الفصل الثالث

لاحظ سامويل حزن صديقه و سعى ليغير مجرى الحديث فهو يعلم أن جيفن ليس مقتنعا بخطة القناع هذه رغم أنها نجحت ولم تكتشف إيما شيئا إلا أنه لم يرغب في خداعها هكذا ، وفي الوقت نفسه لا يقوى على رؤية نظرة الاشمئزاز في عينيها أو الشفقة أيضا .
_ أتعلم أني كدت أقتل فتاة اليوم بسببك أيها الولد الطائش؟
ابتسم جيفن لصديقه و سأله إن كان صادقا فيما يقوله ، وقص عليه الآخر ما حدث وكيف أنه كان مسرعا وكاد يصدم شابة عبرت الطريق أمامه ، وحكى أيضا ما قالته وهو يقلد صوتها وطريقة كلامها أيضا، ليسمع صوت تصفيق من خلف ، استدار ليرى من هذا ،ففتح عيناه من صدمته وشدة إحراجه.
_ هذه انت! ؟. ماذا تفعلين هنا؟
كانت الفتاة تجلس في الطاولة المجاورة لطاولتهما وتدير ظهرها لهما ، لكن ما إن ذكر الحادث حتى علمت من الجالس خلفها.
_ نعم هذه أنا ، كدت تقتلني والآن تقلدني ؟
أعتذر سامويل باحراج شديد بينما كان جيفن يتابع المشهد الفكاهي هذا وهو يمنع نفسه من الضحك و يحاول رسم الجدية على ملامحه . في هذه الأثناء وصل مارتن ليجد أخته نتاليا واقفة ويداها على خصرها وترفع حاجبا وتخفض الآخر، علم حينها أن هذان الشابان في ورطة وعليه إنقاذهما.
_ نتاليا ماذا بك ؟
_ هذا الشاب كاد يصدمني بسيارته صباحا والان يسخر مني أمام صديقه.
استدار مارتن نحو الشابان وهو يعلم أن أخته تجيد تضخيم الأمور و افتعال المشاكل
_ ليتك صدمتها، أ .. أقصد إعتذر منها فورا ،هذا ما كان ينقص .
لم يعد جيفن يسيطر على نفسه وانفلتت الضحكة منه لتجذب انتباه جميع من في المطعم ، لتلك التي تحترق غيظا بعد ما تفوه به أخوها، والذي يبدو أنه ضجر من مشاكلها. تمالك سامويل نفسه وتصرف بلباقة كعادته .
_ أسف آنستي، الحق معك فأنا لم أكن منتبها صباحا بسبب إختفاء الجالس أمامك هذا وانشغالي بالبحث عنه ، وأسف أيضا لاني قلدتك .
لم يعد لنتاليا حجة للتذمر أمام لياقته ، فها هو يعتذر للمرة الثالثة.ثم أنها ليست فتاة حقودة وقد نسيت الأمر لكنه أثار غضبها بتقليده لها بتلك الطريقة المضحكة .
_ حسنا انتهى الامر ولا داعي لإطالته أكثر ، أما أنت يا سيد مارتن فتناول عشاء بمفردك.
غادرت نتاليا دون تناول العشاء وتبعها مارتن بقلة حيلة ،بينما أكمل جيفن وصديقه عشاءهما بهدوء.
كانت روزلينا نائمة بهدوء في سريرها ، و أريانا أيضا كانت مستلقية على سريرها تدعي النوم و عقلها المريض يبحث عن شيء يقض بيه مضجع تلك النائمة بسلام .
بعد لحظات قامت نحو خزانة الملابس الخشبية الصغيرة التي تحتوي أغراض نتاليا ، قامت بتمزيقها كلها بمقص ثم وضعته بهدوء تحت مخدة روزلينا ، و لأن نتاليا ستبيت اليوم في شقة أخيها فهذا يعني أنها ستستمتع صباحا بشجار الصديقتين .
أشرقت الشمس واستيقظت الغربان قبل العصافير ،تسحبت أريانا من الغرفة و ذهبت لتناول وجبة الإفطار ، فلابد وأن نتاليا ستصل بعد قليل ولا يجب أن يفوتها شئ ، لذا قررت انتظار قدومها و ما إن تراها ستصعد خلفها. وهو ما حدث بالفعل، دقائق معدودة ووصلت نتاليا. صعدت للغرفة وصعقت من هول ما رأته وكأن ليلة أمس كانت من الجمال بما كان! لتكتمل الان بهذه الفوضى في خزانتها. صرخت بإسم أريانا فهي متأكدة من أن لا أحد سيقوم بهكذا فعل سواها .
كانت الصرخة كافية لتجتمع باقي الطالبات القاطنات بالسكن الجامعي ، فالغرف متقاربة و بإمكان أي أحد سماع ما يدور فيها من حديث. ما بالك بصرخة!.
تدخلت إحدى الفتيات في شجار أريانا ونتاليا لمعرفة سبب هذه الفوضى .
_ هل يمكن أن نفهم لما كل هذا الصراخ، ألا يمكن أن يمر عليكم يوم دون مشاكل؟
تحدثت نتاليا بكل قهر وغضب، وأشارت لملابسها الممزقة ثم بدأت تتهم أريانا أمام الجميع .و الأخرى كانت هادئة بشكل غريب ، إلى أن قررت أن تنهي هذه المهزلة بالجزء الأخير من خطتها مستغلة كون روزلينا خارج الغرفة .
_ أنا لم أقم بقطع ملابسك ثم إنني لست الوحيدة التي تشاطرك الغرفة ، لما لم تتهم روزلينا مثلا.
ضحكت نتاليا بصوت عال جدا ،ليس من فرط سعادتها طبعا .بل لأن نية أريانا باتت واضحة الان .و في ظل هذا الجو المتوتر اقترحت إحدى الطالبات تفتيش أغراض شريكتي نتاليا في الغرفة فقد تجدن شيئا يدلهن على الفاعلة فيحل الأمر دون ظلم لإحداهما . في هذه اللحظة دخلت روزلينا وفي يدها فوطة تمسح بها وجهها . كانت تنظر للجميع باستغراب ولكي تفهم ما الذي يجري في غرفتها سالت صديقتها.
_ ما كل هذه الفتات ! هل هناك خطب ما عزيزتي ناتا .
_ نعم روزا ، أريانا قامت بقص كل ملابسي دون استثناء تخيلي!
شهقت روزلينا ووزعت نظرها بين الفتيات وهي تخاطبهن.
_ أنتن شهادات على ما قامت به وما افتعلته من مشاكل طوال هذه السنة .
كان موقف أريانا ضعيفا للغاية وهي تدرك ذلك؛ فالجميع يعمل أنها تفتعل المشاكل معهما دائما ،لكن هذه المرة خطتها ناجحة ويكفي أن تأكد على اقتراح تلك الطالبة، وهذا ما تم بالفعل.
قامت الطالبات باختيار اثنتين منهن للبحث في أغراض روزلينا وأريانا أيضا. وبعد دقائق من البحث أخرجت إحدى الطالبات مقصا علقت به قطعة قماش صغيرة جدا .
الجميع وجه نظره للفاعلة و علت الصدمة وجوها الجميع ، لقد وجدت المقص في حقيبة يد أريانا!!، كادت تجن فقد وضعته بيدها تحت مخدة روزلينا،كيف أصبح الآن بين أغراضها هي .
ارتسمت ابتسامة شامتة على محيى روزا ، وكأنها تقول لها : لقد انقلب السحر على االساحر
لم يمر الأمر دون عقاب فقد قامت الطالبات بشرح ما حدث لإدارة السكن وعرضت على مجلس تأديبي، تلقت فيه توبيخا كما فرض عليها دفع ثمن كل ما أفسدته
.بعد ما يقارب الشهر .
كانت ليان في الورشة تنظف الأرضية بهدوء وتتذكر كلام جدتها :
_ إن أول ما يجذب نظر الزبائن يا ابنتي هو نظافة المكان ،لا تنسي هذا أبدا .
ابتسمت ليان نصف ابتسامة كعادتها وهي تردد : لم أنسى يا جدتي وكيف أنسى والمظاهر هي الشيئ الوحيد الذي يشغل تفكير الجميع .
أكملت عملها واستمرت ذكريات طفولتها تتراقص في مخيلتها
_ أمي هل أشبه القمر يا ترى؟
_ هههه انت أجمل منه يا صغيرتي ،لكن لما تسألين!؟
_ أبي يقول لي دائما يا قمري ،هذا يعني أنني أشبهه أليس كذلك
_ ماذا تحيك الفتاة وأمها في غيابي ؟
طرق باب الورشة ففزعت ليان التي كانت شاردة تسترجع ذكرياتها ، انتبه ذلك الشاب لكونه أفزعها فأعتذر لها ، رمقته بنظرتها المعتادة و اتجهت لمكتبها ،بينما ظل هو واقفا أمام الباب هذه المرة، ينتظر أن تسمح له بالدخول وهو ما لم ولن يسمعه من شفتيها . ثم عندما سئم الانتظار دخل وبنبرة غاضبة صرخ في وجهها :
_ ألاترين أني أقف أمام الباب منذ مدة؟
بكل برود الدنيا أجابته: وما ذنبي إن كنت لا تفهم . ثم ماذا تريد ؟
_ أريد أن أسألك ما إذا وجدتي محفظة هنا منذ شهر فقد أضعت محفظتي ولم يخطر في بالي هذا المكان الا بالأمس .
أخرجت ليان المحفظة من درج مكتبها و قدمتها له وهي تخبره أنها بحثت بداخلها عن عنوان أوأي شيئ يدلها على صاحبها لكنها فارغة إلا من مبلغ مالي وصورة فتاة يبدو أنها في بداية عقدها الثالث . جلس هو دون إستئذان هذه المرة وتجاهل نظرتها المستغربة أيضا،وشرع دون وعي منه يسرد لها قصته وكأنه كان يحمل هما ثقيلا وما عاد يستطيع حمله بعد الآن، ولأنها الغريبة التي لا علم لها بهويته بات سهلا عليه البوح بما يثقل كاهله .
_ تلك الصورة هي لفتاة أنوي خطبتها ولكنها لم ترني قط بل لقد رأتني ،أقصد لا لم ترني أنا .
رفعت ليان حاجبها بإستغراب ؛ فهو لم يقل جملة واحدة مفيدة ،ثم قاطعت حديثه غير المفهوم هذا بسؤال محرج، فيبدو أنه ينوي إلقاء همه عليها وكأن هذا ما ينقصها.
_ ألم تأخذ محفظتك؟ ماذا تنتظر هنا إذا ؟
شعر بإحباط من ردها هذا، فقام ليخرج ببقايا كرامته التي أطاحت بها للتو ،لكن تداركت الموقف بعد أن شعرت بفظاظة تصرفها.
_ أنت يا هذا ! كيف تشرب قهوتك؟
استدار إليها بعدم فهم وسألها ماذا تقصد فهي للتو طردته بشكل غير مباشر ،بل بطريقة فظة .
_ عفوا نسيت أنك لا تفهم ، إجلس وأخبرني عن فتاتك تلك .
أدرك ذلك الشاب أنها بهذه الطريقة تعتذر منه على ما قالته ،إبتسم فقد أهانته مجددا لتعتذر بدل أن تقولها بشكل صريح *أسفة * وينتهي الأمر ، لكنه جلس رغم ذلك فهي تبدو غير معتادة على محادثة أحد وهذا ما يمكن للجميع ملاحظته ، خاصة وأنها تهرب من نظراته وإذا نظرت له فتكون نظرتها باردة وساخرة، ربما تلك طريقة لإخفاء خجلها و ضعفها.
كانت روزلينا واقفة أمام المرآة تتأمل نفسها بشرود ، تتردد في أذنها صرخات لا تريد أن تتذكر صاحبها وبكاء مرير يصم أذنيها ،هي لا تعلم لما يتكرر هذا بين الفينة والأخرى في مخيلتها ؟ لكنه يؤرقها جدا .
دخلت أريانا بكامل أناقتها إلى تلك الغرفة المشتركة بينهن في سكن الطالبات ، كانت روزلينا لا تزال على حالها ، اقتربت منها وبهمس كفحيح الأفعى أخبرتها أنها وإن ظلت تنظر في المرآة الى اخر يوم في عمرها فإن قبحها لن يتغير ، ثم ضحكت بصوت عال خليع أفاقت على إثره روزلينا من شرودها حتى أنها لم تسمع ما قالته تلك المعتوهة ، كما تطلق عليها نتاليا . نظرت لها باشمئزاز ثم غادرت الغرفة بحثا عن صديقتها ،فلم يتبقى سوى يومان على الامتحان الأخير الذي يفصلهما عن فرحة التخرج ، وعليهن أيضا نقل بقية أغراضهن إلى المنزل الذي استاجره لهما مارتن .
دقائق من البحث بين أروقة السكن لتعثر على نتاليا أمام إحدى النوافذ تلوح بيدها مارتن الذي ينتظرهما في الأسفل ،وقد طلب من أخته أن تحضر أغراضهما المتبقية ليقلهما إلى المنزل . ما إن أخبرت نتاليا صديقتها روزا بالأمر حتى علا صوت أريانا التي سمعت كلامها.
_ أخيرا ! سوف أتخلص منكما ،لا أستطيع تصديق هذا حقا.
_ بل صدقي عزيزتي فرائحتك المقرفة تستطيع جعل الجميع يفر من هذا السكن .
اشتعلت أريانا غضبا بينما ظلت نتاليا تقهق لتزيد من غيظها ، سحبتها روزلينا للغرفة كي تنهيا حزم أمتعتهما.
المنزل جميل فعلا و يناسبهما تماما رغم صغره، إنه يحتوي غرفة نوم واحدة ومطبخ وصالة لاستقبال االضيوف، لقد حرص مارتن على إستئجاره وتجهيزه لهما وهو الأمر الذي تطلب منه بعض الوقت، فبعد أن علم من أخته أن روزلينا يتيمة الأبوين وليس لها أقارب لتذهب إليهم بعد تخرجها، قرر أن يستأجر لهما هذا المنزل.الأمر في صالحه أيضا سيتخلص من إزعاج أخته التي لا تكف عن الثرثرة و بعثرة أغراضه هنا وهناك عندما تأتي لشقته.
وضعت ليان القهوة أمام ذلك الشاب وعادت لتجلس في كرسيها وتقلب بين صفحات مذكرتها بلا هدف مجددا.اكمل هو حديثه وبين الفينة والأخرى كان يرتشف قهوته :
_ كما قلت، لقد رأتني بالقناع فقط ولم يسبق لها أن رأت وجهي الحقيقي ، لا داعي أن أخبرك كم يبدو القناع واقعيا وكأنه وجهي ،فانت صانعته.
_ أعلم ذلك ، هو حقيقي لدرجة لايمكن لأحد توقعها .
_ عفوا لم أفهم قصدك ؟
_ لا تهتم وأكمل حديثك من فضلك .
_ أخشى أن تنفر مني حال رؤيتها لوجهي الحقيقي ، حسنا بما أنك فتاة و جميلة مثلها أيضا هل تعتقدين أنها ستقبل بي رغم أن وجهي مشوه هكذا ؟
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي