الفصل الثالث

حين وصلوا إلى مبتغاهم بدأ كل من جود وياسمينا في التحرك بمرح بين الألعاب، يعلون هذه وتلك، يصرخون رعبًا من لعبة، ويتراقصون فرحًا من أخرى، حتى قررا أن يخوضا تجربة مع لُعبة جديدة يستغرق إنهائها ما يقارب النصف ساعة، فاقترحت جهاد على رحيم أن يجلسا على أحد المقاعد المواجهة للأطفال ليستريحا ويشربا أي مشروب، وأيضًا يتحدثان ريثما ينتهي الطفلان من لعبهما، أماء رحيم بالموافقة على ما طلبته جهاد، فاختار أحد المقاعد المواجهة للأطفال حتى يكونا تحت ناظريه دائمًا، أشار رحيم إلى جهاد عما تريد من مشروبات فأرادت قهوة، فطلب لكليهما.

قطعت جهاد الصمت السائد بينهما، وهتفت بارتباك:
-  لا أعلم ما الذي عليّ قوله كل معروف تفعله معنا، حولنا حياتك إلى شيء من التيه و العبث سواء كان أنا أو جود.
بالتأكيد لست مُطالب بأن تتحمل كل هذه الأمور، لكن من اليوم الذي توفي فيه زوجي سليم وباتت حياتي أنا وفتاي كلها على عاتقك، تقف بجانبنا في المحن والعثرات قبل الأفراح، تتعامل مع جود كأنه فتاك حقًا تمامًا كابنتك.

تنهد رحيم وحاول الحديث لكنها قاطعته ثم أكملت حديثها قائلة:
-  أعلم أنك ستقول أن هذا هو واجبي وأننا جيران، وكل ما تقوله في كل مرة، بت أحفظ هذه الجمل عن ظهر قلب.
لكن حتى وإن كان الأكر يتعلق بـ أننا جيران لا يجب علينا أن نكون بكل هذا الثقل على كهلك.

ابتسم رحيم ثم تحدث:
-  من أخبرك أنكما ثقيلان على كاهلي سيدة جهاد؟
جود في الحقيقة مثله كـ ابنتي ياسمينا وأخبرتك هذا الأمر مرارًا، وابدًا ما وضعت بينهما أي فوارق في المعاملة، أرى في عينيك الكثير من الحديث الذي يريد الخروج ولا يدري السبيل لذلك.
بكل تأكيد لم تحضري معنا لتتحدثي في هذا الأمر، أخبرتني أن هناك أمور خاصة تودين الحديث بها، كلي أذان صاغية لكٍ ولكل ما تُريدين الحديث فيه.

صمتت جهاد لوهلة لم تعتقد أنه سيباغتها في الحديث ويعلم ما ترغب في قوله قبل أن تنبس بكلمة، فبعثر كل شتات كلماتها التي كانت قد أعدتها مُسبقًا لقولها، فحاولت مجددًا تجميع ما تبقى من الحديث في قلبها وأجابت:
-  هو في حقيقة ألأمر لدي الكثير والكثير من الأمور التي أود التحدث معك بها، لكن المشطلة الاكبر هي أني لا اعلم من اين أبدء، أو بـ الأحرى خائفة من أن تتفهم حديثي على نحو خاطئ، فقط كل ما أُريده أن تكون هذه الجلسة كجلسات الصراحة تلك، يخرج فيها كل ما في القلب كما يقولون.
-   وانا لا أملك أي مانع في هذا، تفضلي بإمكانك قول كل ما تريدين قوله دون الخوف من أن أتفهم الحديث بشكل خاطئ، كلي آذان صاغية لك.

تنهدت بأسى كأن قلبها يكاد يُخلع من موضعه من شدة ما في قلبها ثم تحدثت:
-  هو بدون أي مقدمات أو كلمات دون فائدة، أنا لن أجد رجلا في هذه الدنيا بأكملها يهتم بي أو بابني جود مثلك.
أنا... أنا أحبك يا رحيم.

تلجم رحيم من هول ما سمع لا يكاد يصدق ما وصل لآذانه توا، هل ما سمعه حقيقي، أم مجرد تهيؤات قد طرأت إلى مسامعه، حاول الحديث، لكن لسانه كأنه مُقيد بأغلال لا يستطيع الحركة، صمت لوهلة يحاول تجميع بعض الأحرف للحديث بها، ليجيبها أخيرا:
-  كأني لا أكاد أصدق ما وصل إلى مسامعي الآن، لا أعلم ما عليّ قوله، تمامًا كما يُقال أن القط أكل لساني، لا أعلم إن كان صدمة من الحديث أو من عدم إستيعابه من الأساس، لكن بحق الذي قولته من لحظات واقع بالفعل أم أني لم أسمع جيدا؟

***

أتعلم ما معنى حياة فارغة كـدُجى الليل، بصمت يسود ووحدةٍ تقتل ما بقي في القلب من حياة؟
غربة في أرض من المُفترض أن تكون أرضك، وأناس ينبغي أن يكونوا أهلك، حياة لا تمت لك بصلة غير أنك أصبحت تعيشها.
أتعلم ما معنى أن يصير الإنسان مُتجنبا للمحبة وما يقرب لها بصله؟
إنسان يخاف الحب بكل معانيه، يعلم أن قلبه وعلقه باتا أكبر منه خبرة ومعرفة بالحياة، شخصا أصبح في المنتصف المميت بين العاطفة والمنطق، كلما سلك طريق لقلبه أوقفه عقله في منتصفه يُطالبه بالعودة بحجة أنه لم يُخلق لمثله تلك العواطف؟

-  بالتأكيد لن تعي كل ما أقوله يا رحيم، لكن لا يهم على أي حال أنت سمعت جيدا، ما أخبرتك به الآن هو الحقيقة الكامنة في قلبي من وقت طال، هرمت من إخفاءها كل هذا الوقت، والأن أصبحت بين يديك لك كل الحرية في الموافقة أو الرفض، في حال الرفض أرجو أن لا يؤثر هذا على ما بيننا.

ما كان على رحيم إلا أنه كان يُراقب عينها وكأنهما هما المتحدثتان لا قلبها وشفتيها، غارق في بحر من التيه والتخبط بسفينته التي بدى لوهلة أنها ضلت الشط، أنهى شروده ثم استرسل قائلا:
-   وماذا عن سليم؟ ما أعلمه أنكٍ كُنت تُحبينه، أيضًا في كل مرة يحاول فيها سعيد التعرض لك كُنت دائمًا تُخبريه أنك ما زلت مُتعلقة بزوجك!
بتنهيدة أتت من أعماق القلب المُنهك من حزن الأيام والذكريات تحدثت:
-   ومن قال أني كُنت أكره سليم؟
لا أعلم كيف أُعلمك بالأمر لكن سأقص عليك قصتي إن كان عندك سعة صدر.
-  بكل سرور يُسعدني هذا.

اعتدلت جهاد في جلستها تُحاول تجميع أشلاء كلماتها وماضيها الذي كان يجمعها بزوجها فتحمحمت ثم استرسلت قائلة:
-  حياة أي منا قابلة لكل شئ سواء للفرح أو الحزن، هذه هي الحياة وهكذا طبعها، قصتي مع سليم لم تكُن تلك القصة الغرامية التي يمكن أن تُخيل لأحد.
بل أن زواجنا كان زواج اعتياديا تمامًا، لم أكن أعرفه وهو كذلك، لم يكن يعرف من أنا إلا أن أبوينا صديقان فـ إقترحا فكرة الزواج وتمت.
في عمري الذي عشته قبلها لم أكن أؤمن بمقولة " أن الحب يأتي بعد الزواج"، كان مُعتقدي الدائم أن الحب إن لم يأتي قبل الزواج فلن يأتي مُطلقًا، حتى تزوجت من سليم وألقى بهذا الاعتقاد من عقلي إلى اقرب مقلب للنفايات مؤكدًا فكرة أن الحب من الممكن أن يأتي بعد الزواج فما الذي يمنع ذلك إن كان الشخصان متفاهمان.

مرت أيامي مع سليم وكأني كُنت أعيش في حُلم لا أريد أن أفيق منه أبدًا، كل ما كنت أريده ويرى هو أن هذا الأمر فيه الخير ليّ لم يكن يتأخر عني في تنفيذه، شعرت بأمان كأني ما زلت أعيش في كنف أبي.
احترام للذات وخُلق لا يمكن لشخصان الاختلاف عليها، مرت السنه الأولى من زواجنا وعقبتها الثانية دون أن نُنجب، وبعادة االأهل أصبحت الشكوك تلاحق كلانا من أهلينا، ذهبنا إلى العديد والعديد من المُتخصصين وكثير من التحاليل والفحوصات.
فكان الجواب واحد من جميعهم بأننا على خير حال ولا يوجد لدى أحد منا أي مشكلة.
لا اُخفي عنك سرًا أن كلانا كان يرجو من الله أن يرزقنا بطفل لكن حتى تلك اللحظة لم يحن الأمر بعد، وأقسم أن هذا الأمر لم يُفسد شيئ في طبيعة علاقتنا ببعضنا البعض أبدًا، حتى اقترح سليم في يوم أن نذهب إلى الأراضي المُباركه نُقيم شعائر العمرة على أمل أن يطعمنا الله من بهذا الخير، ما كان عليّ إلا أن استحسنت الفكرة وأثنيت عليها.

سرعان ما أنهى سليم إجراءات السفر وبالفعل سافرنا وأقمنا الشعائر المُباركة وعدنا.
وحينها كان كل الخير من الله عزو جل فلم يمر عام كامل إلا كنت وضعت جود، تقبل الله منا دعائنا وبكائنا في أرضه الطاهرة وﭢمام بيته الكريم فرزقنا هذا الجود ليكون جود من الله علينا وعلى حياتنا، كانت فرحة عارمة ليّ أو لوالده والجميع، ولكن بطبيعو الدنيا إن أعطت أحدهم قليل من الفرح لا تُديمه عليه كثيرًا وسرعان ما تعود لتختطفه منه بين غمضه عين والأخرى وتحوله إلى حزن وأسى يحرق الفؤاد ويطفئ الروح.
لم يمر عام آخر على مولد جود إلا وأعقبه وفاة والده الذي لم يتمكن من رؤية ملامحه.
توفى والده في حادث سير، للوهلة الأولى ظن فيها الجميع أنه كان شيئا عادي، إلا أن بعض الذين كانوا شهود عيان على وفاته والحدث الذي حدث له رأو خيري بالقرب من مكان الحادث، وكما تعلم أنه أوفى رجال سعيد، حينها تيقنت أنه هو السبب الحقيقي في وفاة زوجي، لكن هيهات كيف ليّ أو لوالدي أن نثبت هذا؟
وهُنا تبخر سليم ولم يعد في الدنيا، وباتت حياتي عبارة عن دنيا امتلئت بالضباب لا يظهر فيها شيء واضح، لم يمر أكثر من خمس أشهر حتى توفى والدي بنفس الطريقة التي توفي بها سليم، لا أخفيك سرًا أن في هذه اللحظة حرفيًا مات قلبي وبغضت روحي الحياة وبت بلا أي سند في الدنيا أو حماية ألجئ لها، ومن بعد ذلك أتيت أنت وتعايشت مع كل ما كان يحدث لي بعد ذلك.
هذا ملخص حياتي، حياة بائسة أليس كذلك؟


أما عن رحيم فكان يصغي إليها في صمت من اللسان وضجيج الحديث من العقل، تلك الأحداث قد عاشتها؟
والله وكأنها جبل وإن الجبل لو تحمل هذا لكانت اشتكت صخوره، على أي حال لم يتفهم إلى الآن لم طلبت منه الزواج؟
لن ينكر أن قلبه كثيرًا ما يميل لها ويتمناها زوجة له على سنه الله ورسوله الكريم، ولكن أهي تُريده فقط لتتحامى به من شر قد إقترب، أم لكونها تُحبه حقًأ؟

أنهت جهاد شروده قائلة:
- أظن أن كلامي قد أزعجك، أعتذر لو أحزنتك كلماتي، اعتبرني لم أقل شيئا
هل لي بسؤال؟

ـ أكيد تفضل، لكم قبل أن تنبس بكلمة أتمنى أن كلامي لم يسبب لك أي ضيق.

ـ لا أبدا كلامك لم يسبب أي ضيق أو حزن بالعكس، لكن هل تطلبين مني الزواج لأنك تحبينني حقا أو لأنك...

في تلك اللحظة قاطعته جهاد قائلة:

ـ أقسم أني أحبك حقا رحيم.
- أنا أيضا أحبك، ولن أجد أو أتمنى زوجة وأما لابنتي تهتم بها، تمنحها الحنان مثلما ستفعلين.



فما كان من جهاد إلا أن أشرق وجهها من الفرح إشراق القمر ليلة تمامه، فترى السرور ينضح من وجهها، ولسانها الذي كُلل بالأغلال من الفرح، تحاول الحديث أو تحريكه مرارًا فتفشل، بعد مُضِي أكثر من ثلاث سنوات ها هي قد اعترفت له بما في قلبها، فبادلها هو الآخر نفس الشعور والإحساس، أخيرا حررت لسانها من عقدته فتحدثت:
- لو أنك تشعر بالفرحة التي تغزو دواخلي في هذه اللحظة وحجمها، لن تصدق أبدا، أشعر أني امتلكت الدنيا وما عليها، لا يوجد من هو أسعد مني فيها.
لكن ما الذي يجب علينا فعله الآن؟!

ابتسم رحيم بهدوء ثم أجاب:
- أفرح الله قلبك أكثر فأكثر، لا شيء يسعدني إلا رؤية الفرحة في عينيك أنت وياسمينا وجود، كل ما سنفعله الآن أننا سنعود للمنزل لنبدأ بتجهيز كل شيء، سنعقد القران والعرس الأسبوع القادم، لكن سيقتصر الأمر على الأقارب والجيران فقط، ليس من الضروري أن نقيم الولائم تفهمين ما أرمي له أليس كذلك؟!


أومأت جهاد بالموافقة متفهمة ما يقوله، هما ليس صغيرين بالقدر الكافي لإقامة مثل هذه الأفراح الصاخبة، التي لا تُفيد في شيء إلا في تجميع هذا وذاك، وهذه وتلك، والنم والتحدث في الأعراض بينهما، وكأنهم يجتمعون لا ليشاركوا الزوجان فرحهما، بل للحديث عن هذا بالسوء، والحديث في عرض تلك بما يغضب الله، على أي حال هي تتفهم كل ما يقوله رحيم، الآن فقط تشعر أن الله يجبر خاطرها بعدما عانته في السنوات الماضية، ويداوي جراح هي تعلم أنها لن تلتئم أبدًا، لكن كرم الله أعظم من أي شئ، أجابته بخجل:
- أتفهم كل ما قلته وكل ما تود قوله، ليس لدي أي مشكلة فيما قررته، سيقتصر الأمر على أقرب المقربين كما تريد، كل ما يهمني أن أكون معك وبجانبك، لا أريد أي شيء آخر عدا ذلك.

- ما هذا الإحراج، أدام الله الله وجودك ولا حرمني منك، أتمنى أن يكتمل كل شيء على خير ويداوي قلبينا، أعدك أني سأكون خير زوج لك وأب لجود.

ـ واثقة من ذلك وليس لدي أي شكوك، وأنا أيضا أعدك أني سأحاول وأبذل قصارى جهدي لأكون لك خير زوجة وأم لياسمينا، لكن لدي سؤال لا أستطيع كتمه أكثر من ذلك، أنا اعترف لك بكل شيء وسردت كل تفاصيل حياتي، والآن أحتاج لمعرفة شيء واحد.
قاطعها حديثها، لأنه يعرف جيدًا ماهية سؤالها، وماذا تريد أو تقصد:
- أعرف ماهي سؤالك، أين والدة ياسمينا وهل ما زالت حية أم توفاها الله وماهو سبب وفاتها، لكن لو كنت تحبينني فعلا كما تقولين لا تسألي عن ذلك مرة أخرى، عندما يحين الوقت المناسب سأجيبك عليه، وإلى ذلك الحين سأطلب منك أن لا تتطرقي لهذا الموضوع أبدا.


أومأت جهاد بالموافقة على عدم الحديث في هذا الأمر مُجددًا نزولا عند رغبته، قاطع حديثهما الثمين هذا الطفلين يُهرولان جهتمها يُخبرانهما أنهما انتهيا من لعبهما، فأشار رحيم إليهما أن يستعدا للعودة إلى المنزل بعدما انتبه لتأخر الوقت الذي لم يشعر بمروره لأنه برفقتها، إلا أن الطفلين بحركاتهما الطفولية راحا يطالبانه بجزء إضافي من الألعاب، حتى تدخلت جهاد في الحديث هي الأخرى تطلب منهما الاكتفاء بما تم اليوم، وفي المرة القادمة يلعبان ما يحلو لهما، أماء الطفلان بالموافقة على مضض، حتى أن علامات الغضب كانت واضحه جليًا على وجههما المنكس إلى الارض، لكن سرعان ما حول رحيم هذا العبث الذي على وجههما إلى هالات من الفرح والسرور، حينما اشترى لهما بعض الألعاب والمأكولات المفضلة لهما.
تحرك الجميع عائدين إلى المنزل، كل منهما بداخله أحلام تضاهي النجوم لمستقبله القريب، كل من الكبيران في قلبه أفراح لو وزعت على أهل الأرض فلن تسعها، ثم في لحظات أخرى يطارد ذلك الفرح بعض من الخوف والقلق ليعكر صفوهما، فكأنما يحفظان حظهما العثر عن ظهر قلب، يعلمان جيدًا أن فرحمها لا يطول كثيرًا حتى تأتي فاجعه تُنهيه عن بكرة أبيه، لكن كل منهما يتمنى أن تدوم سعادتهما هذه ويكون خير عوض من الله عما عاناه في سنواته السابقة، وصل الجميع إلى الحارة ليتجه كل منهما لمنزله، حتى رأى رحيم جاره عبد الرحمن الجملي، فنادى عليه، لم يتأخر الأخير في إجابة نداء صاحبه فأقبل عليهم سريعًا، ألقى التحية على رحيم ومن بعده على جهاد ثم تحدث:
- ررحيم، كيف حالك؟! وأين كنت في مثل هذا الوقت؟!
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي