الجزء الرابع

أما عن مالينا التي كانت تتفقد الساحة حيث كان الراقصون يرقصون بجنون ليلة البارحة، لكنها لم تجد أي أثر ولو قطرة دم على الأرض لتصبح دليلاً لها، كان المكان و كأن ما حدث لم يحصل.

" كيف يمكنني العثور على دليل يثبت صحة وجود مخلوقات أخرى من عوالم موازية و يمكنها التواصل و التأثير في عالمنا."
قالت في نفسها بقلق و توتر.

كانت تدور حول المكان في حيرة من أمرها، الأطفال يراقبونها من بعيد و قد التف حولهم سحابة ضخم من البعوض كبير الحجم، إن الطقس في تغير مستمر يجب على الأمهات هنا الإعتناء الجيد بالأطفال و إلا يصابون بالمرض.

عليهم ردم هذه البرك التى تجعل توالد البعوض أمراً ميسراً، تحدثت مالينا مع بعض الرجال و النساء الذين يسكنون بالقرب من البركة و أخبرتهم أن يدفنوها أو أن يصبوا عليها زيت محرك السيارات و لن يعود هناك أي داع لاستخدام المبيدات الحشرية التي ستقتلك نباتاتهم.

كان رد أهل القرية صادماً، فقد رفضوا حتى الإقتراب من الماء الراكد، قالوا إن هذه هي الأيام العشر المميتة المظلمة، و أن أي شخص ينظر إلي البركة يبتلع و يحبس داخلها إلي الأبد، لم تستطع مالينا تغير رأيهم، قامت بما رأته مناسب و في مقدورها فعله، بمساعدة بعض الصبية، سكبوا زيت السيارات فيها، الأوضاع هنا لا تحمد عقباها.

في المساء عادت أدراجها إلى المخيم بعد أن تعبت من البحث و محاولة إقناع السكان و توعيتهم، أجلست نفسها على كرسي بالقرب من باب المطبخ و تناولت بعض الطعام بمزاج معتدل...


سمعت خادمتين تنظفان أمام المطبخ تتحدثان عن أفكار لا تخطر على بال أحد من البشر، قلت إحداهن:
" أسمعتى يا جارتي هل ما يقوله آل كاتور عن آل سوستورا صحيح؟"
همست إحداهن التى من فرط السمنة تحرك ساق واحدة و بالكاد تحرك الآخرى بعد دقيقتين دقائق.

" أجل أجل فلتخفضي صوتك يا امرأة، لقد استخدموا الياتيو _ الذي هو نوع من السحر الأسود تبرع فيه قبائل متفرقة تعيش في المناطق القاحلة من إفريقيا _"
ردت الأخرى التى توقفت عن التنظيف و جلست على الكرسي ثم واصلت حديثها.

" إن زوج هاكوك السيد بيتر مرض بمرض عجز الأطباء عن علاجه، أخذته أسرته إلي كبير الشيوخ في منطقة الجبال و قد عالجه بلمح البصر لم يأخذ الأمر منه إلا يومين فقط"


" و لكن مرض جون بعد يومين من شفاء بيتر بنفس مرضه مما جعل العائلتين في قتال مستمر، كلاهما يقومان بسحر الآخر و أذيته"
ردت الخادمة السمينة.


" آه! ألم تسمي آخر الأخبار؟ كوران ظفرت بحبيبها و جعلته يقع في حبها و لا يرى أحد آخر غيره، كل هذا فقط حدث بعد أن ذهبت إلي شيخ الشيوخ ذلك العلامة"
قالت الخادمة التي كانت تجلس على الكرسي.

سمعت أن حبيبها ذلك كان يحب فتاة آخرى كيف تمكنت من جعله يتزوجها و يتعلق بها الي هذه الدرجة؟"
قالت الخادمة السمينة.

" إنه السحر يا إمرأة لقد خلطت له القليل منه في شرابه و جعلته يداوم على تعاطيه، حتى تمكنت من عقله و قلبه هي الآن المسيطرة الوحيدة على كامل حياته لذلك المسكين جون"
ردت و أخذت قشة من المكنسة، تنظف الذي كان عالقا ما بين أسنانها من فتات طعام.

" أشك أن شيخ الشيوخ ساعدها دون مقابل"
قالت الخادمة السمينة في حنكة و دهاء.

" لا أحد في هذه الايام يقدم خدمات دون ثمن باهظ، يقولون أنه يطلب أغلى ما يملكه المرء مقابل تنفيذ رغباته تلك "
ردت هي الأخرى.


كانت مالينا مصدومة مما تسمعه أذناها هاتين، فهي لم يسبق لها أن تتخيل أحدهم قد يتمادى إلي و يتخطى كل الحدود،جلست على الارض تفكر بما قالته الخادمتين.

" هل حقا أستطيع كسب قلبه بواسطة السحر؟"
قالت في نفسها، صفعت وجهها بقوة ثم قالت:
" ما الذي أفكر به ؟ يحال أن ألجأ لمثل هكذا تصرفات"
كان كاينر يجلس أسفل ظل شجرة و كل تفكيره عبارة عن تلك الفتاة.


" ما إسمها؟ من أين أتت؟ هل سأراها مجددا؟ هل كانت هذه مصادفة ؟"

تنهد ثم قال :
" و من يبالي بقرمزية العينين تلك؟ "


" أرى أنك بت تفكر بأمري كثيراً هذا لا يطمئن، ليس عليك أن تكون مثلهم، أتعجب كيف بقيت على قيد الحياة حتى الآن "
سمع صوتها نظر خلف الشجرة فرآها أمامه كان لديها ابتسامة ساحرة جميلة.

" أنت لم تخبرني ما هو إسمك؟"
قال كاينر و هو يقف يحدق بها كأنه تائه سجين عينيها.

" لا إسم لي، و لكن تعددت ألقابي كل شخص يلقبني بما يهواه و يعكسه عينييه لفؤاده "
ردت بهدوء جلست واتكأت بالشجرة ببطء و أمالت رأسها عليها، كان النسيم يداعب خصلات شعرها و يبعثرها بلطف، بدت كطفل في الرابعة ناعس يود النوم.


" هل تهزئين بي؟"
سأل كاينر الذي جلس بجانبها دون شعور منه أزاح إحدى الخصلات، ففتحت هي عيناها ببطء ثم قالت:

" ألا تخاف مني أن أقتلك أو ألعنك؟"
ضحك كاينر و ضرب يده بالأرض ثم قال:
" أنت تمزحين لا يمكنك حتى إيذاء ذبابة انظري إلي حالك"

أمسك برسخها و لوح به بخفه، لقد كانت نحيفة من رأها يحسبها تتغذى على الهواء و عبارات الغزل، سحبت هي يدها و قد انتابها الخجل من جرأته الدائمة، يقربها دون الخوف من العواقب.

استلقي بجانبها على مسافة منها كان ينظر إلى الشجرة التي تفرعت أوراقها و حسن ظلها.

" سأرحل اليوم عن هذه القرية"
قالت تلك الحسناء تنظر إليه وكأنها تود البقاء هنا أكثر تلتقيه.


نهض كاينر و التفت صوبها و قال بصوت حزين:
" ألن أراك مرة أخرى؟"
أجابت هي :
" ربما لا أدري"

أغمض كاينر عينيه وظل يحاول رسم صورتها و حفرها في ذاكرته حتى لا ينساها حتى يظل يفكر بها، هو قد إستسلم لما يدور فؤاده من ضجة.


" كاينر !
إستيقظ إنها الرابعة عصراً، سنغادر القرية سنعود إلى العاصمة"
قالت مالينا و قد أيقظت كاينر الذي نظر إلى الموضع الذي كانت تلك الحسناء تجلس و لكنها إختفت كعادتها.

تجاهل كاينر مالينا نهض دون قول شيء ، كانت مالينا تقف و تراقبه من بعيد كل ثانية و هي تراه و قلبها يتعذب أكثر فأكثر.

" إنه لمن المؤلم أن يتجاهلك من إياه تحب"
قالت في نفسها.

أسرعت و لحقت به سارت خلفه حتى وصلا إلي المخيم قارب الجميع على إنهاء جمع و ترتيب حقائبهم، دخل كاينر غرفته وبدأ بجمع أشياءه بقيت ممرضتان للإعتناء بحال المرضى و إكمال جرعات العلاج لهم.

" سيدي ماذا عن الرجل الذي قال أنه سيأتي لأخذنا بعد عشرة ليالي لم يمضى سوى ليلتان، هل حقاً سيرسلون سيارة آخرى لنا اليوم؟"
سأل مايكل الذي سئم العيش في المخيم.

" حسنا! لأكون صريحا، لست واثق من أمر الشركة لأنهم بطبيعة الحال ليسو أهل للثقة و أيضا، تحدثت مع السائق السابق و قد وافق على المجيء و لكنه سينتظرنا بالقرب من الشجرة الكبيرة تلك"
رد الطبيب دييغو.

تقدم رئيس زعماء العشاء و معه أتباعه حتى وقفوا أما الطبيب دييغو و قدموا له كتاب قديماً.
قال الزعيم:

" إنه الكتاب الذي طلبته أرجوك اعفو عنا"

كان الزعيم يترجى الطبيب دييغو في يأس و أمل بتحقيق مطالبه وراء هذا الوجه وهذه التصرفات شرير و منافق كبير.

نظر دييغو إلى الزعيم باحتقار ثم قال:
"فلتقف يا رجل ما حدث قد حدث إذهب فأنا قد سامحتكم"
رد دييغو مغادراً.

شهر مر كتساقطر الغيث على أرض قاحلة، إستمر الأطباء في أداء واجبهم على أكمل وجه، رغم الظواهر الغريبة التى كانت تعرقل سير عملهم، إنتقل فريق العمل الذي يقوده الطبيب دييغو إلى مقديشو عاصمة دولة الصومال.

تلك المدينة التي تضج بمختلف الحضارات و تتمازج فيها الشعوب بشتى ثقافاتهم و لهجاتهم المتنوعة، توجهوا بعد ببضع أسابيع إلي إحدى القرى التى فتك الوباء بسكانها إلا القليل، على بعد سبعين كيلو متر بعيدا عن العاصمة حيث كانت تتوفر سبل الراحة و السخاء وصولا الي أرض جرداء.

تتوسطها دوحة يقطنها بعض من القبائل غريبي الأطوار، منازلهم مبنية من القش و البعض الآخر خيام من الصوف، كما ترى الآن أمامك الأطفال يلعبون ويركضون بحرية كنسور إكتشفت السماء لأول مرة.

هناك بالقرب من الدوحة منزل زعيم القبيلة الذي يبدو أكبر و أفضل حالاً من باقي المنازل، تكتظ بعض الأشجار على ضفاف الدوحة التي يقصدها أهل القرية في كل الفصول.

أقيم المعسكر الطبي على بعد عشرين متراً من القرية بمساحة خمسين متراً مربعاً، الجوع و قل التغذية و سوءها بين على ملامح ضعافهم و فقراءهم، في حين أنه تسحرك طبيعة المكان و يسد نفسك ما بأهلها من كرب.

إصطحب الفريق معهم مترجماً فهم ليسوا متفقهين في لغة بنارد التي يتحدث بها أهل المنطقة، أن تكون غريبا في أرض لا تنتمي لها إنها حقا لفكرة مليئة بالمخاطرة.

" أخبرني كيف تشعر؟"
كانت تاركو تجري فحصا لأحد الأطفال المرضى.

" يا آنسة، هل تملكين بعض الحلوى؟"
قال الطفل الذي يبلغ السابعة من عمره، كان يعاني من سوء تغذية حاد.

كأن عظامه افتعلت ثورة وأحرقت كتل اللحم التي كان تجعل منه فتى منتفخا صحيح البنية، كان منظرهم يوجع القلب.

" بالطبع سأعطيك الكثير من الحلوى إن حاربت معي هذا المرض الضعيف الذي يحاول منعك من الحصول على السكاكر"

قالت مبتسمة تجاهد بزرع الأمل في فؤاده البريء.

" سيدتي إن الطبيب دييغو يطلب حضورك، فوراً يقول أن الأمر طارئ"
قال أحد العاملين بقلق.

أكملت تاركو الإجراءات الطبية لبقية المرضى في الحجرة الخامسة ثم تحركت و ذاكرتها تكرر لها مشهد تلك الليلة التي تكاد تكون ضرباً من خيال، جسدها يرتعش كلما تذكرت كيف أن الصندوق طار في الهواء كاسراً قانون الجاذبية و كأن شيء ما يحركه.

القرية سكانها لطفاء متعاونون صبورين جداً، حتى أنهم كانوا يطهون الطعام للأطباء و باقي الطاقم و يقدمون لهم الهدايا من حين لآخر، فمنذ مجيئهم و العديد من أهالي القرية تحسن حالهم.

شعرت تاركو بالعطش فذهبت إلي آخر ركن بالمخيم حيث تتواجد قناني المياه، عندما بدأت بصب الماء على الكوب الزجاجي تغير لونه فجأة فأضحى كالدماء.

رمت تاركو الكأس من تلقاء نفسها حتى تحطم و تناثرت قطع الزجاج في الارجاء.

صرخاتها عمت المكان كانت ترتجف و هي تنظر إلي السائل الأحمر الذي يغطي الأرض و جزءاً من ثيابها.

تقدم نحوها أحد العمال و نظر إليها، كان يظنها مجنونة فهو لا يري أي دماء على الأرض كيف لها القولو الزعم بأن المياه صارت دماءاً.
حدق بها ثم قال:

" عليك بأخذ قسط من الراحة،أظنك بدأت تهلوسين"
نهضت تاركو بصعوبة ساندة نفسها على الحائط الذي خلفها، كانت تتبسم لوهلة و تعاود البكاء لبضع لحظات أخر.

" م _م مالذي جرى لي؟ أجزم أنني أحلم، سأذهب لفراشي"
قالت و هي تتجه صوب غرفتها التي تقع بجانب المعمل، حيث دوناتيلو يجري بضع الإختبارات.

نسيت تماماً أمر الطبيب دييغو و أنه قد طلب حضورها، لاتزال أناملها ترتجف و هي تتعرق بشدة، بالكاد وصلت إلي غرفتها.

الباب وحده فتح بصرير ملفت للنظر، فقد تأكدت تاركو من إقفاله قبل خروجها، فهي كانت تخزن بعض العينات المهمة في المبرد المخصص لها داخل غرفتها، و يحال أن تنسى الباب مفتوحاً.

تراجعت للوراء خطوتين فتعثرت بحجر للزينة لم تنتبه له فسقطت و بدأت تزحف، جميع الأثاث داخل الغرفة كان يتراقص و كأنها كانت ترى عرضاً ترفيهيا في إحدى المهرجانات السحرية المبتذلة .

بح صوتها و انعدمت الحروف لم تعد تستطيع نطقها كما يجب، كانت جامدة في مكانها، خدرت أقدامها و السبيل للهرب يكاد يكون مستحيلاً.

بصعوبة صرخت من هول ما رأت، كان كيانا أسود اللون بعينين لولبيتين تتحركان بحركة إهليجية، قرناه أطول من شجرة البان له مخالب أسن من شفرة سيف أعد لمعركة طاحنة، كانت تزحف و كدا الخوف يوقف نبضاتها.

" ساعدوني"
كانت تصيح دون فائدة و كأنها في حيز أخر إذ أنه لم يسمع صياحها أي أحد، كانت تراقب ذلك الكيان الذي يخطو نحوها و هي تحاول إيجاد عصا أو حجر حتى تردعه عنها.

لكن كانت هي في حال ميؤس منها، فجأة سطع نور قوي، صاح ذلك الكيان مصدر صوتا مزعجاً عالياً و كأن أحدهم كان يعذبه بطريقة جنونية تجعل منك شخص غير عاقل، في لحظات بدأ الكيان بالاحتراق.

لم يعد له أثر تحول إلى سحابة سوداء فغبار بلون سواد الليل ثم بعثرته الرياح التي هبت من خلال النافذة.
أخذت تاركو نفسا عميق وكأنها تستنشق الهواء لأول مرة في حياتها.


" لما لم تأتي إلي عندما طلبتك؟"
سمعت صوت الطبيب دييغو الذي كان يحمل كتاباً غريباً به طلاسم غير مفهومة، أغلق كتابه ببطء و أدخله في جيب بنطاله الخلفي.

" س_ س سيدي هل رأيت ما رأيته؟"
توترت و بالكاد تحدثت إليه و الدموع تملأ عينيها كأنها تقول أعيدوني إلي موطني.

" يؤسفني قول هذا لك و لكن أنت مصابة بالمس، جميع من حضر الإجتماع معي في ذلك اليوم أصيب بالمس، تاركو لا تخافي فلن تتعذيب الا لقليل من الوقت"
همس الطبيب دييغو كانت عيناه تبرقان من تحت نظارته و كأنه لا ينوي مساعدتها و يريد الإستمتاع برؤية الخوف في وجهها.

" مس ؟ ما الذي تعني به؟"
مسحت تاركو دموعها و نهضت ممسكة حافة الجدار الأملس.

"ليس عليك معرفة علوم الجهل بها لا يضر"
قال الطبيب ثم رمى إليها قلادة، التقطتها تاركو.
" إرتدي هذا سيقلل من حدة الحوادث التي قد تقع معك "
قال الطبيب ثم رحل إلى الضحية الثانية كما يصفها هو.

شمر عن ساعديه و تبسم بشر كان و كأنه شخص آخر.
بصعوبة أقنعت تاركو نفسها بالاستلقاء على سريرها، وكأن جل ما حدث معها محض كابوس ستستيقظ منه في الصباح الذي لن يشرق الإ بعد أربعة عشرة ساعة.

بدأت بعد الخراف ليت النعاس يزورها و تغط في نوم عميق، بيد أن خيالات تحكم الخناق على عقلها و فكرها يجردها من كل حس بالطمأنينة، عيناها ترويان قصة لروح لا تود الا الخلاص بأي وسيلة.

تمكنت مالينا من الحصول على عنوان ذلك الرجل الذي يبرع في السحر، كانت تفكر في كسب قلب كاينر مهما كلفها الأمر، باتت مشتتة الفكر لا تدرك ماذا تريد.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي