الفصل الثالث

الفصل الثالث

كانت تطارده فى أحلامه التى تحولت لكوابيس مزعجة بفضلها، يراها تقف وسط العديد من الرجال يتهامسون سويا ويضحكون وهى تنظر له بتحدى وهى فى أبهى صورها كأنها تقصد إستفزازه وتميل على أحد الرجال وتشير إليه فتجعل هذا الرجل يلتفت له وهو يضمها إلى صدره وتتعالى ضحكاته أكثر.

صوتهم يصل إليه يصم آذانه ويتحول إلى صفير عال، يضع يديه على أذنه ويصرخ بوجع وقهر، يحاول أن يتقدم منها ويصل اليها ولكن لا يستطيع بسبب تقييد قدمه بالعديد من الأغلال.

إنتفض من نومه وهو يصرخ بإسمها وقطرات العرق تتساقط على جبينه مع زيادة ضربات قلبه وتنفسه السريع، وجد صغيرته تنظر له بخوف وهى فى إحدى اركان الغرفة.

أشفق عليها وتقدم منها بخطوات بطيئة وكلما اقترب منها تخفى وجهها أكثر فى تلك الدمية الصغيرة الممسكة بها، اقترب منها يزيل يدها بحذر فوجد دموعها تنهمر على وجنتيها.

ضمها يحضنها وحاول تهدئتها وبعد لحظات استجابت له وسألته بهدوء عن سبب صراخه أثناء النوم ومن هؤلاء الأشخاص الذين يأمرهم بالصمت فأخبرها أنه مجرد حلم مزعج وقد انتهى.

طلب منها أن تذهب وتغسل وجهها وتستعد للنزول، مسحت دموعها بطرف ملابسها وابتسمت له وركضت للخارج تنفذ ما أمرها به، قام بتغيير ملابسه، واتجها للخارج سويا.

أمسكت بيده وظلت تنظر للمناظر الطبيعية الخلابة بانبهار وهى ترى الفلاحين يعملون فى أرضهم بسعادة والأطفال الصغار يرتدون الجلاليب ويمرحون فى الأراضى الزراعية والنساء يحملون الطعام ويذهبون لإطعام ازواجهم.

تركت يده و إتجهت لتقفز وتمرح هى الاخرى وهو ينظر لها مبتسما على فرحتها إلى أن غابت البسمة من فوق شفتيه عندما تذكرها فهى الأخرى فرحت مثل الأطفال الصغار عندما جاءت لهنا أول مرة معه.

كم أحبت المكان وقتها وأخبرته أن الهدوء هنا مريح للأعصاب بعيد عن صخب المدينة وانها لن تترك هذه البلدة أبدا ولن تعود لحياتها السابقة.

ابتسم بسخرية عندما تذكرها وهى تطلب منه العودة بعد مرور شهور قليلة على تواجدهم متحججة بشعورها بالملل الشديد من هذا الهدوء والروتين المتكرر للحياة هنا وانها اشتاقت لحياة المدينة مرة اخرى، واستمرت فى طلبها كثيرا حتى خضع لها فى نهاية الامر.


بعد مرور بعض الوقت انتهى من جولته وقد إلتقى بالعديد من الأشخاص الذين يعرفهم مسبقا والفلاحين الذين كانوا يقومون بزراعة الأرض وحصادها طوال الفترة الماضية وقام بإطلاعهم على قرار عودته وأنه سيعاود متابعة الأرض من جديد و الاشراف على العمل بنفسه.

اتجه للمقابر لزيارة والدته فهو منذ دفنها لم يحضر هنا ولم تسمح حتى الايام بأن تعطيه الوقت الكافى للحزن عليها.

منذ أن فارقت الحياة والصدمات تتوالى عليه، وقف ممسكا بضريحها يدعوا لها بالمغفرة والرحمة وانهمرت دموعه وهو يتذكر وفاتها وعندما طلب من زوجته السفر معه رفضت وتحججت بشعورها بالتعب

رجوع للماضى

عاد من عمله هو أخيه بعد اتصال هاتفى يخبرهم بوفاة والدتهم ويطلب منهم حضورهم على وجه السرعة من أجل مراسم تشييع جثمان الفقيدة، دخل أخوه إلى شقته للاستعداد للسفر وإحضار زوجته وأولاده وهو أيضا اتجه إلى منزله وهو حزين على فراق والدته.

أعتقد أنه سيجدها فى انتظاره وجهزت الحقائب للسفر، فقد اتصل عليها وطلب منها تجهيز بعض الأغراض لحين رجوعه حتى يمكنهم الوصول قبل غروب الشمس، بحث عنها فوجدها متمددة على السرير ترتدى جلباب منزلى بسيط وبجانب الباب حقيبة صغيرة بداخلها بعض الملابس الخاصة به.

لم تحرك ساكناً وظلت تنظر له من بعيد، بدأ فى تغيير ملابسه وطلب منها أن ترتدى ملابسها سريعا، التفت ينظر لها بصدمة عندما جاءه صوتها

منى: لا أستطيع السفر، انا حامل وأشعر بالتعب الشديد كما أن فرح ستشعر بالتعب فهى مازالت صغيرة ولا يجب أن تحضر هذه المراسم، الأفضل السفر بمفردك.

فتحى: كنت أعتقد أنك ستصرين على تواجدك معى بهذه الظروف ولكن لم أعد أفهمك وقد تغيرت كثيرا منذ عودتنا إلى هنا.

منى: ألم تشعر بالملل من هذا الحديث، لم اتغير انها تهيؤاتك تراها انت فقط، ولماذا تريد منى حضور الدفن والعزاء فأنا لا أعرف أحد هناك من الأساس.

فتحى: وبماذا اجيب عندما يسألون عن زوجتى والسبب الذى منعها من الحضور.

منى: أخبرهم بحملى وانى اخترت البقاء لرعاية طفلتنا الصغيرة، كما أنه لن يلاحظ أحد غيابى.

فتحى: حسنا، لا أملك الوقت للنقاش معك حاليا، سأذهب الآن وسنكمل حديثنا عند عودتى.

تركها وأغلق الباب خلفه بقوة لانزعاجه من رفضها للسفر والوقوف معه للتغلب على هذه المحنة، اتجه للاسفل فقابله أخيه الذى كان ينتظره وبجانبه تقف زوجته وعندما رأته سألته بخبث عنها فأخبرها أنها مريضة ولن تذهب معه، فردت عليه بسخرية أنها لن تتحمل مجهود السفر وهى تتمنى أن تكون بخير.

عودة للحاضر

جلس بحزن مستندا على قبرها يبكى وهو واضعا رأسه على ركبتيه يخاطب والدته ويطلب منها أن تسامحه على عناده و عدم الانصات لنصيحتها عندما اخبرته أن هذه الزيجة غير مناسبة له.

اقتربت منه ابنته الصغيرة وهى تملس على شعره، فرفع رأسه ينظر لها بحب وهى تسأله ببراءة عن كلامه فضمها إليه بحب وهو يزيل دموعه

فتحى: أتحدث مع أمى الراحلة يا حبيبتى، انا افتقدها بشدة.

فرح: انا أيضاً افتقد أمى بشدة يا أبى، هل رحلت هى الأخرى مثل والدتك؟.

فتحى : أجل لقد رحلت ولن نراها مجددا.

فرح: ماذا عن الطفل الصغير التى وعدتنى بإحضاره ليه وكانت تحمله فى أحشائها، هل أخذته معها ايضا؟.

فتحى: أجل، رحلوا ولن يعودوا مرة أخرى ابدا، يجب أن تنسيها ولا تذكريها أبدا، هل تفهمين؟.

حدثها بانفعال شديد كعادته وهو يهزها بعنف، اومأت له بخوف، فأمسك يدها وجرها خلفه واتجها للعودة إلى منزلهم.

وجدوا المنزل قد تم تنظيفه وتم تجهيز بعض الطعام اللازم لهم، فتركها واتجه إلى إحدى الغرف ليتصل على أخوه فريد الذى يختلف عنه تماما فهو يتسم بالطيبة والهدوء والتفكير جيدا بالأمور على عكسه فهو متسرع فى قراراته وسريع الغضب.

أخبره بنزوله للارض اليوم ومقابلته للعمال والإتفاق معهم على عودته للعمل والإشراف على الأرض بنفسه كما كان فى السابق:

فريد: لا تتعجل أخى، أنتظر قليلا حتى تهدأ الأمور لعل بعد ذلك تغير رأيك وتقرر الرجوع.

فتحى: يجب أن أبتعد حتى أتمكن من نسيان ما حدث، والعمل سيساعدنى على ذلك.

فريد: حسنا أخى، سأحاول القدوم نهاية الأسبوع ولنتحدث قليلا ونفكر معا فى هذا القرار.

فتحى: إن شاءالله، فى إنتظارك.

وصلت إلى المنزل، ودلفت للداخل جلست على أقرب مقعد ووضعت قدم فوق الأخرى وهى تمسك المفاتيح بيدها وتلعب بها وتنظر لها ببسمة، توجهت إليها صديقتها وهى تنظر لها بدهشة وتتحدث معها بحقد بينما ترد هى عليها ببرود:

ناهد: من يراكى الآن لن يصدق أنك كنتى فى الصباح حزينة ولا تطيقين أحدا.

منى: لقد نسيت حزنى، أوشكت أن أحقق حلمى الذى طالما تمنيته طوال عمرى.

ناهد: هل تقصدين مركز التجميل؟، ألم تقررى التخلى عن هذا الحلم وعدم التفكير به مرة أخرى.

منى: بعد تدخلك فى حياتى وخرابها على يدك، لم يعد لدى سوى تحقيق هذا الحلم.

ناهد: لا عزيزتى، أنا من أعطيتك المفتاح للوصول إلى الحرية و الفضل يعود لى فى إخراجك من السجن الذى كنتى تعيشين به، لا تنكرى المعروف الذى قدمته لك.
منى: حقا!، حسنا أشكرك على هذا المعروف.

ناهد:أخبرينى ماذا فعلتم أنتى و سمير عندما تقابلتم اليوم.

منى: ذهبنا لرؤية مركز التجميل الذى اشتراه لى، المكان رائع للغاية ومميز، أفضل مما كنت احلم به.

ناهد: هل إشتراه بالفعل كما وعدك؟، ماذا عن اتفاقكم على الزواج.

منى:حلمى أولا ثم الزواج، لقد تعلمت الدرس جيدا ويجب أن أضمن حقى، وعدم إهدار الوقت دون الحصول على ما أستحقه.

تركتها منى واتجهت ببطئ إلى الغرفة التى تقيم بها معها، ناهد تمتلك شقة فاخرة فى منطقة متوسطة ولكن مساحتها كبيرة للغاية تتكون من ثلاث غرف للنوم وقد منحتها إحدى الغرف حتى تقيم بها بعد خلافها مع زوجها وطلاقها منه.

قبل وصولها للغرفة التفتت منى تخبرها بأنها طلبت منه شراء شقة قريبة من مركز التجميل للمكوث بها وأنها سوف تترك لها المنزل قريبا، تفاجئت الأخرى من هذا الكلام ولكنها حاولت إخفاء صدمتها وهى ترد عليها بأن تعتبر المنزل بيتها ومرحب بها فى أى وقت، شكرتها منى على هذا واتجهت للداخل وأغلقت الباب خلفها بهدوء.

ما أن تركتها واتجهت للداخل، أمسكت ناهد تليفونها وقامت بالاتصال عليه ورد الاخر عليها بملل فهو كان يتوقع هذا الإتصال:

سمير : كنت متأكد من أن انك ستتصلين بى اليوم.

ناهد: أريد حقى، لقد ساعدتك فى الوصول إلى ما تريد ولم تعطينى ما يكفينى مقابل خدماتى لك.

سمير: لقد أعطيتك حقك واكثر، الشقة الفاخرة التى تقيمي بها والأموال الكثيرة التى اخذتيها، ألم تكتفى بكل هذا؟!.

ناهد: لقد قضيت الكثير من الوقت والجهد لأفعل لك ما تريد وتكون هذه مكافئتى فقط!، بينما تشترى لها ما تريد وستجلب المزيد.

سمير: هى ما زالت تثق بك وتخبرك عن أمورها وتعتقد انك صديقتها التى تحب لها الخير .

ناهد: أجل، ما زالت تعتقد ذلك ومن الأفضل أن تجهز لى بعض الأموال حتى أظل أدافع عنك وانصحها بإتمام الزواج، او يمكننى مساعدتها على الرجوع لزوجها وشرح الحقيقة له لعله يسامحها.

سمير: حسنا، سأنتظرك غدا فى المساء، إلى اللقاء.

ألقت بالهاتف على المقعد وهى تتوعد له، فهى لن تتركه بعد كل هذا دون أن تأخذ منه ما تريد

رجوع للماضى

تقدم سمير من ناهد وأمسكها من ذراعها يهزها بقوة وهو يصرخ بها ويخبرها بأنه قد مل الانتظار فلقد وعدته أنها بعد عودتها ستؤثر عليها وتجعلها تتخلى عن زوجها ولكن ذلك لم يحدث فلقد أنجبت طفلة صغيرة ومرت سنوات بعدها ولم يحدث شئ بل والأدهى أنها حملت منه مرة أخرى وستنجب له ابن آخر.

حاولت تخليص نفسها من يده وتهدئته وإخباره بأن الحياة بينها وبين زوجها أصبحت مستحيلة وقريبا سيحدث الطلاق، دفعها بقوة وهو يسخر من حديثها التافه ويخبرها أن أمامها فرصة واحدة ولن يصبر بعد ذلك.

قاطع كلامهم إتصال منى على ناهد، وعندما رأى سمير اسمها على شاشة هاتفها أشار لها لكى تقوم بالرد عليها

ناهد: كيف حالك عزيزتى، لقد افتقدتك كثيراً وسأنتظرك اليوم كما اتفقنا.

منى: وأنا أيضا إشتقت لك، لقد اتصلت لأخبرك أننا لن نتقابل اليوم، لقد توفت والدة زوجى وسأسافر معه من أجل حضور الدفن.

ناهد: لا تسافرى معه حبيبتى، ستجهدين نفسك بدون داعى، كما أنه لا يوجد هناك أحد تعرفيه وحضورك ليس بالضرورى.

منى: أنه زوجى ويجب على أن أكون معه فى ظل هذه الظروف، قد تحدث معى منذ قليل وصوته حزين للغاية.

ناهد: لا تكونى غبية، تحججى بحملك وانتهزى الفرصة لاستفزاز زوجة أخيه البغيضة لتتأكد ان زوجك ينفذ لكى ما تريدين.

منى: أخشى أن يغضب منى.

ناهد: لن يغضب بالعكس يجب عليه أن ينصحك هو بهذا ، انتى فى بداية الحمل والطريق طويل للغاية وقد يؤثر ذلك على الجنين، وابنتك الصغيرة كيف سستحملين عبء السفر بها فهو سيكون مشغول ولن يستطيع مساعدتك.

منى: معك حق، لن أذهب معه.

ناهد: أحسنتى، بعد مغادرتهم اتصلى بى وسنتقابل عندك طالما ستكونين بمفردك.

نظرت له بخبث بعد أن أنهت المكالمة معها وهى تخبره أن الفرصة التى انتظرتها قد أتت الان ويجب استغلالها، أخبرته بالخطأ التى سيقومون بتنفيذها سويا ووعدته أن بعد ما سيحدث اليوم لن تبقى زوجة له وسيتم الطلاق عن قريب بالتأكيد

عودة للحاضر
إتجهت إلى غرفتها وفتحت إحدى الادراج وأخرجت منه ظرف كبير يحتوى على بعض الصور والأوراق، نظرت ناهد لبعض الصور التى فى يدها وهى تحدث نفسها وتتوعد له بالكثير فى الأيام المقبلة.

يتبع.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي