4 بالفعل حاولت الصراخ، لكن ما هذا الشيء

الصمت يعم المكان، صوت رياح مكبوتة أسمعها تعوي كالذئاب تنذر بهبوب عاصف رعدية، لكن لم يكن هناك هواء، أو حتي نفحات ريح طفيفة، فتحت عيني لكنني ظننت للوهلة الأولي بأني أصيب بالعمي، لم أري شيئا.

المكان مظلم، أيا كان هذا المكان الذي انا فيه فهو معتم بشدة، لكن ما هذا، أنه ليس ظلام،
هذا شيء تكسوه عيني، أشم رائحة ثياب جديدة كالتي يبتاعها والدي لنا في الاعياد، لكن هذه رائحه قماش قطني، أميزها بدقه.

قماش غريب تنبعث منه رائحة مقبضه، ليست مثل رائحه ثياب أبي القطنية الجديدة، حاولت تحريك يدي لأتحسس ماهيه هذا الشيء علي عيناي ولما هو موضوع عليها من الاساس؟

لكني ياويلي ما هذا؟ يداي مكبلتان بأحكام، هل انا مخطوف؟ ام ماذا؟ لماذا لا استطيع تحريك أي جزء من جسدي؟ فكرت لبرهه قليلا واستطعت أن اكتشف ما أنا فيه، يا اللهي الرحيم، أنا مكفن، لكن لماذا بحق السماء؟ أنا لست ميتًا، أريد أن أصرخ بأعلى صوتي.

بالفعل حاولت الصراخ، لكن ما هذا الشيء الي بداخل فمي، حركت لساني وتذوقت بحذر، ما هذا؟ هذه قطعة من القطن، لا يمكنني تحملها أكثر من ذلك، قاتلت وقاتلت وفركت يدي حتي تحررت من ذاك الكفن، انا حر.

نزعت الكفن من علي وجهي بجنون كأنه حشره تلدغني بلا رحمه، أخرجت القطن من فمي، سعلت بشده حتي كادت روحي أن تنسحب من جسدي، أخذت شهيقا عميقا، لكنه كان محملا بالأتربة القذرة جعلني أسعل مره أخري باشمئزاز شديد.

نظرت حولي، لكن لا يمكنني رؤيه أي شيء، فقط رائحه عفنه كريهة، شديدة التقزز، ظلام دامس انا غارق فيه حتي العنق، شعرت بالظلام والرياح العاتية في كل مكان حولي على الأرض.

ولكن ما هذا، شعرت بشيء يتحرك، مررت أناملي المرتجفة علي الأرض الباردة بشده، لكن يا اللهي لقد لمست يدي شيء ما باردا جدا، أقسم بانني شعرت به يتحرك تحت يدي ولم تكن هلاوس أثر الرعب الذي أعيشه مجبرا، بل هيه حقيقه، أنا واثق.

رفعت يدي بسرعة، زحفت من الخلف، لا أعرف إلى أين أنا ذاهب
لكن مره أخري لمست يدي غرضا صلبا يغطيه قماش مهترئ، الأن فقط فهمت كل شيء، هؤلاء أموات، كلهم هياكل عظمية وتلك أكفانهم، لقد استوعبت الان فقط، أنا مدفون في مقبرة.

لقد دفنوني حياً، لماذا دفنوني حياً؟ الأربعين يوماً لم يمروا بعد، أم عدوا بالفعل وأنا لا أدري، لكن كيف متي حدث هذا؟ أشعر بأنني سأجن، صرخت بكل ما أتيت من قوه:
_إين انااااا؟ أنجدوني، يا الله أنا حي أرزق، انقذوني يا ناس، يا أمي غين أنتيييي؟

لم أتوقف عن الصراخ الهيستيري حتي سمعت صراخ أشد غلظه وحده، كأنه صوت رجل عجوز لكنه قاسي جاف، صاح في قائلا بغضب:
_أخرسسسسس يا فتي، يكفي هذا عليك اللعنة، قلقت منامي يا أحمق.

سمعت هذه الجملة، أصابني خرس مفاجئ، من قال هذا الكلام؟ من تحدث معي لم أجرؤ علي سؤاله، أو مناداته، لكن إلي متي سأظل في هذا القبر المرعب؟ أنا مازالت علي قيد الحياه، مكاني ليس هنا، ليس اليوم بالتأكيد، سأرحل، سأجد وسيله لأخرج من هنا.

ما زلت أتحدث مع نفسي في سري، لكن فجأة رأيت في عز الظلام الذي أنا فيه
رجل طويل جدا يقف فوق على درج، رأيته في الظلام بسبب عيناه المضاءة كعيون القطط بضوء أصفر باهت يبعث الرعب والفزع في قلوب أقوي الرجال.

أخذت عيناي في الظلام تميز المكان
رأيت الكثير من الأكفان، نظرت إلى الخلف، إلى الرجل الذي صاح بي منذ لحظات، رأيت هيكل عظمي جالي علي ركبتيه وضعيه الكلاب، الكفن هالكا عليه، ظهر وجهه بوضوح، لم يكن وجها تحديدا، بل هو وجه هيكل عظمي وهناك بعض أثار الجلد المتبقي عليه أسنانه لم تتساقط كليا بعد، هناك خصلات بيضاء متناثرة علي رأسه الصلعاء، أكاد أجزم بأنني رأيت عيناه وكانت سوداء قاتمه، لا وصف لهما.

ولا وصف يستطيع شرح كم الرعب الذي كنت فيه، ما هيه إلا لحظات قليله وسيتوقف قلبي وتنتهي الآمي للأبد، لكن فجأة آتي صوت ذاك الكيان العملاق ذو العين المضاءة من قريب كأنه يقف خلق أذني قال بصوت مزدوج غليظ مرعب، لم يخلق تشبيه لوصفه هو أيضا، قال بغضب:
-ستخرج، هذا ليس وقتك، لم يحن وقتك بعد حسن، أخرج الأن لكن لا تتأخر عن موعدك معي.

تصطك أسناني في بعضها وأنا احدق في الظلام علي الأكفان وأستمع لكلامه هذا، انهي كلامه وصرخ بحده صرخة تشبه صرخات حيوان مفترس جريح ، انتفضت مكاني، لكنني رأيت ضوء يأتي من أعلي الدرج، زحفت علي يداي وركبتي.

ركضت بكل ما تبقي لي من قوة، وصلت للدرج، صعدت عليه وأنا اتعثر في كفني، لكنني احارب جاهدا لأنجو بحياتي، وصلت أعلي الدرج، كدت ان أهرب من هنا، لكن فجأة أظلم المكان من جديد، لم ينغلق الباب، لم ينطفئ الضوء، بل هناك من وقف حاجزا بيني وبين حريتي، رفعت نظري أنظر إليه.

إذا بي أفاجأ به، نفس الجدي المفزع، رفع مخالب يده وهو يرمقني بنظرات احتقار شديدة، صفعني صفعه بسيطة جدا علي وجهي كأنني حشرة لا أمتلك أي قوه تجعله يبذل أي مجهود أمامي، سقطت علي الدرج بعنف، وصلت للأرض، رطمت رأسي بأخر درجه، سقطت فاقدا الوعي.

سمعت صوت أمي، صوت بكاؤها، دموعها الحارة وهيه تلسع وجهي، فتحت عيني ووجدتني في مكان جدرانه لونها أبيض، رأيت وجوه حولي وسمعتهم ضجيجهم، أنا أعرفهم جيدا، انهم أسرتي، عائلتي أخيرا حمدالله.

عدت أخيرًا إلى المنزل، عرفت أنني في المشفى منذ أسابيع من سماعي خبر "مصطفى"
عرفت أنني لم أُدفن أو أي شيء آخر، كان مجرد كابوس، لقد دخلت في غيبوبة
قلبي لم يتحمل الأخبار المفزعة الواحد تلو الأخر.

نامت أمي معي في أول ليلة لي في منزلي، لكني لم أعرف للنوم طريقا تلك الليلة، لقد كان معي، يقف أمامي لكني أري ظله علي الجدار، ينظر لي وهو ثابت كالصنم، عرفت هذا من واجهه ظله الثابت.

نهضت من جوار والدتي، خرجت إلى الصالة لأجده خرج خلفي، جلست على الأرض وبكيت بكل وجع و حرقة، قلت له ببكاء مرير كأنه له قلب سيستمع إلي به أو يشفق علي مراهق مثلي:
_ماذا تريد مني؟ ماذا فعلت لك؟ قتلت أصدقائي، أحرقتهم، أخذتهم، لا أعرف ماذا فعلوا ليثيروا غضبك؟ لكنني لم أفعل شيئًا لك، لم أحاول أذيتك، اللعنة علي هذا، لا أريد أن أموت، لا أريد أن أموت، لا تقتلني رجاءا، لازلت يافعا جدا علي الموت البشع هذا.

لم أتوقف عن البكاء والنحيب الأليم، وهو لم يحرك ساكنا، ظل واقفا ينظر إلي، فقط ظله وليس هو، ظل طويل ضخم، له قرون طويلة، ذيله طويل جدا، أشعر بأنه يمكنه أن يخنق أحدهم به.

هل يمكن لأي شخص أن يتخيل وضعي؟ أنا طفل، فقط طفل برئ، طفل يرى أمامه
"إبليس"، نعم أنه "إبليس" بشكله المخيف بقرونه وحوافره يديه الطويلتان المشعرتان
نعم، انا ارى هذا في الظلال لكني قد رأيت بالفعل ادامي في شكله الحقيقي بهذه الطريقة و افظع.

أي شخص يتخيل ما أشعر به الأم، أو مقدار الذعر والفزع الذي أشعر به، نهضت من مكاني، كنت أحدق فيه، اقتربت من التلفاز، أمسكت بجهاز التحكم عن بعد. أنتفلت الى قناة القرآن الكريم، كنت لا أزال أحدق فيه خائفا.

كنت خائف من أن يقوم بفعل شيء ما، لم أجد القرآن، تم إغلاق جميع القنوات في وقت مبكر كالعادة، تركت التلفاز قيد التشغيل، توجهت بعيني إلى الراديو، لكنني وجدته على المنضدة.

لكن من المستحيل بالنسبة لي أن أذهب إلى الطاولة، فهو يقف بجوارها مباشرة
لا أعرف لماذا فعلت هذا؟ لكنني فتحت الباب وخرجت إلى الشارع
دخلت المسجد الموجود في أخر شارعنا، لم أقابل سوى عدد قليل جدًا من الناس، ركضت إلى جانب بعيد وبدأت أبكي وأدعو الله أن يرحمني وينقذني مما أنا فيه وأنا أبكي.

رأيت رجلاً بالقرب مني جلس وسألني:
_ما خطبك يا بني؟ لماذا تبكي بحرقة شديدة؟ هل انت تائه من أهلك؟

قلت له وأنا أغالب دموعي لأستطيع التحدث لهذا الرجل الطيب:
_لا يا عمي لست ضائعا، أنا أعيش هنا، لكن هناك أشياء تحدث لي، حضرتك لن تصدقني أبدًا إذا أخبرتك.

_لا يا بني، سأصدقك أكيد، تبدو ولدا صالحا، هيا تحدث إلي.
أخبرته بكل صراحة عن كل ما حدث، كنت ابكي بانهيار، الرجل صدق كلاميو ربت علي كتفي بحنان، اردف قائلا بعطف وشفقه:
_حسنًا يا بني نام هنا اليوم وفي الصباح سآخذك وأذهب إلى منزلك، وبإذن الله سأتمكن من إنقاذك من هذا الشيطان إن شاء الله.

عانقت الرجل بقوه، ربت علي كتفي، وأحضر لي عباءته، دثرني بها، ونمت، لقد نمت بعمق وراحة، الحمد لله لم احلم بكوابيس مرعبة، أيقظني الرجل لصلاة الفجر وصليت مع المصلين.

عدت وأمسكت بالقرآن وبدأت في قراءته، لكن أشفقت علي حالي، وعلي ما حدث لأصدقائي، لم أتخيل شعورهم وهم يمرون بما أمر به حاليا، بكيت، بكيت كثيرا، لم أشعر بنفسي ولكن الرجل الطيب قال لي:
_كفى يا حسن، هيا نذهب إلى عائلتك يا بني، إنها السابعة صباحًا، هيا قبل أن يقلقوا عليك.

7، الساعة السابعة الأن، كيف تكون الساعة السابعة؟ كيف مضي الوقت هكذا ولم أشعر به؟ أين اختفت كل تلك الساعات من صلاة الفجر للسابعة؟
لم افاجأ كثيرا يعني ما هو المنطق في كل هذا؟

مضيت مع الشيخ، ذهبنا إلى منزلي ووجدنا أمي وأبي وأخواتي، كلهم يبحثون عني،
صدمهم الشيخ بما قاله لهم، صاح والدي متهجما في وجهي ،وقال للشيخ باعتذار:
_سامحني يا شيخ عماد، ابني فقد اصدقائه في الاشهر القليلة الماضية، يبدو أنه يفتعل كل هذه الأكاذيب من اجل التهرب من امتحاناته التي على الأبواب، أعتذر منك، فولدي حسن ازعجك بدون داعي.

نظرت إلى الشيخ وأخبرته بتوسل وبكاء:
_شيخ عماد، يا شيخ، انا لا اكذب، لا أدعي اقسم لك، أخبرني سيدي بأنك لا تشعر ان في بيتنا شيطان، كيف لا تشعر به وأنت أمام جامع وقارئ للقرآن، من المؤكد بأنك تستشعر وجودهم ،أليس كذلك، هل تشعر به سيدي الشيخ؟

بدأ ان الشيخ "عماد" صدق والدي وكذبني، كذب كل ما قلته له وأنا أبكي بكل حرقة، قال لي بعدم تصديق:
_لا يا حسن، لا أشعر بأي شيء مقبض، أو غامض، أو ظلامي في بيتك، يا أبو حسن. لا تدع ابنك يشاهد الكثير من الأفلام التي تبدو وكأنها لها تأثير سلبي كبير عليه لدرجه أنها صدقها بالفعل، سأدعي لك بالهدى يا بني.

رحل بكل بساطة، رحل بعدما تعشمت فيه، ودب الأمل في من جديد، فقط رحل بضمير مرتاح، من سيصدق طفلاً صغيرًا مثلي علي كل حال، لكنهم سيصدقون، نعم سيصدقون عندما أحرق مثل أصدقائي، لكنني لن أكون هنا عندما أموت محترقًا كي أخبرهم بأنني كنت محقا.

يجب أن أتصرف وحدي، لكن ماذا أفعل؟
دخلت غرفتي، حاولت ان أركز في دراستي وترك مصيري للقدر، لكني لم أستطع تجاهل خوفي، بدأت الكلمات تتراقص أمام عيناي، أغلق كتبي بغضب، ركضت إلي فراشي وانا انتحب مجدداً بكل حرقة وقهر.

وتمضي الايام وأنا وحيد مع رعبي وترقبي لما سيحدث لي، كنت أتحامي في القرآن آخذه في حضني وأنام كل ليلة، لكن الأيام تمر،
يجب أن أفعل شيئًا، وإلا سأموت كرفاقي.

ذات يوم قبل أيام قليلة من الامتحانات
عندما كنت خارج بوابة المدرسة، سمعت الفراش يقول للبواب:
_حقا بارك الله في هذا الرجل، أنه شيخ طيب جداً، لقد رأيته وهو يخرج أمام عيني الجن من نورا، فالآن هيه علي خير ما يرام و---

ركضت وأمسكت بيده، قاطعته وأنا أسأله بلهفة:
_أين هذا الشيخ؟ عم أحمد أرجوك أخبرني.
العم "احمد" نظر بقلق للعم "سيد" سألني بذهول:
_لماذا تسأل يا بني؟ وما علاقتك انت بهذا الكلا
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي