الفصل الثالث

نيوفوبيا
الفصل الثالث
للكاتبة ندى محسن|White Rose

يجلس في كازبلانكا كعادته، ينتظرها أن تمر من أمامه، ينتظر أن يراها، يتابع ساعة يده مرة تلو الأخرى، يشعر بقلبه يرتجف، يشعر بالثلج يسيطر عليه، وقف لينظر في الأتجاه التي تأتي منه، لم يرى شيء، قرر أن يقف على الناصية، وقف وهو يشعر بالكثير من الضيق.

ساعة تلو الأخرى، لم يحدث شيء! التفت ليعاود الجلوس وجدها أمامه، تعجب ولم يصدق عينيه، إنها هي تقف أمامه! تنظر مباشرة الى عينيه، أصابته حالة من الصدمة، ظن أنه جن وفقد القدرة على الأستيقاظ حتى.

أبتلع ما بحلقه وقد شعر بجسده يرتجف قليلًا، أبتسمت هي لتظهر أسنانها ناصعة البياض التي تحتل قلبه دون مبالغة، تحدثت قائلة:

-ما الأمر! أراك مندهش أكثر من اللازم!

كان لا يعلم ما الذي يفعله، ما الذي يقوله، لم يتوقع أن تأتي لتتحدث معه، لم يكن يتخيل هذا في أحلامه حتى، سمع ضحكتها الرقيقة كما أعتاد أن يسمعها مع صديقتها، تحدثت قائلة بهدوء:

-ما الأمر! لماذا تبدو كالجماد هكذا! أنا أعلم أنك تستمر في مراقبتي، أعلم أنك تنتظرني، كان لدي الكثير من الشكوك لكن الأن أنا واثقة من كل ما يحدث، واثقة يا!

ابتلع يونس ما بحلقه، بدى متردد كثيرًا، قلبه يرتجف عكس العادي، تحدث بإرتباك واضح وقد فشل في تكوين جملة مفيدة:

-يونس، هذا هو أسمي، أنا لم أكن أقصد شيء سيء، فقط كنت..أقصد..

قاطعته وهي تلاحظ أرتباكه الشديد:

-أعلم ما تريد أن تقوله، أنت تنتظرني، تتطوق للتحدث معي، تسرح في عينيّ لوقت طويل، أعلم كل هذا وألاحظ ما تفعله وما تشعر به، لا داعي للأرتباك، ربما أنا أبادلك نفس الشعور.

شعر يونس بالكثير من الدهشة، شعر أنه يحلم، مؤكد هذا كله ليس حقيقي، من المؤكد أنه يحلم، شعر بها تقوم بقرصه لينتبه أكثر لها، كان ينظر الى عينيها، أسنانها اللامعة، بريق عينيها يشعره كما لو أنه يحلق في السماء السابعة، تحدثت إليه:

-أنت تنظر الي الأن، ما الذي تفكر به أخبرني!

أبتسم يونس وهو يحرك رأسه بعدم إستيعاب:

-لا أعلم، أشعر أني أحلم، لكن بعد قرصتكِ تلك، لا أظن أني أحلم، أشعر بلذتها وهي من خلالكِ أنتِ، لا أعلم كيف حدث كل هذا، لكن أريد أن أضمكِ الأن، لا أعلم كيف يمكنني تحمل كل تلك السعادة!

حاولت منع ابتسمتها في المقابل وهي تشعر بالكثير من الخجل، أبتلعت ما بحلقها بعد أن أزداد أحمرار وجنتها:

-أنا لا يمكنني أن أقف في هذا المكان لفترة طويلة، ألديك مانع في الذهاب الى أحد المطاعم أو ماشابه؟

أراد أن يوافقها ويذهب معها في الحال، لكنه تذكر أن ما معه من المال لن يكفي لهذا، لايريد أن يحرج نفسه وبالأخص أمامها، تقابله لأول مرة، عليه أن يحفظ هيئته أمام عينيها، تحدث قائلًا بعد أن أتخذ قراره:

-دعينا نؤجلها للغد؛ فأنا أنتظر صديق لي ولا يمكنني أن أخلف وعدي معه، لا أريده أن ينزعج ولا أريده أن يأخذ عني فكرة سيئة.

حركت رأسه بإستسلام:

-كما تشاء، لكن دعني أخبرك شيئًا.

تعجب يونس، لكنها تابعت حديثها:

-الأصدقاء لا يسيئون فهم بعضهم البعض، وداعًا.

ذهبت من بعدها، كان يتابع رحيلها وعينيه مثبتة عليها، لا يعلم ما الذي يفعله، ما الذي تفعله بقلبه المسكين ليصبح أسير لها هكذا، أستفاق من شروده، لم يشعر بنفسه سوا وهو يتجه لمنزل إسلام، هذا أكثر وقت هو بحاجة الى صديقه، سوف يطلب منه بعض المال؛ حتى يستطيع أن يخرج للتنزه معها دون أن يعاني أي إحراج.

بالفعل أخذ طريقه الى منزل إسلام، ظل ينادي دون رد، تردد قبل أن يصعد الى المنزل، لا يعلم كيف أستطاع أن يأخذ تلك الخطوة، هو كان يرفض فعل هذا، يرفض المجيئ إليه دون موعد، يرفض التحدث مع شخص غيره، كيف تحول كل هذا فجأة! لم يكن لديه الوقت ليفكر في الإجابة أكثر من هذا، قام بطرق الباب، مرة بعد مرة وجد من ظهرت أمامه، إنها نجمة، أخت صديقه المقرب، أبتسمت له وقد بدى عليها التعجب:

-مرحبًا يونس كيف حالك؟

أبتسم يونس وقد ظهر عليه الأحراج:

-أنا على مايرام، أخبريني أنتِ كيف حالكِ.

أبتسمت نجمة ومازالت تنظر إليه تارة، تارة تبعد عينيها عنه:

- أنا بخير، هل أخبرك إسلام أن تأتي الأن؟

حرك يونس رأسه بنفي:

-لا لم يفعل، كنت أريده في أمر غاية في الأهمية، أعذريني لقد أتيت دون موعد، لكنه أمر طارئ بالنسبة لي يا نجمة.

نظرت له، أحبت جدًا طريقة نطقه لأسمها، كانت تحاول أن تكف نظراتها وهي تشعر بالإحراج الشديد، تحدثت وقد ظهر الأرتباك بصوتها، لكن يونس لم يلاحظه:

-سوف أقوم بالأتصال به، مؤكد هو بالقرب من هنا ويستطيع أن يأتي إليك، لا يفعل أمر طارئ كما تعلم.

دلفت للداخل وقامت بالأتصال بإسلام، لم يجيب، حاولت أكثر من مرة، بعد عناء أدركت أنه قد نسي هاتفه على وضع الصامت، موضوع على الطاولة دون أكتراث، حركت رأسها بفقدان أمر، خرجت من الشقة وأخبرت يونس الذي ظهر عليه الكثير من الإحباط:

-حسنًا لا بأس، سوف أتحدث معه فيما بعد، شكرًا لكِ يا نجمة.

هبط ونظرها معلق به، لا تعلم ما هذا الشخص الغريب، لا تعلم لماذا تشعر بهذا الشعور تجاهه، كأنها تريد إنقاذه، مساعدته، لكن من ماذا! هذا بالأخص ما عجزت عن إدراكه، شخص غريب يثير بداخلها شعور القلق والحيرة، بدى هذا الأمر أكثر من غريب.

دلفت الى الشقة بعد أن أغلقت الباب، لم تشعر والدتها؛ فلقد كانت نائمة بالغرفة، غالقة الباب وكأنها تنعزل بعالم آخر.

كان يونس يطرق الباب ليدخل الى شقته، فتحت إحسان وبيدها المخرطة، نظرت له بغيظ شديد:

-كيف لا تحمل مفتاح معك يا ترى! والدتك ذهبت للتسوق وأنا أحضر بعض الأشياء؛ حتى تأتي ونطهوا سريعًا.

دلف يونس الى المنزل، لم يكن مؤهل لأي حديث، شعور بالضيق كان ينتابه، يشعر كما لو أن العالم يدور به دون سبب، يبدو أن هذا هو شعور الإحباط، لم يكن بالأمر السهل، لكنه يزدود شيئًا فشيئًا، دلف الى غرفته دون التحدث بكلمة واحدة، شعرت هي أن هناك أمر غريب، ربما هو مريض أو ماشابه!

أقتربت من الغرفة بتعجب تسأله:

-ما الأمر! لماذا يظهر على وجهك البؤس!

نظر يونس لها ومن ثم أبعد عينيه، يحاول أستجماع أنفاسه كما لو أن هذا الأمر صعب عليه، حرك رأسه بضيق شديد:

-لا يوجد شيء، أنا على مايرام.

أخذت تصر عليه في التحدث، شعر أنه على وشك الأنفجار، لكنه تمالك أعصابه أكثر:

-أنا فقط أفقد كل شيء، هذه المرة الفرصة من أتت تحت قدمي، لكن الحياة تفقدني أياها، لا أعلم ما الذي يحدث بحياتي، ما الذي يجعل كل شيء يتدمر بهذا الشكل، أنا حقًا لم أعد أعلم لماذا كل هذا يحدث!

كانت لا تفهم عن ماذا يتحدث، شعرت بالحزن تجاهه، يبدو مشتت، ليس الأن فقط؛ فمنذ أن أتت الى هذا المنزل ويونس بعيد عن والدته للغاية، ليس هذا فقط هو بعيد عن العالم بأكمله، أخذت نفس عميق، تحاول أم تجعل بالها يطول أكثر معه، تحدثت قائلة:

-كل شيء يتحسن مع الوقت، ليست مجرد عبارة يا عزيزي، كل شيء سيكون على مايرام، سوف تتذكر تلك الأيام وينتهي بك الأمر مشتاقًا مبتسمًا، هذه هي الحياة لا شيء يتغير بها، فقط أنت من تتغير، أنت من تكبر لتحمل هم نفسك، تحاول أن تسعى لتحقيق ذاتك، بشكل تلقائي ستجد أنك تفلت يد والديك كطائر صغير يرفرف بجناحيه ليحلق في السماء، لا تكن قاسي على نفسك يا يونس.

نظر لها، لقد لمس حديثها قلبه، أبتسم لها بهدوء، لكن هذا لم يمنع شعور الأنزعاج من التخلل داخل قلبه، أخذ نفس عميق وهو يتحدث بإستياء:

-أشعر كما لو أنني شخص ضعيف، جبان، لا يمكنه التحكم في ذاته أو مصيره، شخص دائمًا ينتظر.. والأنتظار مميت.

عاد الى صمته من جديد، لم تجد إحسان سبيل للوصول الى مايجول في خاطره، أنتهى الأمر بها وهي تخرج لتحضر الملوخية إستعدادًا لتحضير الطعام.

كان عقل يونس مشتت، يتسائل هل عليه طلب المال من والدته! لكن ألم يكفيه أنهم يعيشان منه، أخبرته مرارًا وتكرارًا أن يذهب ويبحث عن عمل لكن ماذا! هي لا تعلم حجم كل هذا الصراخ الذي يخوضه بمفرده فما الذي سوف يفعله!

يتبع
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي