الفصل الرابع ..

اصبحت تدرك الاشخاص من صوت وقع اقدامهم علي الارض وهم في طريقهم اليها ، تعرف صوت قدميه جيدا ، تدرك انها زيارته المسائية لهذا اليوم ، يمر عليها مرتين في اليوم ، رغم انها لا تدرك النهار من الليل ولكنها اصبحت تعرف الايام من تتابع الممرضات عليها و زيارته لها ، تتغير ممرضاتها ثلاث مرات في اليوم ، تبقي كل منهما ساعات محددة وتختفي وتأتي الاخري ، اسوأهم تلك العجوز التي تعاملها كما لو كانت احدي وسادات الفراش ، تقلبها دون اهتمام ، تضع لها السيروم بلا كلام ، تتعامل معها كما لو كانت شئ وليست انسان ، تعود لتغمض عينيها بقوة كي لا يري دموعها التي لا تجف ، يقترب منها ويهمس انه لا يدري ان كانت الاخبار الجديدة بسببها ام لا ، لكن اذا كان لها صلة بها فمن يبحث وراءها سيكون هو من يطلق رصاصة نهايتها ، يزيد من خفض صوته ويقول انها مدركة لا شك ان لا خروج من هذا المكان ، يعلو صدرها ويهبط في اضطراب مع تسارع انفاسها المتلاحقة وهي تنصت لكلماته ، هل تفرح بها ام تحزن ، هل تبحث أسيل عنها ام انه سيتخلص منها اذا ما اقترب البحث منها ، تتسارع نبضاتها ويراها علي جهاز المونيتور الموصول بها ، يضحك بصوت عال ، يقول انها خائفة ، ألم يكن من الافضل ان تبعد انفها عن امور اكبر منها ، يتنهد وهو يقول ان الامر تخطاه ، لم يعد هو الذي يقرر مصيرها ، الكبير هو من يهتم لحالتها الان ، كانت تريد ان تعرف من هو هذا الكبير منذ البداية ، بحثها عنه هو من جعلها في هذا المكان الان ، هل هو محق انها تدخلت في امور جعلت ما هي فيه مصيرها ، لكنها تشتم رائحة قلق في نبراته ، قلقه يريحها رغم الخوف الذي يتملكها ، تسمعه يبتعد بخطواته ، تلتفت لتنظر لظهره العريض وهو يغادر الغرفة الثلجية التي اصبحت عنوانا لمعاناتها ، تراه وهو يتوقف لينظر اليها ، يقول وكأنه تذكر شيئا انه قد يتغيب صباح الغد ، لا تقلق هو لن يغير عاداته معها لكن لديه في الغد موعد لابد وان يحضره ، يضحك ويعود ليمضي في طريقه ويختفي وسط لعنات قلبها تصبها عليه .
لايزال صالح يمارس اكثر شئ يحبه معه ، اغاظته ، يقول انه لا يعطي جوبسي فرصة لتعبر بها عن حبها له ، تستفزه تلك الكلمات من صديق عمره الذي يعرفه جيدا ، ينظر اليه بعينين ينطلق منهما اللهب ، يضحك صالح عاليا وقد بلغ ما يريده ، يعود ليقول انه رغم هذا يري في كلامها بعض الصواب ، هو يترك الحياة تتسرب من بين يديه ، لا يعيشها بقدر ما يعيش القضايا والاحداث المؤلمة ، يترك الاستمتاع بها مع صاحبة او صديقة ، . يصمت ثم يقول وهو يغمز ، او حبيبة ، يرد عمر ان ليس لديه الوقت لهذا الهراء ، يعترض صالح ، يقول ان ما يدعوه هراء هذا هو ما يقول عنه حياة ، فلا حياة بلا مشاعر او نساء ، يقول مداعبا ان النساء هن من يعطين للحياة طعما ، في وجودهن اللذة القصوي ، يلتفت اليه عمر ، يسأله لماذا اذا لم يستقر علي احداهن حتي الان ، يرد صالح متباهيا انه يستمتع بتنوع اللذة في تنوع النساء ، يعود و يقول قد يكون هناك من تقنعه انها النساء مجتمعة فلن يضطر الي هذا التنقل بين الزهور كي يستمتع برحيق مختلف في كل مرة ، لعل هناك من تستطيع منحه الرحيق الذي يدمنه ولا يريد ان يفقده او يغيره ابدا ، لكنه علي الاقل يستمتع بهذا التنوع الي الان حتي تأتي تلك التي ستخدره لدرجة الادمان ، يتردد عمر في سؤال يريد ان يطرحه ، ويقرر الا يتكلم بهذا الامر مع صديقه في النهاية ، يري صالح تردده ، يقول كأنه يريد ان يقول شيئا ، يرد عمر ان لا شئ يريد الان سوي النوم كي يبكر في الغد ، يطلب منه الاستعداد غدا مبكرا فسيمر عليه قبل ان يذهب للمخفر ليذهبا سويا ، يرد صالح انه سيذهب بسيارته ، لعله يستطيع ان يصطحب احدا معه في طريق عودته ، ينزعج عمر لتلميحات صديقه ، يسأله بقلق عمن يقصد بكلامه ، يضحك صالح انه لا يقصد احدا معينا ، هو دوما في انتظار رزقا من الله يأتيه في اي وقت ، لا يعترض علي اختيارات القدر ، يقبلها جميعها ، يزداد ضحكه وهو يتذكر جوبسي وملاحقتها لعمر ، يقول انه لو كان مكانه لانهي الامر وانتقل لمن تليها ، يقول ان الفتاة تتحول لنار حين تراه ، ألم يفهم ما تريده بعد ، يرد متسائلا ان لم يفهم هو انه لا يريد ما تريده هي ، يرد صالح انه يستطيع ان يبدأ بما تريده حتي يجد لنفسه ما يريده ، هكذا الحياة ، يرد عمر انها الحياة التي يعيشها هو ، لكنه لا يريد تلك الحياة ، يريد حياة يختارها وتختاره ، لا حياة تفرض عليه او يفرضها علي احد ، يقول صالح ان مثاليته تلك لم تعد موجودة بهذا الزمان ، الجميع لا يفعل ما يفعله ، يقول عمر انه يتحدث عن الجميع وكأنه يعرف كل بشر العالم ، لابد وان هناك الكثيرون مثله ينتظرون ان يعيشوا الحب بطرفيه ، لا يغرقون في مستنقع الشهوات فقط ، ينتظرون ان تتلاقي الشهوة والرغبة مع المشاعر والاحاسيس ، يقول انه عاش تلك المشاعر مرة ، حتي انه يفتقدها كثيرا منذ رحلت عن عالمهم ، لكنه لن يعيش حياة الاموات التي يعيشها هو ، يضحك صالح ، يقول انه لا يعيش حياة الاموات ، هو من يعيش حياة الاموات حين اغلق قلبه عن كل شئ الا العمل ، يعود ويقول ان هذا الامر لا يمكنهما ان يتفقا فيه ابدا ، يصلال الي حيث سياراتهما ، يودعه علي موعد باللقاء في الصباح الباكر بالمخفر .
تلك الاقدام لم تزرها من قبل ، ما هذه الزيارة الغريبة و التوقيت الاغرب الذي يحدث اليوم ، هل أسيل تقترب منها ، تحاول ان تنصت لصوت القدمين الذي تسمعه ، يفاجأها صوته يحدث العجوز ، هل تعرف هذا الصوت ، تحاول ان تنصت جيدا ، هل يمكن ان يكون هو الكبير الذي بحثت عنه فكان هذا مصير بحثها ، هل هو من يهتم لامرها الان ، هل هو من معه قرار بقاء ها حية او توقيعه علي شهادة الوفاة ، لم تتمكن من مقاومة رغبتها ان تراه رغم اصرارها علي ان تبقي مغمضة العينين ، تسمع خطواته وقد استقرت بجوار سريرها ، ** مرحبا أيسل ** ، صوته الخشن الدافئ وهو ينطق باسمها يغريها ان تفتح عينيها ، تبقي علي عيونها مغلقة ، كلما عرفتهم اكثر زاد دافعهم للتخلص منها ، هكذا قررت ، لا تريد ان تعرف الكبير .
بعد كل تلك الازمات التي تداهمك هل تحددت هويتك ، من أنت
كم بغيض هذا الشعور بالخذلان حين يمر الوقت ولا تجد من يرفع يده من اجلك وانت من كنت تظن انك احد المحظوظين في هذه الحياة ، يمر الوقت كالسحلفاة اذا ما كنت تنتظر الخلاص ، ويسرع ليمضي كالبرق اذا ما اردت الاستمتاع ، هكذا الحياة تعيد ترتيب احجارها من جديد لترسخ قواعد جديدة ، هل ستتمكن يوما من الاستفادة بما اصبحت خبيرة به ، هل ستعود للحياة التي خذلتها بعدما ظنت انها مدللتها ، تسمعه يقول بصوت خشن ساحر انه من يبقي عليها حتي الان ، يريدها لامر يهمه ، لكن ان لم يكن لها فائدة ستتغير الاوضاع ، تتعجب ما الفائدة التي ينتظرها وقد حرص علي ابقاءها مخدرة لايام لاتدري كم مر منها ، هل عليها ان تحصي الايام من الان لتعرف الوقت ، لابد وان تفعل هذا ، يتأفف من صمتها ، يقول انهم لم يتعرضوا للسانها بعد ، لو ارادوها صامتة لجعلوها تنام كليا ولا تشعر بشئ ، يقترب منها ، تشعر بانفاسه علي وجهها ، تشم رائحة عطره النفاذة ، يهمس انه يملكها الان ، عليها ان تعي هذا ، تزيد في غلق عينيها بشدة ، يضحك ، تسمع ضحكته ، تتعجب كيف ان لشيطان مثله هذا الصوت و تلك الضحكة ، حتي عطره ، تعرفه ، تحبه كثيرا ، كم من الشياطين تنكروا في زي ملائكة ، هل كان الشيطان يوما ملاكا ، كثيرون يدّعوا هذا لكنها لا تعتقد ابدا ان هناك ملاكا يستطيع ان يصبح شيطانا مهما كانت دوافعه وظروفه ، لابد وانه كان شيطانا منذ البداية ولكن لم يتعرف علي نفسه الا حين اكتشفها ، كيف يقول هذا الشيطان كلاما بهذه القسوة وهذا السحر الذي بصوته ، لا تدري ما الذي جعلها تراه في مخيلتها رجلا وسيما ، ميله عليها يدل انه ايضا طويلا ، تتعجب من تفكيرها هذا ، تكاد تقع في غرام خشونة صوته ، ام انها تحاول ان تتسلي بما تركوه لها من حس ناقص لا تقدر به ان تهش ذبابة عن جسدها ، ، يعود ليهمس انهم لم يخبروه كم هي جميلة من قبل ، تشعر باصابعه تتخلل خصلات شعرها ، تسمع انفاسه تتشمم رائحتها ، يزفر فتشعر بحرارة علي وجهها ، يبتعد ويقول اذن ، سيتركها الان ولكن سيعود في وقت تريد فيه الكلام ، لو علمت ما الذي يدخره لها من مفاجآت لتكلمت علي الفور ، تكاد تنطق ، تكاد تسأله ما الذي يريده ، لكن صوتها لم يخرج ، يعود للهمس ، يقول انه سيعود ، وستكون وقتها جاهزة لتخبره ما يريده ، تشعر بانامله علي وجهها تتجول لتمسك بذقنها برفق ، يضحك ويقول كم تعجبه طفولتها تلك ، تسمع وقع اقدامه تبتعد عن سريرها ، تلتفت لتري ظهره ، هو كما توقعته طويل عريض الظهر ، يبدو كمن يمارسون الرياضة في هذا التيشيرت الذي يظهر عضلات ظهره ، تراه يبتعد عنها فتتنفس بعمق ، لكنها تعود لتغلق عينيها حين تراه يتوقف في منتصف طريقه للخروج ، يلتفت فيراها كما تركها مشيحة بوجهها للجهة الاخري ، يقول بصوت ضاحك ، ** بالمناسبة ، إلتشين عادت لاسطنبول ** ، تكاد تصرخ فيه ، بل انها حاولت ان تصرخ ولكن لم تجد صوتها ، اختها باسطنبول ، لابد وانها تبحث عنها ، لابد وان وجودها هو سبب تلك الزيارة منه ، هل اقتربت منها لدرجة انهم يشعرون بالتهديد فعلا ، ام انها لاتزال بعيدة عن سبب غيابها عنها ، يعاود عقلها العمل ، تحاول ان تفهم سببا لضحكته وهو يخبرها بعودة اختها ، هل اختها ايضا في خطر ، يبدو ان موعد المنوم قد حان ، فها هي العجوز تتقدم منها ككل ليلة ، تكاد تفرح لهذا المنوم الذي يتوقف معه عقلها عن التفكير بالحال الذي وصلت اليه ، تقترب منها العجوز باهمال كعادتها ، وعلي غير عادتها تتكلم ، لم تسمع صوتها قبل اليوم يخاطبها ، تقول انها ستنام بعد قليل ، هي اضافت المنوم للسيروم ، تتابع أيسل حركات العجوز بعيون قلقة ، يخرج منها صوت كالحشرجة وهي تسألها ما تاريخ اليوم ، ما كادت ان تنهي سؤالها حتي غرقت في النوم من اثر هذا المنوم القوي الذي يمر بدمها مباشرة بعدما يضيفونه للسيروم 
مع اولي اشراقات النهار تستيقظ ، لم يكن نومها هادئا ، تخلله كوابيس عدة ، اسوأها هذا الكابوس الذي لا ينتهي بيقظتها ، لاتزال أيسل مختفية ، وكأن هذا الكابوس لا يكفي لتتكالب عليها انواع اخري من الكوابيس فيطير النوم معها ، تقوم لتذهب للمطبخ كي تصنع قهوتها ، تتذكر ان أيسل لا تحب القهوة ، كانت دائما تفضل الشاي عليها ، تقرر ان تصنع شايا بدلا منها ، تجلس في الشرفة تشربه وتفكر ، ما الذي ينقص هذه الصورة لتكمل ، تشعر بشئ ناقصا في لغز اختفاء اختها ، هناك شيئا خفيا لا تعرفه ، شخصا اخر له يد في اختفاءها ، هل يمكن ان تكون تعرفت علي اخر كما يقول يونس ، * انه يكذب * هكذا رددها عقلها ، لكنها تعرف كم يحبها ايضا ويغار عليها ، كم اعلن غيرته وهو يداهم المسرح الذي تتدرب به فجأة دون ان يخبرها بقدومه كي يري من تحدثه او ليعرف من يحاول التقرب منها ، عاصفة من الاافكار تتصارع بعقلها لا تدري ما الحقيقة بينها ، * هربت مع اخر * هكذا قالها دون ان تشعر في نبراته بغيرته التي اظهرها من قبل ، هل بسبب غضبه عليها ، ام ان هناك سبب اخر لا تعرفه ، وهذا المحقق الذي قابلها ببرود ثم اصبح ينظر اليها بشفقة ، تتذكر رغبته ان تبقي وقت بكت امامه ، لا تريد شفقة من احد ، يكفيها ما حدث لها قبل ان تغادر هذه المدينة ، تبدو تلك الفترة كحلم غريب ، الجميع ودعها بالشفقة ، لكنها كانت تغادرهم وهي رافعة الرأس رغم نزيف قلبها امام قسوته ، لم يكن سوي احد الوحوش الذين يدعون انهم من الرجال ، لم يفكر مرتين وهو يخبرها انها ليست سندريلا ولا هو امير الاحلام ، كل ما اراده هو ان تقاسمه سريره بضعة شهور ، تستمتع به كما يستمتع بها ، لكنها ليست من نوعه ابدا ، لم تنضج بعد لتعلم ان علاقاته لا تتعدي الاشهر ، تسمعه وهو يردد انه لم يخلق ابدا لإمرأة واحدة ، هو ماردان ، فرسا لا يقدر علي اعتلاءه احد ، بحرلا ينضب من المتع ، تزداد مقتا له الان ، فلولاه لبقيت مع اختها ، ام عليها ان تمقت يونس الذي جعل اختها تبقي بهذه المدينة القاسية ، انهت كوب الشاي و قامت متجهة الي الحمام لتتحمم ، قد تستطيع المياة ان تغسل حزنها ، تعرف ان مياة السبعة بحار لن تستطيع ان تمحو هذا الحزن المستقر بصدرها لا يتحرك ، لم تعد نفس الشخص الذي اتي تلك المدينة للمرة الاولي ، هناك اشياء اذا ما حدثت تهون معها الدنيا بما فيها .
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي