد أن كان عاليا متحديا، فقط لأن نظرها اتجه لتلك الندبة بخده.
اختار واحدا منها أخيرا ووضعه على وجهه ، أنه قناع جلدي رقيق جدا يلتصق بمجرد وضعه على الوجه ويصبح تماما وكأنه وجه حقيقي ، طلب الشاب من ليان مرآة ليرى ما إذا ناسبه القناع أم لا وتفاجأ من ردها .
_ ليس لدي مرآة في ورشتي بإمكانك أن ترى وجهك في هاتفك .
دار حول نفسه بحثا في زوايا الورشة عن مرآة فهو لم يصدقها ،ظن أنها تتحدث بهذه الطريقة لأنها لازالت غاضبة من دخوله دون أن تسمح له، لكنه بالفعل لم يجد.
_ إن كنت تثقين بجمالك إلى الحد الذي جعلك تستغنين عن المرآة، فأعلمي أن زبائنك في حاجة إليها .
نظرت إليه ليان ببرود ثم عادت للنظر في مذكرتها ، وفسر هو ذلك على أنها لم تستطع النظر لوجهه المشوه ،أخذ القناع ووضع ثمنه بغضب على المكتب وغادر المكان .
مر أسبوع على اليوم الذي واجهت فيه روزلينا بكل غضب الدكتور فبيان ، ونفت ما اتهمهما به . لقد وعد مارتن أخته بأنه سيحل سوء الفهم هذا وإن طال الأمر فهو لن يسمح لأحد بجعل أخته تشعر بالإهانة والذل هكذا و بالتأكيد سيجعله يدفع الثمن غاليا كائنا من يكون ، وهذا يحتاج إلى دلائل بالطبع كي لا يضع نفسه في ورطة .
_ روزا عزيزتي، لما انت شاردة هكذا ؟
_ هاا! ماذا قلت نتاليا ؟
_ قلت ما سبب شرودك هكذا ؟
_ لا تهتمي ، هل وجد أخوكي منزلا لنا أن ليس بعد ؟
تحدثت نتاليا بسعادة وأخبرتها أن هذا بالتحديد هو الخبر المفرح الذي تنتظر أن تزفه لها منذ الصباح . رغم أن المنزل ليس جاهزا بعد فهو يحتاج إلى بعض الإصلاحات و بعض الأثاث أيضا .إلا أنه سيكون بمثابة جنة لهما بعيدا عن هذه الحرباء أريانا، التي تسعى دائما لتنغيص كل لحظة راحة تنعمان بها .
_ روزا أنا سأخرج لمقابلة أخي من أجل اختيار بعض الأثاث هل تودينا الذهاب معنا ؟
_ لا لا لا ، لا أريد مقابلة أخيك مرة ثانية ، لقد أحرجني يومها الا تذكرين !؟
_ ههههه حسنا ،أدرك أنه ليس لبقا في حديثه كما أنه فضولي ، لكنه طيب فعلا .
_ هذا أمر لا يخصني ، اذهبي أنت عزيزتي ناتا وسنلتقي مساءا.
إتصل سامويل بصديقه جيفن مرارا وتكرارا لكنه لم يجبه. زاد قلقه كثيرا خاصة بعد أن اتصل بوالديه واللذان لا يعرفان مكانه أيضا . فبعد ذلك الحادث المروع الذي نجى منه جيفن بأعجوبة ، بات غيابه يدب الذعر في قلب سامويل وإن كان يدعي دائما عدم تأثر بما حدث إلا أن ما عاشوه جميعا بينما جيفن يصارع الموت في المستشفى، حفر حفرة عميقة بداخلهم .
أخذ مفاتيح سيارته وأسرع بالخروج ،لابد أن يبحث عنه في الأماكن التي يرتادها عادة وفي منزله أولا. بينما كان متجها نحو منزل جيفن ،كاد يصدم فتاة عبرت الطريق فجأة .ترجل من سيارته بسرعة ليطمئن عليها ويرى ما إذا كانت أصيبت بمكروه ما. لتقابله بصراخ واستنكار لتهوره الذي كاد يودي بحياتها ، فبسبب شروده لم يلحظ مرورها إلا متأخرا .إعتذر بشدة لها و فسر سبب عدم انتباهه .
_ أنا آسف يا آنسة، لقد كنت على عجلة من أمري .
_. أجل انتم دائما على عجلة ونحن يجب أن ندفع حياتنا ثما لعجلتكم.
لم تترك له الفرصة ليضيف كلمة أخرى وغادرت في حال سبيلها ،بينما عاد هو لسيارته، لكنه خفف سرعته هذه المرة وكان أكثر حذرا وانتباها.
بعد بحث مطول رن هاتف سامويل الذي كان على وشك العودة للمكتب ،أجاب على الفور فهذا رقم صديقه ،ليأتيه صوت الآخر كمعزوفة أو كتغريد عصفور في فصل الربيع ،من فرط السعادة .
_ ما هذا ؟. ما هذا ؟. تبدو في قمة سعادتك وأنا هنا أكاد أكل أظافري خوفا على متخلف مثلك.
ييدو أن جيفن في مزاج جيد جدا اليوم وقد وعد صديقه بأنه سيعوضه عن فعلته هذه ،لذا دعاه لتناول العشاء معه في المكان ذاته الذي انقطع جيفن عن الذهاب إليه بعد الحادث. فرح سامويل لذلك كثيرا فهو حاول قصارى جهده لكي يقنع صديقه بالعودة لحياته الطبيعية ولا يدري ما سبب هذا التغيير المفاجئ هل هي إيما يا ترى ؟
كانت ليان تجلس كعادتها على كرسي أمام طاولة خشبية عليها بعض الأقنعة التي لم تنتهي بعد ، تحاول إنهاء ها بسرعة فهي ضمن مجموعة طلبت منها ويفترض أن ترسلها بعد بضعة أيام .
دخل أحد الزبائن دون أن يصدر صوتا و يبدو من ملابسه وسيارته الحديثة أنه فاحش الثراء ، تأملها من رأسها إلى أخمص قدميها وهي جالسة على الكرسي توليه ظهرها .
_ ألم تسأم من تأملي ؟ أظنك هنا لترى الأقنعة ؟ وهي معلقة على الجدران لا عليا أنا .
ضحك ذلك الرجل بأعلى صوته ، ولم يخفي انبهاره بكونها أدركت أن هناك من يقف خلفها . وزاد انبهاره عندما استدارت بوجهها الملائكي و الجميل جدا ، ليتخلى على الفور عن رغبته في اقتناء قناع ، بل قام بتوسيع رغبته قليلا لتشمل اقتناءها هي ! و كأنها غرض رخيص أو ثمين لا يهم فالمبدأ واحد ،هي في النهاية غرض في عينيه و له ثمن مهما كان باهظا .
لم يكن من الصعب عليها معرفة نواياه ، والتي سرعان ما صرح بها وعرض عليها مبلغا ضخما من المال مقابل أن ترافقه لبيته ليوم واحد فقط .
ملأت الورشة ضحكتها الساخرة وبصوت عال كما لم يعلوا من قبل ،ثم وفي ظل ذهوله وصدمته اقتربت منه إلى أن باتت ملامحها واضحة جدا بالنسبة له و بوجه بارد كالصقيع ، طلبت منه أن يرحل كما جاء وأن يمحوا من ذاكرته عنوان هذا المكان أو قد تكون نهايته محزنة بشكل لن يتصوره عقله .
للأمانة لقد دب الرعب في قلبه للوهلة الأولى ،ثم قهقه وهو يقترب منها أيضا ويتساءل ماذا بوسع فتاة رقيقة مثلها أن تفعل ؟ لم تترك له الفرصة ليخمن بل سددت له ضربة قوية بركبتها في منطقة حساسة جعلته يتلوى حول نفسه وهو ملقا على الأرض .
_ حذرتك من أن تعبث معي، والأن أمل أن لا تتكاثر حشرة قذرة مثلك .
دخل مارتن مسرعا بعد سماعه صراخ الرجل من شدة الالم ، كان مستغربا مما يحدث لكنه لم يسألها شيئا واكتفى بإخراج الرجل من الورشة ورمى به أمام سيارته ، نهض الآخر ببطء شديد وركب سيارته وغادر المكان .عاد مارتن للورشة وألقى نظرة وهو يعلم أنها لن تحادثه ،لكنه أرد أن يطمئن ما إذا كانت في حاجة لمساعدة ما .
_شكرا لك
فتح مارتن عيناه بصدمة ما هذا لقد شكرته ، رغم أنه لم يقم بشئ مهم . صوتها جميل كملامحها أيضا .لم يترك الفرصة تذهب سدا و سمح لنفسه بالدخول ومحادثتها.
_ هل ازعجك هذا الرجل ؟ ألم يرغب في دفع ثمن ما اشتراه ؟
رسمت ليان ابتسامة ساخرة على محياها ولم تجبه ، عادت لبرودها وانشغلت في عملها ففهم أنها لا تريد الخروج من عزلتها هذه ، حسنا فضوله لم يعد الشئ الوحيد الذي يدفعه للإقتراب منها ، هو بات يشفق على حالها ، لا أصدقاء و لا أقارب و لا تقوم بأي نشاطات أخرى غير عملها ، وفترات خروجها معدودة وتكون لأجل إحضار الطعام ليس إلا .
عاد مارتن لمحله وجلس يفكر كيف لفتاة في مثل سن هذه الشابة أن تعيش بلا روح هكذا لابد وأن هناك لغزا ما خلف برودها وعزلتها هذه ،وصلت أخته نتاليا و الشرر يتطاير من عينيها ودخلت ورشة ليان بالخطأ وهي تسب وتلعن في لا أحد وفي كل شيء !، رفعت ليان رأسها لهذه الزائرة الثائرة ،لتجدها شابة في نفس عمرها أو أصغر بقليل .
_ أنا أسفة لست أدري كيف دخلت إلى هنا .
_ لا عليك .
إبتسمت نتاليا ومدت يدها لتصافح ليان بعد أن علمت أنها جارة أخيها ، لطالما ظنت أن من بهذه الورشة رجل . صافحتها ليان بيد مرتعشة وبنظرة زائغة لا تدري ما الشعور الذي إعتراها للتو، ربما كانت بحاجة ليد تمسك يدها بعد ما حدث منذ قليل .
_ أنا نتاليا أخت جارك المغفل مارتن ،آمل أنه لايزعجك وإن كان الأمر خلاف ذلك فأنا سأصبح جارتك قريبا بإمكانك إخباري و سأنتقم لك منه.
سحبت ليان يدها من يد نتاليا وضمتها إليها وإبتسمت لها رغم أنها لم تسمع شيئا مما قيل ، غادرت الفتاة و هي ظلت تحتضن يدها تلك . من البديهي أننا نحتاج للآخرين في حياتنا لكن لايمكن أن نعلم مدى صدقهم ،من يلدغ من الجحر مرة يصعب عليه إعادة الكرة مرة أخرى .
خرجت نتاليا من الورشة بعد أن ودعت ليان وذهبت لمحل أخيها الذي كان ينتظرها وتأخرت عنه ، وبمجرد دخولها إنطلقت سلسلة الأخبار والشكاوى المعتادة . والتي قطعها مارتن بضجر وهو يمد بطاقته المصرفية لها ويطلب منها مرافقته لشراء ما اتفقا عليه مسبقا فهو لا يملك وقتا كثيرا . لوت شفتيها فهي تعلم أنه يسكتها فحسب ولا دخل للوقت في ذلك
على الساعة التاسعة ليلا وصل جيفن أخيرا إلى صديقه الذي ينتظره لتناول وجبة العشاء التي وعده بها ، جلس بعد التحيه و إعتذر لصديقه عن اختفائه طوال اليوم وعلى ما سببه ذلك من قلق له ، فقد وجد اتصالات لا تعد ولا تحصى من صديقه ومن والديه أيضا و قد حرص على محادثتهما فور انتباهه لها.
_ دعك من الاعتذار الآن وأخبرني هل التقيت بإيما ؟
_ نعم لقد قابلتها ، كانت مصرة جدا على لقائي اليوم فهي ستسافر لبضعة أيام ، كان والدها برفقتها.
_ هل أمضيت اليوم معهما ؟ هل كانت هذه خطبة رسمية ام ماذا ؟
_ لا ، أنا وإيما فقط لقد غادر والدها بعد أن تعرف علي ، تعلم انني أخبرته بكل شئ عبر الهاتف قبل الحادث . وأخذت موعدا للخطبة أيضا .
_ أعلم لقد كانوا خارج البلاد حينها ، لكن لما لم يطلب رؤيتك حينها لا هو ولا إيما أيضا!؟
أخبر جيفن صديقه بأن والد إيما هو صديق والده ويعملان معا منذ زمن ، وهو و إيما يعرفان بعضهما البعض منذ الطفولة ، لكنهما افترقا بسبب سفر عائلتها إلى خارج البلاد وظل تواصلهما عبر الهاتف فقط ولا أحد منهما يعرف كيف أصبحت ملامح الآخر بعد هذه السنين .
كان سعيداً وهو يسرد كيف مر يومه وكيف أن فتاته تبدو أجمل مما كانت عليه في طفولتها ،بعد لحظات تكدرت ملامحه وهو يتذكر أنه خدعها بوجه ليس وجهه ،هو لم يقابلها بعد بل جعل شخصا آخر يقابلها .
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي