الفصل الثاني

دُجى الروح
الفصل الثاني

" لم تكُن شبيه لشئ وكأنها كانت في قلبي كُل شيء، تُشبه رائحة القهوة في صباح ليلة غطى فيها صقيع الثلج زُجاج السيارات وفرش البياض في الطُرقات وأنت تستمع لفيروزات الصباح، كأنها الجمال في صفحات روايتك التي كلما انتهيت من قرائتها عاودت القراءة من جديد، كأنها الحب والحياة والأمان كلهم جميعًا مختلطين لا طاقة لك عن الخروج من تحت سلطانها".

أما عن رحيم فـ اكتفى بالصمت ناظرًا إلى ابنته التي أوقعته في شباك أمرًا لم يكن يفضله، لا يعلم كيف يخرج من المأزق الذي وضعته فيه ياسمينا، هو يعرف طباع المكان الذي يعيش فيه وأخلاقه، حتى وإن توارت هذه الأخلاق في الفترة الأخيرة بشكل عام عن مجتمعنا بأكمله، إلا أنه ما زالت طباع الرجل المصري متأصلة به، كيف يقبل على نفسه أو يقبل غيره عليه أن يخرج مع سيدة لا يجمعهما ببعضهما أي قرابه أو صله غير الجيرة، نعم النبي محمد صلى الله عليه وسلم أوصى بالجار خيرًا، لكن في العون والمساعدة، لا التجمعات والترفيه.
يعلم أنه لا يبغي شيئا منها سوى أن يستوصي بالفتى اليتيم خيرًا حتى وإن تواجد في قلبه بعض من المشاعر تجاهها إلا أنه قادر على ترويضها وإخفائها تمامًا.
أما عامة الناس لا تترك أحدًا في أمره، فسُرعان ما يخرج القيل والقال عن هذا وتلك، وبات عليه وضع حد قاطع لتلك الأمور.
أما عن جهاد فقد قرأت ما يدور برأسه، فما أرادت أن تُثقل عليه من حملها وحمل ولدها أكثر من ذلك فصارت على وشك الرفض، إلا أن شيء ما في قلبها يطلب منها الموافقة على الذهاب معهما، فيكون وقتًا مناسب لمعرفة هذا الغامض أكثر، ووضع حد رادع لجُل الأفكار التي تذهب بقلبها غدوًا ورواح لعلاقتها بها، تنهدت ثم أجابت بهدوء:
-  لدي الرغبة أنا أيضًا للذهاب إلى الملاهي معكما، أود الحديث معك أستاذ رحيم في بعض الأمور الخاصة، ويبدوهذا وقتًا مناسبًا إن لم يكن عندك مانع في الأمر؟
صمت للحظات بحيرة، إحساس قوي بداخله ينبؤه بماهية ما ستتحدث عنه رغم أنه لا يُحبذ أن يكون الحديث عن حياته الماضيه أو عن وزوجته، حرك رأسه بالإيجاب دليلًا على موافقته على طلبها.

فطلبت منهما الانتظار للحظات، لتقوم بتبديل ملابسها وملابس جود سريعًا وتعود، ثم تحركت بجود سريعًا إلى الداخل لإنهاء أمرهما في أسرع وقت، أما صمت رحيم سرعان ما أنهته ياسمينا بمرحها ومُداعبتها إياه قائلة:

-  بابا، أنا وجود نُحبذ ركوب القطار السريع ذاك الذي يرتفع وينخفض بسرعة.
ابتسم رحيم ثم أجاب: أممم، وهل ستكفين عن الصراخ والعويل أم سيكون الأمر كسابقه من المرات الماضية وتعودي باكية؟
-  تؤ تؤ، أنا لا أبكي أبدًا يا والدي، جود هو الذي يبكي كثيرًا وأظل أقول له لا تبكي لا تبكي ولكن لا يسمع كلامي.

-  طبعًا طبعًا، أعلم ذلك يا صغيرتي، فحبيبتي لا تخاف ولا تبكي أبدًا وأن جود هو من يبكي دوما لا أنت.

ولكن سُرعان ما انتهى حديثهما المرح هذا على صوت جود المُقبل عليهما بفرح:
ـ بتنا جاهزين الآن، هيا بنا.
ومن ثم تبعته جهاد بإطلالتها التي لا تكُف فيها كل مرة عن خطف قلب كل ما تقع عينيه عليها بجمالها الرباني دون الحاجة إلى شيء من مساحيق التجميل، بخِمارها الذي يُزيد وجهها بياضًا وبريق، وعبائتها الواسعة الفضفاضة، للمرة الأولى تُحرك شيء من مشاعر رحيم حين يراها، للحظات ظلت مُقلتيه عالقة بها، وكأنه فقد السيطرة عليهما فما عاد يستطيع تحريكهما أو إبعادهما عنها، إلا أنه سُرعان ما أعاد لنفسه اتزانه وثباته فتحرك خطوات سريعة قائلا:

-   هيا بنا يا شباب حتى نذهب ونعود سريعًا دون أن يغلبنا الوقت.

ابتسمت جهاد ثم أجابت:
_ حاضر يا أستاذ رحيم، لكن على أي حال غدًا الجمعة، وحضرتك إجازة لا عمل لك يوم الجمعة، فلا داعي ابدًا للعجلة والتعجل أو الأهتمام بالتأخير من عدمه.

توقف رحيم للحظات عائدًا بناظريه إليها، وكأنه يُخبرها أنه لا يخاف تأخر الوقت لأن لديه عمل في الصباح، بل كل ما يُقلقه فقط هو حديث الناس عنها هي لا هو، هو إن كان الأمر يخصه فعلى أي حال هو رجل لا يُدينه الحديث في شيء، أما إن كان الأمر يمُس فتاه فـسُرعان ما تكثر سكاكين الجميع عليها دون وزر أو رحمة، يعلم الله ما في قلبه تجاهها وفتاها، وأنه لا يفعل كل هذا إلا ابتغاء مرضاة الله، حتى وإن كان في قلبه لها حاجه فـدائمًا ما يُراوض مشاعره، بعد ثوان عاد للحركة مُجددًا دون أن يُلقي بأي لفظ، فتفهمت ما دار برأسه فتبعته في صمت تام، كان الهدوء هو سيد الموقف طوال الطريق لوجهتهم كأن على رؤوسهم الطير، لا يكسره إلا حديث الطفلين اللذين يُمسكان بيد بعضهما البعض ومرحهما من آن لآخر.


****

في قرية صغيرة تقع خلف الجبال بشوارعها البالية وساكِنيها البسطاء، بيوت قديمة كأنهم في عُزلة عن العالم الذي حولهم، أدوات قديمة وحياة طبع عليها الزمن سنواته العتية بحكم وقوعها بين جبلين كبيرين يصعب المررو من بينهما، أو الدخول والخروج إلى تلك القرية إلا من ممرات ضيقة للغاية بين الجبال المُحيطة بها بعد أن هُجر طريقها الرئيسي الذي كان يربط بينها وبين العالم من حولها من سير السيارات فيه والتحرك بسهوله بعيد عن ممرات الجبل الضيقة التي يصعب السير فيها على الأقدام ويستحيل فيها سير السيارات، فبات الطريق الرئيسي كأنه مقبرة كل من يحاول عبورة، لا أحد حاول المرور منه وعاد مرة أخرى، الذي يسير فيه يختفي أبد الدهر دون عودة أو معرفة للسبب غير تلك التعاويذ والطلاسم التي أصابت القرية في سنواتها الأخيرة.
بيوت مُتراصة جوار بعضها البعض بطرقات وأزقة تكاد تكون مهجورة، أتى صوت هرم لسيدة يبدو من نبرتها أن العمر بلغ منها موطنًا كبير، صوت قدم من أحد أزقتها:

-   ألا يكفي العمل إلى هذا الحد يا شيخ سامح؟
اُقيمت صلاة العشاء منذ أكثر من ساعة مُنقضية وأنت ما زلت تعمل هنا في الورشة!

ترك الشيخ سامح المطرقة من يده، ثم تحرك بخطوات متثاقلة بسبب هِرمه وكبره في السن بعدما ترك الدهر عليه من آثاره الكثير، فتحرك إلى باب ورشة النجارة وصنع الأثاث الخاصة به، والملاصقة لمنزله، حتى وجد زوجته واقفة أمامه، فـ أبتسم لها بحنين طفل لم يتجاوز السابعة لوالدته التي غابت عنه طوال نهار في عملها فـ تحدث:

ـ ماذا يا سيدة مليكة، خائفة عليّ من التعب؟
لعلمك فقط أنا ما زلت بكامل لياقتي وطاقتي وكأني شاب في العشرين، قادر على العمل للفجر كما كنت من قبل، احملي كُرسيا وتعال اجلسي هُنا بجواري، فـ المساء اليوم مُحمل بنسمات باردة هادئة تحمل فيها كثير من الشفاء للأرواح المُثقلة.

رُسمت ابتسامة حانية على وجه مليكة، ثم تحركت وأحضرت أحد المقاعد المتواجدة في الورشة لتجلس بجوار زوجها مُتحدثة:
-  يبدو أن الشيخ الجليل لم يتفهم قصدي من الحديث، هنالك فارق واضح بين أني خائفة عليك وبين أنك قادر أو العكس.
خوفي عليك هو شيء لا يمكن السيطرة عليه إن كنت شيخ في العشرين من العمر، أو شيخ وصل بك قطار العمر لمحطة الستين.
وباتت الأعمال قليلة على أي حال مما مضى، فلا داعي لأن تُرهق نفسك بهكذا شيء، في الصباح حين يخرج النهار عاود واستكمل ما تفعل رغم أني نصحتك مرارً وتكرارً أن تجلب طفل من أطفال القرية يساعدك في العمل، يقف بجانبك يحمل عنك يساعد معك ولو في قليل من الأمور.
-  من أين أجلب ما تتحدثين عنه يا مليكه؟
أنت على دراية كاملة بما صار يحدث في القرية، شبابها وأطفالها اللذين ما إن وصلوا لعمر يستطيعون فيه الاعتماد على أنفسهم يتسارعون ويتسابقون في الخروج منها تاركين أهليهم خلفهم بحثًا عن حياة تليق بهم في بلدان ومدن أخرى.
أو لم يكفينا ذاك الذي ربيناه منذ أن كان طفلًا صغيرًا وبـ الأخير تركنا وغادر هو الآخر دون أن يهتم لحالنا؟
وعلى أي حال قلت منذ لحظات أن الأعمال لم تعد كسابقتها فلا داعي لاستقطاب أحد للمساعدة.

-   لا داعي لظلمه يا سامح، والله رغم أن ما فعله سبب في قلبي الكثير من الحزن والوجع إلا أني أشتاق إليه كثيرًا، لم يتركنا ويغادر إلا بعد أن وصل به الأمر أشده، فلا داعي لمثل هذا الحديث.

-  على أي حال هذن البلدة فيما مضى كانت أجمل البُلدان، عمل وأهل وعيشة مكرمة، كانت ملجئ للكثير من شباب البلدان المجاورة الباحثين عن الخير والعمل.
ولكن من بعد ما أصابها ما أصابها باتت على حال لا يسر عدو ولا حبيب، حال يتألم لها القلب، تلك المصائب التي ضربتها فأبادت كل جميل فيها، لكن ما عسانا غير أن نقول الحمد لله على كل الأحوال يا مليكة.

صمتت مليكة لوهلة فخرجت منها تنهيده تئن لها صخور الجبال من حولها مُتحدثة بحُزن طغى على ملامحها:
-   لو أني استطعت أن أُنجب لك الفتى الذي يكون سندًا لك في كل هذه الأيام لكان بجوارنا الآن، ما عسايا قول شيء غير أني أعتذر لك وكل الحق لك في الزواج.

رأى الشيخ سامح ذلك الحزن الذي غطى على ملامح وحديث زوجته، فـاقترب بكرسيه جوراها، وفرد ذراعه ضامًا إياها إلى صدره بحنان أب لا زوج، ثم هتف بحب:
-   ما هذا الكلام الذي لا يحمل أي معنى يا مليكة؟
هل سنعود للحديث في هذا الأمر مجددا يا سيدة عرش قلبي؟
هذا أمر الله ونحن نؤمن بأمره وقضاءه وقدره، نقول الحمد لله دائمًا على ما أعطانا الله وعلى ما رزقنا، غارقين أنا وأنت في زحام النعم من الله يا مليكة، ولمً كل الهم التي تضعيه على عاتقيك في أن تكون المشكلة منك أنت؟
ربما تكون المشكلة من عندي أنا، هل حينها ستطلبين مني الطلاق كما تطلبين مني الزواج؟ وكيف ليّ الزواج بعد هذا العمر، هوني على قلبك يا عزيزتي لم كل هذا الذنــــــــــــــــــ
قاطعته مليكة قائلة:
ـ لا، لا تقل مثل هذا الحديث مُجددًا، العيب ليس منك بل المشكلة فيي أنا.

بابتسامة حانية زينت ثغر الشيخ سامح، وبحركة بسيطة بكفيه مسح على كتف مليكة مجيبا إياها:
ـ في الأول والأخير هو أمر الله يا مليكة، ومن يعلم لو أن الله أعطانا الخلف يكون خلفا فاسد ويدمر حياتنا؟
أو ولد حين يكبر يتركنا ويُغادر مثله كـ جميع الذين غادروا الأرض؟ أو يكون كـ ذاك الذي اعتبرناه إبنا لنا وفلذه لكبدينا وفي النهاية تركنا هو الآخر وغادر يا مليكة؟
قولي الحمد لله، نحن والله في زحام من نعم الله عز وجل الذي وزع الأرزاق كلٌّ ونصيبه، في الأخير رب السماوات لا يظلم حد.

مالت مليكة برأسها إلى صدر الشيخ سامح، مُحاوطة خصره بذراعيها قائلة:
-  تزوجنا منذ أكثر من نيف وعشرين سنه، وفي كل ساعة وكل لحظة تمر يثبت لي الله أنك كل الخير ليّ ولقلبي، وأني كنت على الحق حين قاتلت الجميع لأجلك.
تحملت ما لا يمكن لأحد تحمله لأكون لك، في كل ثانية تمر وأنا بجوارك فيها أتيقن أني بجانبك يا أحن وأطيب القلوب على الأرض.
لم تقسو علىّ يومًا إن كنت مُخطئة أو غير ذلك، لم تُشعرني يومًا أني ضعيفة أو عاجزة عن فعل شيء رغم أني في كثير من الأوقات أسبب لك المتاعب وأكون السبب في حزن يصيب قلبك، لكنك تكون الطرف الأكثر لينًا وعفوًا، أدعو الباري أن لا يحرمني من وجودك ولا يُريني بك أي مكروه أو أذى.

-  اللهم آمين يا سيدة القلب، ولا حرمني منك.

صمت للحظات ثم تحدث بمداعبة:
-  ولكن ما سبب تذكيري بما مضى، باتت القرية جُلها تعلم أني الفتى الذي كان ولها بجمال عيون السيدة مليكة.

اعتدلت مليكة في جلستها وتحدثت بقهقهات خرجت من صميم قلبها:
-  ياااه عليها من أيام مضت، البلدة كلها تعلم أني أحبك وانت كذلك إلا أهلينا، أبي يخبرني أنك لو آخر رجال الأرض لن يزوجني لك، حتى لو لم أتزوج قط وأبقى في البيت دون زواج لن أكون لابن الشامي.
-  
-  وانا والدي كان يغضب كبركان ينفجر في وجهي من الحين إلى الآخر يحرق كل ما تطوله حممه، يصيح دائمًا أنه في الصباح سيزوجني من غيرك والأجمل منك ألف مرة، سيفعل كل ما يمكن فعله حتى لا تكونيي أنت الزوجة.
دائمّا ما كان يقول أما وجدت على ظهر هذه الأرض بفتياتها غير ابنة عبد الله تُحبها وتريد الزواج منها؟
ألا تعلم حجم الخلافات التي بيننا وبينهم أيها الأحمق؟
وبعد أن ينتهي من سبابه يُقسم آلاف المرات أني لن أتزوجك فـ أبادله الحلفان أني لن أتزوج غيرك.
أخبره أنه ليس ليّ علاقه بتلك المشاكل التي بين العائلتين من سنين مضت، أمور كانت بين جدي لأرض ليست ملكه، يااااه كانت أيام.
صمت لوهله ثم أكمل:
-  وفي النهاية أقمنا مجلس صلح وكل عائلة أخذت حقها من الأخرى، وانتهى هذا الخلاف الأبدي بين العائلتين، تعلمين أني في بعض الأحيان كنت أخبر نفسي أنك ربما مارست عليّ سحرا كي أهيم بك إلى هذا الحد الجنوني.
ها اعترفي هل فعلتي هذا حقًا؟

قهقهات خرجت من مليكة طاب لها قلب سامح فأجابت:
-  ولمً لا تكون أنت الذي مارس عليّ الأسحار يا شيخ سامح لأهيم في حبك هكذا؟

نهض من مقعده مبتسمًا، ثم تحدث وهو يلملم أشيائه لغلق الورشة والعودة للمنزل قائلًا:
-   وهل نؤمن نحن بمثل هذه الأمور يا سيدة مليكة؟ أحببتني دون شئ غير أن القلب اختار هذا، وكذالك حالي قد عشقتك لأن الروح لم ترى ونيس لها غيرك، أنت الونيس والحياة، أنت النور في دُجى الروح المُنهكة في الحياة، لو خُيرت الف مرة باختيار غيرك ما بغيت إلاك أُحجية أنت في عُمري فقدت الأمل في حل طلاسم حُبها.
على أي حال هيا بنا لنعود إلى المنزل يا سيدة القلب المُبجلة.

نهضت مليكة من موضعها بفرحتها التي زينت وجهها من الحديث الذي دار بينهما، منتظرة أن ينهي الشيخ سامح ما يفعله، فأنهى أمره سريعا وأغلق ورشته ثم تحركا مستندين على بعضهما البعض إلى منزلهما الملاصق لورشتهما، لا يفصلها عنه إلا بضع خطوات، من يراهم لا يعتقد أبدًا أن قطار العمر يقترب بهما لمحطة الستين من العمر، فتشعر أنهما شابان في عمر العشرين، عاشقين لبعضهما البعض كأن كل منهما لم يرى في الدنيا غير الآخر ليكون ونسًا وأمانً وحياة له فوق حياته.

*****
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي