3

الأجواء مازالت مشحونة بتوتر وازعاج، وقبل أن يتفوه نائل بكلمة واحدة مع أمه لسؤالها عن سبب ما فعلته أمام الضيوف، سبقته بكلامها وقالت: لا أريد سماع أي كلمة، أنا متعبة وأريد أن أحصل على قسط من الراحة.

تاركة الجميع خلفها في حيرة من أمرهم، توجهت نادية إلى غرفتها ثم أغلقت الباب خلفها غير أبها بما حصل.

كان الإستياء واضحاً على ملامح الجميع لم يكن أحدهم سعيداً بما حدث، جرى نائل قدماه وخرج إلى الحديقة يتمشى قليلاً لعله يخفف عن نفسه سوء ما فعلته أمه.

تصرفات غير مفهومة ولا يوجد مبررات واضحة لما فعلته نادية مع ضيوفها، لم يعهد نائل أمه تتعامل مع أحد بهذه الطريقة الفظة.

واضع يديه في جيبه بخطوات بطيئة كان يمشي ويحدث نائل نفسه: كان من الأفضل أن أخبر أمي قبل تلك الدعوة، إنه صديقي الوحيد وفي زيارته الأولى لبيتي تم إحراجه بطريقة مستفزة للغاية.

محتار في أمره كيف له أن يعتذر نائل من صديقه عن الأمر الذي حدث يسأله نفسه: كيف يمكن أن اعتذر من آدم؟ كي تعود صداقتنا خالية من تلك اللحظة.

تنهد وقال: اه منك يا أمي، ليتني أستطيع معرفة ما الذي دار في رأسك، كيف انقلب بك الحال هكذا.

في الجهة المقابلة كان آدم وعائلته في طريق عودتهم إلى البيت، لم يتحدثوا بأي كلمة طوال الوقت، بل كان هدوء حذر بينهم، كان آدم يشعر بالغضب والغيظ لا يعرف كيف يمكن له أن يعتذر من أمه.

أما هبة فكانت تحاول تحليل الأمور وفهمها فهي لديها شغف كبير في تحليل الشخصيات والأمور المتعلقة بعلم النفس والفعل وردة الفعل.

لكن ما كانت لم تفهم وهي تحدث نفسها: هذا نائل صديق أخي؟ لم يكن يخيل لي أن تقوم أمه بفعل كهذا في زيارتنا لهم، يبدو أن أخي بالغ في مدحه لصديقه، او لربما أنه خدع به مع الأسف.

بينما خديجة منشغلة تراقب الطريق لا تحمل في قلبها حقداً ولا كرهاً على أحد أو ما حدث، تعيش مع نفسها سلاماً داخلياً خالياً من الضغينة والشر للناس.

وصلوا إلى البيت، عزم آدم على التحدث مع أمه عما حدث ليعتذر منها، هي وافقت للذهاب إلى هناك بناء على رغبته، اقترب منها يقول: أمي..

لكنها أشارت له بيدها بعدم برغبتها بالكلام أو الحديث بأي شيء الآن، لم تلتفت إليه بل اتجهت نحو غرفتها فوراً، وقبل أن تغلق الباب قالت: سأخلد للنوم، أن لم يكن الأمر مهما لا تزعجني.

نظر آدم لأخته هبة رفعت أكتافها بأشارة منها بعدم فهما ما تفعله أمها، تركت هبة أخيها في الصالة يقلب أفكاره، ثم دخلت غرفتها تاركته خلفها وحيداً وغاضباً كل ما تذكر ما حدث مع أمه في بيت صديقه نائل.


واضعاً كفيها على رأسه يحدث نفسه: كيف سمحت بحدوث تلك المهزلة وأنا أظن نفسي احرص الناس على مشاعر أمي، لقد كنت سبب في حزنها وتركت الأمر دون تدخل، كم أنا ولد عاق، تفعل امي المستحيل من أجل وأنا كنت سبب في جرح يدمي قلبها.

صبرت أم آدم على قسوة الحياة ومرارتها بعد وفاة زوجها في الحرب التي لم تدع أحد لا يعاني من ويلاتها، عاهدت نفسها أن تسخر حياتها من أجل أولادها حتى يصلوا إلى مكان يستطيعون العيش دون انتقاص الناس منهم.

على الأريكة كان آدم جلس يستريح من عناء الطريق، قاطع سكونه رنين الهاتف، لم يلتفت إليه بقي على حاله مستلقي وهو مغلق عيناه ويضع يداه أسفل رأسه، غير مهتم بمن يكون المتصل.

إلا ان الاتصال تكرر مرة ثانية، ازعج آدم ذلك لإلحاح والمحاولة التي لم تنتهي، مما اضطره لإخراج الهاتف من جيبه كي يرى من هو المتصل به.

بعد أن عرف من يكون قال آدم بصوت مسموع: يا لك من وقح حتى أنك تتجرأ على الإتصال مرة أخرى، لن أمنحك فرصة للحدث حتى، لست ساذج لهذه الدرجة.

ثم رفض تلك المكالمة الهاتفية التي وصلته، وضع هاتفه على الطاولة التي كانت بجانب الأريكة، ثم عاد يلوم نفسه ويجلدها عما حدث دون الكف عن هذا.

عاد رنين الهاتف يزعج آدم لكن هذه المرة لم تكن مكالمة، بل كانت رسالة نصية، أمسك هاتفه فتح هاتفه ليرى من كان المرسل بعد أن قرأ ما وصله زاد غضبه.

القى هاتفه على الأرض، نهض من مكانه خلع آدم حذائه، متوجهاً نحو غرفته، نادماً على تلك اللحظة التي وافق فيها تلبية الدعوة في بيت صديقه.

كانت خديجة في غرفتها تبكي بحسرة على نفسها، لم حدث هذا معها كيف بقيت صامتة لا تتكلم تتحمل الإهانة دون أي رد، كانت مجبرة خشية على ولدها، بقيت على هذه الحال حتى غلبها النوم دون أن تشعر.

أشرقت الشمس وطلع الصباح معلناً بداية جديدة، استيقظ الجميع وكان نائل أولهم تجهز ثم خرج مسرعاً من البيت، لاحظته ياسمين فسألت أخاها: لما كل هذه العجلة؟ نحن نحضر الفطور من أجلك.

نظر نائل إلى أمه التي كانت تقف بجانب أخته وكان الاستياء واضحاً عليه ثم أجابها: أخشى أن لا أكون مناسباً لكم أنا أيضاً.

مضى نائل خارج البيت تارك عائلته، رأى عادل ما حدث فقال لزوجته: هل وصلت إلى ما تريدين؟ هذه ثمرة ما حدث في الأمس، ولدك لا يرغب حتى في الجلوس معنا بسبب صرفاتك التي لا معنى لها وبدون أي أسباب.

بنبرة حادة ونظرة ممتعضة رمت بها نادية زوجها الجالس في أول الطاولة قالت له: لا أحتاج لمثل هذه النصائح، أحتفظ بها لنفسك أن كانت تعرفها، لا داعي لتلقي عليي محاضراتك الأبوية، فعلت ما رأيته صواب.

صرخ عادل وهب مثل نار تحرق كل ما حولها وقال وهو ينظر في عيني زوجته: أنا لا أرى أين الصواب في التقليل من قدر الناس؟ أنهم جاؤوا تلبية لدعوة ولدك، دخلوا بيتنا للمرة الأولى، واجب علينا احترامهم لأنه يعبر عن احترامنا لأنفسنا، غير أنه صديق نائل.

قاطعت نادية زوجها بسبب تلك النبرة التي يحدثها فيها وقالت: لا أريد سماع كلام لا جدوى منه، تلك النصائح البالية أعرفها ولا رجاء من تكرارها.

ثم قرر أن تترك الجميع وتجلس على الشرفة، حيث اعتادت أن تكون في وقت غضبها تشرب القهوة أو تقرأ بعض الكتب وفي بعض الأحيان تسمع أغاني قديمة حتى تهدء قبل العودة إلى طبيعتها.

أما عادل غادر المنزل دون أن يتناول طعامه، كان سيء المزاج، بعد أن انهى استعداد انطلق نحو عمله، لعله ينسى ما حدث فهو غير راض إطلاق عن أفعال زوجته لكنه لا يقوى على ردها.

منذ زواجهم قبل ما يزيد عن الربع قرن، عرف عادل أنها إمرأة حادة الطباع مغرورة جداً بنفسها، وبكل ما تملكه وترى نفسها أفضل من الجميع، ولا تجد من يستحق صداقتها أو حتى وجدها في حياته، حتى زوجها ومن ثم أولادها.

حاول عادل مراراً وتكراراً لعله يغير من حال زوجته شيء لكن دون جدوى، لم يكن حبه كافياً لها، رغم هيامه بها لكن أي شيء لم يتغير بالنسبة لها.

بل كانت نادية كثيرة الشكوى قليلة الشكر لزوجها رغم كل ما يفعله من أجل سعادتها، بل كانت طلباتها كثيرة واحتياجاتها لا تنتهي في كل فرصة تستطيع الطلب فيها من عادل.

توجه نائل إلى المقهى الذي أخبره آدم عن عمله فيه، فهو لا يستطيع البقاء بدون عمل من أجل أمه وأخته، مهما كانت الظروف العمل بالنسبة لآدم أولاً.

جالساً على إحدى الطاولات ينتظر أن يأتي إليه، لم تمضى الكثير من الدقائق حتى أتى آدم ليرى من يريد الزبون، لكنها كانت المفاجأة بالنسبة له إنه نائل.

سرعان ما تبدل حال آدم وتغيرت ملامح وجهه، وفي نبرة صوته غيظ مكتوم عندما قال لنائل يسأله: هل جئت إلى هنا لتكمل ما بدأته أمك في ليلة الأمس بعد دعوتك لنا؟

بدأ نائل يبرر لصديقه فقال: أقسم لك بأن لا علم لي عن سبب تصرف أمي، بالإضافة إلى أنني لم أكن راضياً عما فعلته.

ضحك آدم مستهزءاً بعد ما سمع تلك التبريرات التي لم تجدي نفعاً معه ثم قال: كان عليي أن أتوقع ما حدث فأنا أكثر الناس معرفة بك، كيف تكون إنسان آخر في الجامعة، يبدو أنك ابن أمك.

قبل أن يرد نائل على سيل الإتهامات التي ألقاها آدم له، قاطع حديثهم صوت أحد الزبائن وهو يطلب شيء ما.

ترك آدم صديقه قابعاً مكانه ثم اتجه ليكمل عمله، لم يدم بقاء نائل كثيراً لقد أدرك بأن هذا ليس المكان الصحيح للحديث مع آدم عن أمر كا الذي حدث في الأمس.

خرج نائل من المقهى وهو مستاء لأنه لم يتمكن من توضيح ما أراد، لكنه قرر انتظار آدم في مكان قريب حتى يفرغ من عمله ثم يحدثه بما أراد.

دام وقوف نائل طويلاً يتنظر حتى يخرج آدم من عمله، بعد عدة ساعات طويلة أخيراً رأى نائل صديقه خارجاً من عمله قرر أن ينتظر حتى يبعد عن المكان قليلاً ثم يقترب للحديث معاً.

في لحظة مناسبة نادى نائل صديقه: انتظرني يا رجل لما كل هذه السرعة!

غضب آدم برؤية نائل مجدداً صرخ في وجهه قائلاً: أغرب عن وجهي، حافظ على سلامة أسنانك ولا تدعني أراك.

لكن نائل لم يكترث لما سمعه بل كان أكثر إلحاح وأصر على الحديث، لم يأبه بغضب آدم ولا لم يرعبه صراخه حتى، وبعد جدال كان أشبه بمشاجرة اتفقا على الجلوس من أجل الحديث بشكل أكثر هدوء وعقلانية.

على مقربة من ذلك المكان جلسا في الحديقة تحت شجرة توت عملاقة، كلاهما صامت لا يتكلمان إلى أن قرر نائل البدء بالحديث.


ثم قال مخاطباً آدم وعلامات الخجل واضحة في نبرة صوته المرتجف: أقدر غضبك وسبب رفضك للكلام معي، أنت محقاً بما تفعله، لكن دعني أقدم اعتذاري لك لربما

قبل أن يكمل نائل ما أرد قوله نظر إليه آدم وعيناه مليئتان بالقهر وشرار الغضب يقذف منهما ثم قال له: هل ترى بأن اعتذارك هذا يرد لأمي اعتبارها؟ هل هو كاف حتى تنسى ما سمعت في بيتكم؟ كلامك أمك الجارح يغفره اعتذار بسيط منك!

بقي نائل صامتاً لبرهة من الوقت دون الإجابة بأي كلمة على ما سمعه، إلا أن آدم ضحك ساخراً متهكماً ثم قال لنائل دون أن ينظر إليه حتى بل كان يمنع بالنظر إلى الفضاء البعيد: اذا كنت أنت بنفسك تدرك تماماً تفاهة اعتذارك، كيف يمكنك أن تطلب مني قبوله وكأن شيء لم يكن.

صمت آدم قليلاً ثم أضاف: هل تعلم أن أكثر انزعاجي وغضبي سببه أنت!

استغرب نائل فسأله: ولما يكون في قلبك كل هذا الغضب نحوي؟ حاولت إيقاف تلك المهزلة لكن.

عاد نائل لسكوت ثانية لا كلام يضيفه ولا تبريرات بحوزته.

رد آدم على ما سمعه بقوله: أنت من كان مصّر على قدومي مع أمي وأختي إلى بيتكم.

ثم فجأة التفت آدم لصديقه نائل يسأله: أم أنها مكيدة مدبرة بينكم؟ ثم وجه له اتهامات مباشرة وقال: أنت كنت تعلم بالأمر أليس كذلك؟

لم يعد نائل قادر على إخفاء دهشته واستغرابه من تلك الإتهامات التي يرشقه بها آدم استنكر ذلك بقوله: كف عن هذا يا رجل، يبدو أن الجنون تربع على عرش عقلك، لا تضع تحليلات من عندك، لم يكن الأمر إطلاق كما تظن.

آدم: هيا إذن اشرح لي، أنا أصغي إليك.

فحاول نائل أن يقول ما يهدأ به من غضب آدم: كانت مجرد مصادفة لم يكن الأمر مخططا له كما تعتقد، حتى أنني لا أملك سبباً واحد كي أفعل ما تظنه أنت، لما أتسبب لكم بالإحراج؟

انتفض آدم من مكانه ثم قال: كيف لي أن أعرف اسأل نفسك، أظن أنك الوحيد القادر على الإجابة لمثل هذا السؤال، لست أنا أو أمي من يجب عليه، لكن أسفي على شخصاً اعتبرته أخا لي في غربتي، لم يعد لدي ما أقوله.

هم آدم بالذهاب تارك خلفه نائل جالس في مكانه، إلا أن نائل لم يتركه ثم ركض من وراءه وهو يصرخ كي يجبره على سماع كلامه: انتظر، توقف يا رجل يكف تصرفات كا الأطفال.

عاد آدم إليه يضربه على كتفه ثم قال له: ألا تخجل أنت! هل مازال لديك ما تقوله! ألن تكف عن ترهاتك هذه لقد حفظت ما تريد قوله، اغرب عن وجهي.

احنى نائل ظهره ممسك ركبتيه يلتقط أنفاسه ثم قال: أريد أن أذهب معك.

استنكر آدم ما قاله نائل فا أجابه ساخراً: إلى أين تريد الذهاب؟ أنا عائد إلى بيتي ولست ذاهب إلى قصرك، إنما هو في الإتجاه المعاكس.

ابتلع نائل ريقه الجاف ثم قال لآدم: أريد أن ارى أمك وأنا سوف اعتذر منها، بالإضافة أن لدي ما أقوله لها.

حدق آدم بصديقه مالياً ثم قال له متسائلاً: أخبرني ماذا تريد مع من أمي؟ أي حديث تود قوله لها؟ أخبرني دون ذلك لن أوافق.

لم يقبل نائل الإفصاح عما يريد قوله، بل كان مصر في الذهاب مع آدم ثم مقابلة أمه والحديث معها فقال: عندما نصل إلى بيتك ستعرف كل ما تريد أما الآن لا تتعب نفسك معي، لا جواب لدي سوى انتظر.

في المكتب حيث يعمل عادل، كان لديه بعض الأمور التي يتوجب عليه إنهائها، ثم توقيع بعض الأوراق، بالإضافة إلى جولة تفقدية ليطلع على عمل العمال، إلا أن شيء غريب يحصل معه، لا يشعر بأنه على مايرام.

حاول فكر ربطة عنقه لعله يتحسن قليلاً، أصبحت أنفاسه ثقيلة وبطيئة، لاحظ الأمر صديقه هو المسؤول عن قسم العمال إنه أيمن.

ذهب ليحضر له كوب من الشاي مع القرفة، ثم جلس معه لعله يخفف عنه الضغط الواضح عليه ثم سأله: ما هذه الحالة التي أنت به يا عادل؟ هل أنت بخير؟ لم أراك بهذه الحالة من قبل، أخبرني ربما ساعدتك.

رد عليه عادل وهو يستجمع قوته وقال: لا تشغل بالك لا صاحبي، يوجد بعض الأمور المختلطة في المنزل هذا كل ما في الأمر.

أيمن: اذا كنت ترغب بالحديث فأنا اسمعك؟

هز عادل رأسه مبديا عدم رغبته بالكلام فقال: لا إنها مجرد مشاكل عائلية، لا شيء مهم يحدث ما هو أكبر منها عادة، يكاد لا يخلو بيت من مثل هذه المشاكل.

أيمن: إن كنت ترى هذا فلا بأس، أرجو أن تنتهي كل ما يقلق يا صديقي.

يتبع.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي