الفصل الرابع

دجى الروح
الفصل الرابع

ابتسم رحيم بهدوء ثم أجاب:
- الحمد لله يا عبد الرحمان في زحام النعم، كنا في مدينة الملاهي مع الطفلين ليلعبا قليلا، أنت تعلم أني طوال الأسبوع في العمل فأنشغل عن ابنتي، استغليت أن الغد إجازة لأفرح قلبها قليلا، طلبت من جهاد أن ترافقنا مع جود أيضا كي ترفه عن نفسها.


صمت عبد الرحمن لوهلة لكن عدم الرضا بدى واضحا على محياه، ثم طلب من رحيم أن يتحدثا بمفردهما قليلًا، فطلب الأخير من جهاد أن تأخذ الطفلين وتصعد لشقتهما بينما يرى ماذا يريد عبد الرحمن.
تحركت جهاد تنفيذًا لطلبه في صمت دون أن تتفوه بشيء، أما عن عبد الرحمن فهتف بضيق:
- هل تظن أن ما فعلته صائب يا رفيق؟!


أجاب رحيم بتعجب قائلًا:
- ماذا تقصد عبد الرحمان لم أفهم؟! وما المانع أو الخطأ الذي فعلته يا صديقي؟!
ـ رحيم، أنت لست طفلا حتى تنتظر أن يخبرك أحدهم الصواب من الخطأ، أنت صديقي الذي أعرفه جيدا، ولن تفوتك مثل هذه الأشياء أو تسهو عنها قصدا، لو لم أكن على دراية بك لكنت فسرت ما فعلته على نحو خاطئ، لكن الناس لن تتركك وشأنك يا رفيق وأنت تعلم ذلك جيدا، مساعدتك لجهاد واهتمامك المفرط بها وبابنها لم أعترض عليه فأنتما جيران وهذا واجبك وما أوصى عليه رسولنا، لكن الخروج بمفردكما؟! أألا تعلم أن هذا لا يجوز؟! وسيضر بسمعتها قبل أن يضرك أنت، لقد تجاوزت حدود الله قبل الأعراف.


صمت رحيم لوهلة، ثم وضع كفه على كتف صاحبه وتحدث:
- اسمعني عبد الرحمان، أتفهم وأقدر كل ما قلته، وأعلم أن ما فعلته خاطئ لن أبرر كل ما حصل أو ما سيحصل، لكن كل ما يمكن قوله أنك خير خليل وخير سند، أعلم أنك خائف علي لكن الأسبوع القادم سيعقد قراني على جهاد وأنت أول من يعرف وأول المدعوين أيضا.
ـ

تجمد عبد الرحمن موضعه مما يسمعه، لا يكاد يصدق ما يقوله رحيم، فقال بعدم تصديق:
ـ ما الذي تقوله؟! عقد قرانك أنت وجهاد؟!
كيف ومتى حصل كل هذا؟! أمضيت أشهرا وأياما أحاول إقناعك بأن تخطو هكذا خطوة،وأنت كنت ترفض شكلا ومضمونا،فما الذي حصل جعلك تغير رأيك فجأة؟!

ابتسم رحيم لحديث عبد الرحمن ثم أجاب:
-لا أدري يا صديق صدقا، لكني تقريبا اقتنعت بكلامك الذي ما تنفك تكرره، كان بقلبي الكثير مما عجزت عن إخراجه أو الاعتراف به حتى أمام نفسي، أو ربما لأني كنت أخشى أن يكون ذلك من طرف واحد فحبسته بداخلي وبقيت صامتا لأن ما باليد حيلة يا صاح.
أنت أكثر صديق مقرب لي، وأنت من كنت مصمما على هذه الخطوة الجدية لكني كنت أرفض ظاهريا فقط، لكن بداخلي كنت أعلم أني لن أجد أفضل من جهاد زوجة تصون اسمي. ابنتي.


صمت لبرهة لم يكن من الصعب على عبد الرحمن معرفة ما يدور بخاطره فتحدث قائلا:
- هل هذا يعني أنك تحبها حقا وترغب بالزواج بها؟!



نظر له رحيم بمُقلتين تحملان من الحديث ومن الكلمات الالف وآلاف، أشياء تُقال وأضعافها لا يمكن البوح بها، تنهد ثم أجاب بحيرة:
ـ أحبها!
لا أدري، كل ما أعرفه أني لا أشعر بالأمان إلا بوجودها، لم أعد أشعر بالسعادة إلا برؤياها، أتعلم أشعر أحيانا أنها ابنتي وأني ملزم بها، أهاف عليها وعلى ابنها كأنهما قطعة مني، رغم أني كنت أرسم حدودا بيننا لأجل الناس، لكني كنت أشعر فعلا أنها مسؤولتي، فرحها وحزنها، تفاصيل حياتها وحياة ابنها، هي شيء نادر الوجود في هذا الزمن يا صديق بقلبها الطيب وروحها النقية، شخص من المستحيل أن تصادفه مرتين.


ـ لهذه الدرجة تحبها أيها العاشق وتخفي ذلك، لكن لما تغضب كلما تطرقت لهذا الموضوع وتطلب مني السكوت، بل وتنكر عشقك لها، على أي حال أنا سعيد لأجلك كثيرا، أقسم أني أشعر بالفرح رغم صدمتي، مبارك لك يا رفيق هذه الخطوة المباركة، الحمد لله أنك لم تتأخر فيفوت الأوان، كلاكما تشبهان بعضكما كثيرا، كل منكما ذاق الويلات لكنكما لم تستسلما أبدا أمام كل تلك الصعاب، أتمنى أن يعوضكما الله بالخير والحب، وأن تكون هذه الزيجة سببا لشفاء قلبيكما



اقترب رحيم من عبد الرحمن فاردًا ذراعيه إليه، فتقدم الأخير إليه وألقى بنفسه بين أحضانه.
كانت نظرات الفرح بادية على وجه عبد الرحمن لفرح صاحبه، هو الوحيد في هذا الحي الذي يعلم ما عاناه رحيم منذ أن أتى هُنا هو وفتاته الوحيدة، أو حتى من قبل أن يأتي إلى هذه الحارة، هما أصدقاء العمر، وهو الذي أحضره إلى هذه الحارة بعد وفاة زوجته فيما مضى، أما عن رحيم فما تمنى شيء أو صديق من الحياة كما تمنى أن يبقى محافظا على صداقته بصاحب عمره.
شخص لا يتغير بتغير الزمن، صديق وعشرة وصاحب وسند لا يميل مهما مال الدهر، ابتعد قليلًا ثم تنهد الأخير وتحدث قائلا:
- لم تخبرني أين كنت لهذا الوقت المتأخر؟!

ـ مقولتليش برده أنت كنت فين لحد دلوقت؟!


تغير حال عبد الرحمن من السرور والفرح الذي كان يظهر على وجهه جليًا إلى العبث والقلق، لا يعلم بأي شئ يُجيب صاحبه، فإن أخبره بما كان فيه حقًا لن ينجُو من هالات وأعاصير الغضب التي ستنهال عليه من رحيم، ولكن لم يعتد الكذب أو المُحاورة على صاحبه، فأراد أن يُخبره من أين أقبل، إلا أن رحيم تفهم من وجهه وحيرته والشرود الذي سيطر عليه، أنه كان في ذاك المكان الذي يبغضه كل البغض، تنهد بأسى ثم تحدث قاطعًا شرود عبد الرحمن قائلًا:
- أنت قادم من أرض الجبلين؟!
ألم أخبرك أن تكف عن هذا؟! ألم نتخذ قرارا بعدم العودة لذلك المكان؟! أنسيت ما رأيناه، لكن كيف لك ذلك يا صديق، لست أنت من ذاق الويلات، لست أنت من تأذى وتدمرت حياته، لم تخسر زوجتك بسبب ذلك المكان الملعون، أقسم أني تعبت وانهكت قواي، لن أعترض طريقك افعل ما تريده لكن بعيدا عني، سأذهب إلى اللقاء.

تنهد رحيم بأسى طغى على ملامحه، ثم استدار مُغادرًا المكان عائدا إلى منزله، إلا أن عبد الرحمن أسرع في الحديث ليُجيب:
- لكنه الحلم الذي سعينا لتحقيقه دوما، من المستحيل أن ينتهي بهذه السهولة.
أنا أعلم وأحترم كل ما عانيته بسبب ذلك المكان، ولم أقلل من شأن ألمك أو حزنك، أقدر كل ما حدث لك لكنه حلمي الذي سعيت لأجله لسنوات ولن أتخلى عن تحقيقه، وقد أصبحت قريبا جدا من ذلك، أعتذر منك يا صديقي، دعنا من كل هذا الآن لأن االيوم يومك والفرحة التي غادرتك منذ أمد عادت لتطرق باب قلبك الآن، فلنؤجل ذلك لوقت آخر إلى اللقاء يا رفيق


نظر له رحيم دون أن يُجيب بأي حرف واحد، ثم تحرك إلى باب منزله مُغادرًا المكان، ومن خلفه غادر عبد الرحمن إلى بيته.
تفاجئ رحيم حين وصل إلى منزله من تلك التي تقف على بابه، تستند بيديها عليه، ناظرة إلى رحيم بقلق وترقب، وكأنها تنتظر منه توضيح وحديث شافٍ يُفسر كل ما سمعته منذ لحظات
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي