4

كان الإرهاق أقوى من جسد عادل المريض، وكأن سكيناً تغرز في قلبه، وضع يده على جانب صدره الأيسر يدلكه لعله يصنع لنفسه بعض الراحة التي تخفف عنه، إلا أن تعب أعيا عادل بشكل كبير.

لم يعد أيمن قادراً على الإستماع لما يطلبه صديقه بل أصر على الذهاب للمستشفى، حاول عادل التكبر أكثر على ألمه لكن دون جدوى فقال له أيمن: لن ادعك هكذا، إما تذهب إلى البيت أو إلى المستشفى كي نطمئن على صحتك وهذا أفضل.

بعد محاولات حثيثة من أجل إقناع عادل كان ذلك بالفعل،
بصعوبة كبيرة قبل بالذهاب وقال لأيمن شاكراً: أشكرك يا صديقي، يبدو أنني أجهدت نفسي هذا اليوم ولا أشعر بالراحة.

لم يكن أيمن مقتنع بأمر الإجهاد هذا، فهو يعلم تماماً بأن عادل لم يقم بفعل شيء منذ الصباح حتى أنه لم يتحرك من هي خلف مكتبه، جالس يوقع أوراق عمل منذ وصوله.

في الجانب الآخر وصل آدم وصديقه نائل إلى منزله، دخل آدم أولاً يستأذن أمه لدخول صديقه، كان يقف نائل في الخارج يتوقع أن يتطرد أيضاً من قبل خديجة، لكن بعد لحظات قليلة عاد آدم ليرحب بصديقه قائلاً: تفضل.

في داخل رحبت أم آدم بصديق ابنها قائلة: أهلا وسهلا بك يا بني تفضل، ارجو أنك لم تنتظر طويلاً.

رد عليها نائل بنبرة يملئها الخجل قال: شكراً لك على قبولك إستضافتي، اتمنى أن لا أكون قد اشغلتك عن أمر ما.

قالت خديجة: لا يا بني لا يوجد شيء مهم.

ثم أشارت له لتوجه إلى غرفة الضيوف، بعد أن جلست معهما بعض الوقت همت لتتركهما وحدهم، لكن نائل قال لها: هل يمكنك البقاء يا خالة؟

نظرت خديجة إلى ابنها آدم وعلى وجهها علامة الاستفهام واضحة سألته: بطبع يا ولدي، لكن لماذا؟ هل هناك شيء؟

عدل نائل جلسته ثم قال: لقد جئت إلى هنا من أجل الحديث معك، لدي ما أقوله هل يمكنك سماعي؟

جلست خديجة مرة ثانية مستغربة من كلامه تسأله: من أجلي أنا؟ تفضل قل ما لديك أن أصغي.

كان العرق يتصبب منه نظراته غير ثابتة ممسكاً أصابعه وكأنه على وشك السقوط قال نائل: جئت إلى هنا لأقدم لك اعتذاري بشأن ما حدث في الأمس معك، لم أكن أعلم بأن الامور ستنتهي بهذه الطريقة..

قبل أن يكمل قاطعته خديجة بابتسامة لطيفة تخفف عنه عبئ الحديث والاعتذار: لم أفكر بهذا منذ اللحظة التي خرجت فيها من باب منزلكم، بالنسبة لي الأمر انتهى.

لكن نائل أصر على التبرير أكثر: أنا كنت سعيداً جداً لقبولكم دعوتي، لم يكن الأمر مرضياً لي ولا حتى أبي كان موافق على ما حدث.

ثم نظر إلى آدم وأكمل كلامه قائلا: بالنسبة لي آدم صديق وسند لا يميل في كل مرة احتاجه فيه أجده داعماً، لذا أنا اعتذر منك أيضا يا صديقي.

تأثرت خديجة بالكلام الذي سمعته من نائل حتى أن دمعتها اوشكت على الانهيار، تمالكت نفسها ورسمت على شفتيها ابتسامة رقيقة ثم قالت: لا عليك يا ولدي كل إنسان منا معرض للخطأ في بعض الأمور مهما كان كبيراً أو صغيراً، لكن الأهم هو التراجع عن تكراره والاعتراف به.

بدت الراحة واضحة على ملامح نائل، ثم أضافت خديجة قولها: بتأكيد أن لأمك أسباب تجعلها تفعل ما فعلته ليلة الأمس، لكن أنا عن نفسي قد سامحتها وغفرت لها ذلتها.

الأسف الشديد واضح على نائل فقال موجه حديثه لآدم وأمه: أعدكم بأنني سأرد اعتباركم وأنني سأعتذر لكم أمام الجميع في بيتنا.

تدخل آدم فقال: لا يا نائل هذا يكفي، وأنا أيضاً صفحت عنك، انجلى كل ما كان في قلبي، انتهى الأمر هنا.

في خضم الحديث الذي يدور بينهما، رن هاتف نائل بعد أن أخرجه من جيب معطفه ليرى المتصل، واذا به رقم غريب غير مسجل لديه، لذا قرار أن لا يجب ويكمل الحديث مع آدم.

وما أن عاد للحديث مرة أخرى إلا وعاد هاتف لرنين مرة أخرى، مما جعله مضطراً للإجابة وفي صوته نبرة من الانزعاج على هذا التطفل والإلحاح.

رد نائل قائلا: ألو
صمت قليلاً ثم قال: نعم أنا ابنه.
في لحظة واحدة تبددت علامة الغضب وتحول وجه نائل إلى لون يشبه كأبة الوحدة، انخفض صوته وتغيرت نبرته، آدم ينظر إلى أمه لا يفهم من الأمر شيء.

نهض نائل فزعاً وهو يصرخ: كيف حاله الآن؟ أين أنتم؟
ثم أضاف: حسناً أنا قادم في الحال.

أغلق الهاتف وهم يريد الخروج كأسد جائع لا يرى أمامه أحد، حاول آدم فهم الأمر منه قليلاً لكنه لم يتمكن منه وخرج نائل بسرعة البرق.

قالت خديجة لولدها آدم: أسرع واذهب مع صديقك، لا تدعه وحده في هذه الحالة وأخبرني ماذا يحدث معك.

تبع آدم صديقه يناديه ويسأله: إلى أين يا نائل؟ هل يمكن لك أن تهدء قليلا كيف أفهم إلى أين تريد الذهاب؟

صرخ نائل والدموع تملئ عيناه: إلى المستشفى، أبي سقط مغشياً عليه وهو الآن بين الحياة والموت، لا أعلم أن كان سيفتح عيناه مجدداً أم أنها أغلقت للأبد.

ثم أكمل نائل طريقه تارك خلفه آدم ثابتاً دون حراك، في رأسه حرب تدور بين الوقوف إلى جانب صديقه وذكريات عادة من ذلك اليوم الذي توفي فيه والده.

لبرهة من الوقت ثم أسرع مرة ثانية يركض خلف نائل، صعد مع صديقه في السيارة وانطلاقا كلاهما نحو المستشفى.

أمام تلك البوابة الكبيرة التي كتب عليها "عاجل" بالخط العريض وصل نائل يبحث عن أبيه، الخوف تمكن من أوصاله لم يكن قادراً حتى على تذكر أسم أبيه سأل الموطف المسؤول في قسم الإستقبال فا أجابه: أن السيد عادل حاليا في غرفة العناية الفائقة، يمكن أن تسأل الطبيب عن وضعه بشكل كامل

نحو الطابق الرابع اتجه نائل مع صديقه آدم، حيث خصص ذلك الجناح للعناية الفائقة والحالات الحرجة، كان نائل يخشى أن يسمع ما يفكر فيه، قلبه يرتعد خوفاً من حدوث شيء قد لا يقوى على تحمله.

أمام تلك البوابة الزجاجية وقف نائل، يحدق إلى أبيه الذي تمدد على سرير يشبه نعش الأموات، تلك الاجهزة الكثيرة المتصلة بصدر عادل، تعد أنفاسه وتراقب نبض قلبه.

بدأ نائل يحدث والده وكأنه يسمعه: كيف لك أن تذهب وتتركني؟ ماذا لو توقفت هذه النبضات؟ وسكن هذا النفس؟ أو جفت هذه العروق؟ لا أجرأ حتى على الخيال.

عاجز أمام حالة صديقه وقف آدم لا تسعفه الكلمات، لا يعلم ماذا يقول وكيف له أن يخفف عنه مصابه أو كيف له أن يقوى فقط على حمل نفسه، فهو الإبن الأكبر لأبيه.

في تلك اللحظة وصلت نادية تركض فزعة تنظر داخل كل غرفة بحثا عن شريك عمرها ورفيق دربها، كان برفقتها أيمن يحاول مساعدتها كي تهدء.

وما أن رأت نائل حتى ركضت نحو بلهفة الناجي تسأله: كيف حال والدك يا نائل؟ هل تحدث مع الطبيب؟ ما سبب حالته هذه؟ قال شيء يا ولدي.

لم ينطق نائل ولا بكلمة واحدة بل بقي صامت يحدق بأمه بطريقة مستفزة للغاية، نظراته تلك أشعلت نار في قلبها أشد غيظاً من الحال التي هي فيها.

كان شيء ما داخل نائل يحدثه: بأن أمه هي السبب وراء ما حدث لأبيه، نتيجة الغضب والانفعال المتزايد أودت به الحال إلى هنا.

ثم قال لأمه: كيف لك أن تسألي عن سبب هذا، ألا تعلمين كم القهر الذي يعيشه أبي بسببك، بعد كل ما حدث لم تدركي بعد أن ما تفعليه هو من ألقى أبي هنا على هذا السرير.

أزاح نائل يد أمه عن كتفه بعد ما حاولت أن تستند عليه، تركها حائرة مشتتة وحدها تلوم نفسها وتجلدها قائلة: هل حقاً ما حدث بسببي، أرجوك لا تتركني يا عادل لا حياة لي في غياب أبقى معي.

لربما كان ظن نائل صحيح وكنت سبب مرض زوجي، وأنا من اوصل حاله إلا هنا، بعد أن سار نائل خطوات قليلة في ذلك الرواق الطويل لاحظت نادية وجد آدم فأردت أن تصب غضبها عليه.

من شدة الغضب لم تستطع ضبط نفسها وصرخت بصوت عال: أنت! ماذا تفعل هنا؟ اغرب أيها..

وقبل أن تكمل ما أردت قوله من تهديد ووعيد، وقف نائل في وجهه قاطعاً حديثها بقوله: إنه صديقي، لقد أتى معي إلى هنا ولن يغادر إلا في الوقت الذي يراه مناسباً له، لذا لن تتحدثي معه بهذه الطريقة مرة أخرى.

ثم ترك نائل أمه وأكمل طريقه خارجاً من المكان المتواجدة فيه، تبعه آدم على الفور دون التدخل بما دار بينهم من حديث.

في حديقة المستشفى جلس الصديقان على أحد المقاعد الخشبية فأراد آدم التحدث من نائل بأمر ما فقال: أعلم أن الوقت غير مناسب لكن.

ثم صمت قليلاً دون أن يكمل ما بدئه، فنظر نائل إليه رغبة ان يقول ما في جعبته من حديث فقال آدم: إنها أمك في النهاية، لا تقسو عليها، هي أيضاً بوضع سيء الآن كون قريباً منها لا تدعها وحدها هي بحاجة إليك، لا ارغب أن أكون سبباً في اي نزاع بينكم.

لم يعلق نائل ابدا على كل الكلام الذي سمعه من صديقه، بل أشاح بنظره عن آدم يتأمل السماء ويفكر بما حدث لتو، بعد وقت قصير قضوه خارجاً دون كلام ولا نقاش قال نائل: لا داعي لأن تبقى هنا يا آدم، يمكنك الذهاب، لا ترهق نفسك بالانتظار.

ربت آدم على كتف صديقه ثم قال: لا عليك يا أخي، نحن هنا لنقف بجانب بعضنا عندما تشتد بنا الظروف، لا يمكن لي أن اتركك وحدك في مثل هذا الحال.

سر نائل بكلام صديقه فقال له: شكراً لك على جميل صنعك، أنت إنسان رائع يحمل في قلبه من النبل الكثير.
ثم استأذن نائل كي يدخل ويطمئن على حال والده وأن طرأ أي جديد في خلال مكوثه خارجاً.

ما أن وصل إلى مشارف الطابق الذي يرقد فيه أباه، إلا وسمع صراخ أمه يملئ المكان صخباً ضجيج، هرع يركض نحوها ليرى ما لأمر وما الذي حدث، كانت أمه جالسة على الأرض تبكي وتضرب نفسها.

كان الطبيب واقف يحاول تهدئتها لكن دون جدوى، لم يكن نائل يفهم أي شيء مما يحدث، لم يكن قادراً على إدراك سبب حالة الهلع المتمكنة من والدته، إلا أنه حاول أن يحتضنها يهدء من روعها.

مردد كلمات ظن أنه يخفف بها عن أمه قائلا: لا داعي يا أمي لكل هذا، لأمور ستتحسن، حاولي ان تهدئي يا أماه.
كلامه زاد من نحيبها وصراخها، بعد محاولات استطاع أن يحملها لتجلس على كرسي موجود بالقرب منهم.

نظر إلى الطبيب لعله يرى بارقة أمل أو خير في محياه، ثم قال: اسمع يا أمي سيخبرنا الطبيب بهذا الآن.
ثم توجه بحديثه إلى الطبيب قائلا: أرجوك حدثها بأن تهدء ولا داعي لكل هذه الأفعال التي تقوم بها.

إلا ان الطبيب لم يتفوه ولا بكلمة بل بقي صامت وأنزل ناظريه إلى الأرض، انخفض نحيب أمه وصوت بكائها بينما كانت تمسكه بكل قوته وكأنه عصفور تخشى أن يطير وتفقده.

يقول نائل عن تلك اللحظة: شعرت وكأنني ذهلت حينها، لم أعد أشعر بنفسي ولا بمن حولي، كل شيء أصبح ثقيلا عليي، بل ما زاد الأمر سوء شعوري بأنني فقدت حواسي وإدراك.

كلمات الطبيب تلك لن تغادر ذاكرتي ما حييت: أنه أمر بالغ الصعوبة أن أخبركم بأننا فعلنا كل ما يمكن ما بوسعنا وما نملك من إمكانيات، لكننا فشلنا وخسرنا المريض، تعازي لكم.

هذه الكلمات جعلتني ميتاً بجوار أبي، لم تكون خبر لوفاته فقط بل أسقطتني أيضاً بلا روح، لقد خسرت كتف استند عليه في مشاق الحياة وقسوتها، رحل أبي وتركني خلفه وحيداً.


بعد وقت وجيز عاد الطبيب بتقرير طبي مفصل عن سبب الوفاة ثم قال: إن الوفاة ناجمة عن انسداد في شرايين القلب مما أدى إلى إصابته بذبحة قلبية مفاجئة كان لها أثراً كبيراً على الدماغ أيضاً.

مرت أيام العزاء ثقال وكأنهم كابوس تعيش فيه عائلة عادل، لا أحد قادر على التصديق كل ما جرى كان في لمح البصر لم يشعر به أحد، ولم يتوقع أحدهم حدوث شيء كهذا.

تلك الأيام كان تأبى أن تنتهي أو أن تمر بسرعة وتترك العائلة تلملم شتات قوتها.

كانت نادية تعيش حالة من الإنهيار العصبي الحاد بعد ما حدث، قُلبت الحياة رأساً على عقب، نائل تائه نسمة واحدة كفيلة بأن تسقطه أرضاً، لذا كان آدم حريصاً جداً أن يبقى معه قريب منه في حال حدوث أي طارئ.

مضى على وفاة عادل ما يقارب الاسبوعين، كان المنزل يبدو فارغاً لا حياة فيه ولا روح تنبض وكأنه أهله هجروه، لم يكن نائل قادراً على رؤية مكان أبيه خالياً، أن يبحث عنه ولا يجده، وكأنه يعيش في خياله مع أبيه.

كان آدم يرى حالته تلك ويلاحظها، كان يخشى عليه أن يجن أو يمسه سوء من شدة الحزن فقال له: ما أريك أن نخرج للمقهى؟

هز نائل رأسه بالنفي مبدي عدم رغبته بالذهاب وقال: اذا كنت تود هذه اذهب وحدك لا رغبة لي في ذلك.

رد آدم عليه: لا يا صديقي لن اذهب إلى أي مكان بدونك، لكن اسمعني جيدا لا يمكنك البقاء على هذه الحال طويلاً.

سأله نائل: عن أي حال تتحدث؟

فقال له آدم: أنت الآن المسؤول الأول عن العائلة، عليك الاعتناء بهم جميعاً وأن تحل مكان أبيك في كل شيء.

تنهد نائل ثم قال: في بداية الأمر كنت أراك تحمل الأمور أكثر مما يجب، لكن لأن فهمت لما تكون حياة وكأنها مخصصة لعائلتك، لا تفارق هم ولا تتركهم بدون دعم وتحمل كل هذه المسؤولية على عاتقك.

رد آدم عليه: لم أكن اتمنى لك أن تمر بهذ التجربة، أو أن تخوض مثل هذه المعركة، أن الحياة قاسية لا تحمل في ثناياها لا رحمة ولا شفقة على أحد.

ثم أضاف: لذا لا تطيل الحزن يا صديقي، يجب أن تنهض من أجل من هم حولك أخواتك وأمك، لا تدع الهم يغزو بيتكم، انتفض وأنا معك لن تدوم الحال هكذا بل سيتغير كل شيء، وما حدث أمر مقضي لا مهرب منه.

كانت تلك الكلمات بمثابة حافز لنهضة نائل، من أجل أخواته وأمه أيضا بالإضافة إلى أنه سيتولى زمام العمل وكل ما كان مسؤول عنه والده في السابق.

ليس هذا وحسب أنما لديه جامعة يتوجب عليه أن يعود أيضاً ويكمل مشواره فيها كما كان يحلم والده، فقال نائل معاهد نفسه: سأفعل كل ما بوسعي من أجل تحقيق حلما لطالما كان أبي يطمح أن يراني قد حققته ونلت مرتبته بجدارة.

لذا ستكون هذه الوعود ميثاق بين نائل وأبيه في العالم الآخر، حتى يتذكره في كل خطواته ويكون راضياً عنه حتى بعد رحيله.

يتبع.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي